أما أولاً: فلا نسلم وجوبه على الإطلاق وإنما يكون واجباً إذا كان ماؤها متغيراً.
وأما ثانياً: فلأن النزح إنما يجب إذا كانت النجاسة واقعة فيه فينزحه لتذهب النجاسة. فأما إذا كان الماء جديد النبع فهو طاهر لم تتعلق به نجاسة فافترقا.
قالوا: ولأن النجاسة قد اتصلت بالبئر فيجب نزحها كما لو لم ينضب ماؤها.
قلنا: المعنى في الأصل: اتصاله بالنجاسة فتنجس، بخلاف النابع فإنه ليس متصلاً بالنجاسة فلم يفتقر إلى نزح فبطل ما توهموه.
الفرع السادس: في كيفية طهارة البئر بالمكاثرة بالماء لما فيها من الماء النجس.
اعلم أن الكلام في التطهير بالمكاثرة مترتب على الكلام في التنجيس بالمجاورة، وقبل الخوض فيما نريده من طهارة الأرض بالمكاثرة نذكر مذاهب العلماء في التنجيس بالمجاورة، ولهم في ذلك مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا نجاسة بالمجاورة أصلاً، فإذا وقعت نجاسة في ماء راكد أو جارٍ، فإنه لا ينجس إلا عين النجاسة، ولا تنجس ما لاصقها من الماء وجاورها إلا أن يكون متغيراً بها، وهذا هو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن أبي يوسف والشافعي في أحد قوليه.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه )). وهذا عام في جميع المواضع كلها.
المذهب الثاني: أنه ينجس موضع النجاسة والمجاور الأول والمجاور الثاني، وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله، والإمام الهادي وأولاده، ومحكي عن السيد أبي العباس.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فإذا كان الشك في النجاسة يُشرع في غسلات ثلاث، فهكذا يكون في النجاسات إذا كانت متحققة فلا يطهر المحل إلا بثلاثة أمواء: فالأول: نجس لمجاورته عين النجاسة. والثاني: نجس لمجاورته الأول. والثالث: تكون به الطهارة. فعلى رأي هؤلاء، فالمتنجس ليس إلا ماءين والثالث طاهر لا تعرف نجاسة في طهارته.

المذهب الثالث: أنه لا ينجس إلا عين النجاسة وما جاورها فقط، وهذا هو رأي الإمام أبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة ليس لها قوة إلا على ما جاورها دون ما بَعُدَ عنها ما لم تغيره، ومع بعدها عنه يكون على أصل الطهارة إلا أن يتغير بها، فمن أجل ذلك قلنا: إنه لا ينجس إلا ما جاورها لاتصاله بها، فهذا تقرير المذاهب بأدلتها الشرعية.
والمختار: ما عول عليه الإمام الناصر ومن تابعه من علماء الأمة، وهو أنه لا ينجس من الماء إلا نفس النجاسة دون ما جاورها إلا أن يكون متغيراً بها، لما ذكرناه عنه ونزيد ههنا، وهو (( أن النبيً، أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء)) فلو كان كما زعموه من نجاسة المجاور الأول والثاني، لكان قد أمر بزيادة في النجاسة ومضاعفتها، ولأن الماء باق على أصل التطهير فلا ينجسه إلا ما غيره.
الانتصار على تقرير ما اخترناه بالجواب عن ما يخالفه ممن قال بمجاورين أو بمجاور واحد.
قالوا: إنما قضينا بنجاسة مجاورين لما رويناه من الخبر في حق من قام من نومه، فالأمر بغسلها ثلاثاً يدل على نجاسة مجاورين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الخبر ما يدل على نجاسة مجاور أول ولا مجاور ثانٍ، وإنما ظاهره بالغسل ثلاث مرات، وليس فيه تعرض لما قلتموه.
وأما ثانياً: فلأنه إنما أمر بغسله ثلاث مرات على جهة التأكيد والاستحباب كما أمر بالغسل من ولوغ الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب على رأي المؤيد بالله، على جهة التأكيد والاستحباب دون الوجوب فهكذا هاهنا، وإلا فالمرة الواحدة كافية كما كان في الصب على بول الأعرابي من غير فرق.
قالوا: إنما أوجبنا نجاسة المجاور الأول من جهة أنه لا قوة لعين النجاسة إلا على ما جاورها دون غيره، فلهذا كان المجاور الأول نجساً دون غيره.
قلنا: وعنه جوابان أيضاً:

أما أولاً: فلأنه لا قوة للنجاسة على مجاور واحد، ولا على مجاور ثانٍ من غير تغيير الماء إلا إذا غيرته، فإن الشرع قد دل على غلبتها له مع التغيير، فأما من غير تغيير فلا.
وأما ثانياً: فلأن ما أبطلتم به نجاسة المجاور الثاني على من قال به فهو بعينه مبطل لنجاسة المجاور الأول من غير تفرقة بينهما، ولا مخلص من هذا إلا القول ببطلان المجاورة كلها، والبقاء على حكم التطهير في الماء كله إلا أن يكون متغيراً، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنرجع إلى بيان كيفية التطهير بالمكاثرة.
فنقول: أما على رأي السيد أبي طالب و أبي حنيفة، فإذا كان الواقع في البئر هو عين النجاسة وما جاورها أو اختلط المجاور الأول والثاني، فإنه إذا ورد عليه من الماء الطاهر ما هو أكثر منه في المقدار وجب أن يكون طاهراً.
ووجهه: هو أن التطهير إنما يقع بالمكاثرة وهي حاصلة هاهنا، ولأنه ماء طاهر ورد على ماء نجس فكان مطهراً له كالغسالة الثانية على رأي الجميع ممن اعتبر المجاورة في التنجيس.
وأما على طريقة السيد المؤيد بالله ومن وافقه، وهو أن المجاور الأول إذا كان ينجس بملاقاة العين، والثاني ينجس أيضاً بملاقاة المجاور الأول، فإذا ورد عليه من الماء الطاهر ضعفان أو أكثر فإنه يعود طاهراً بالمكاثرة له والمغالبة.
والمثال الكاشف عن حقيقة المسألة، وهو أنه لو كان هاهنا رطل من الماء وقعت فيه قطرة من البول أو الخمر، فعلى قول أبي طالب إذا ورد عليه رطلان من الماء كان طاهراً من غير زيادة؛ لأن هذا ماء نجس لمجاورة النجاسة، ولا ينجس عنده إلا المجاور الأول، فإذا كوثِرَ بِمَا يكون غالباً أعاده طاهراً كالغُسالة الثانية.

وعلى قول السيد المؤيد بالله بنجاسة المجاور الأول والمجاور الثاني، إذا كان هنا رطل فيه قطرة بول أو خمر فإنه ينجس بمجاورة العين، فإذا زِيْدَ عليه رطلان فهما نجسان بمجاورة ما جاور النجاسة، فإذا أريد تطهيرهما فلا بد من ستة أرطال لتكون مكاثرة للثلاثة الأولى، فتصير ثمانية تفريعاً على قوله بنجاسة المجاورين. وهذا المثال هو وارد على جهة التقدير دون التحقيق فإن الأرطال الثلاثة والستة والعشرة والعشرين وما زاد عليها قليلة تنجس بوقوع النجاسة فيها، وإن لم تكن متغيرة على رأي الأكثر من أئمة العترة كما مر تقريره، ولكنهم أرادوا بيان حقيقة المكاثرة على جهة التقدير بما ذكرناه.
وأما على طريقة الناصر: وهو الذي اخترناه، وهو أن الماء لا ينجس بالمجاورة إلا أن يكون متغيراً، فعلى هذا لا تعقل حقيقة التطهير بالمغالبة إلا إذا كانت النجاسة مغيرة للماء، فإذا حصلت المكاثرة فإنها تزيل التغير فيكون طاهراً، فأما إذا كانت النجاسة غير مغيرة للماء كأن تقع في رطل قطرة من بول أو خمر ولم تغيره، فعلى رأي من نجس القليل من الماء من غير تغير يطهر تقديراً إذا ورد عليه من الماء الطاهر ما هو أكثر منه، ويطهر تحقيقاً إذا كان الوارد عليه قلتان على رأي أصحابهما، أو كان كثيراً على رأي من لا يعتبر بهما، فكله كثير يكون مطهراً على جهة التحقيق، فأما ما دون ذلك فهو قليل الورود مثالاً على جهة التقدير لا غير، وأما على رأي من لا ينجس الماء إذا كان قليلاً من غير تغيُّر، فالقطرة لا تضر الرطل من الماء من خمر أو بول وهو طاهر كما كان فلا يحتاج فيه إلى مكاثرة ولا مغالبة كما مر تقريره في الماء القليل عند اتصال النجاسة به.
الفرع السابع: في قدر المكاثرة.

اعلم: أن المكاثرة على الرأي الذي اخترناه من أن الماء لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة قليلاً كان أو كثيراً فلا يتصور التطهير بالمكاثرة إلا فيما كان مُتَغَيِّراً بالنجاسة، وأما إذا كان غير مُتَغَيِّرٍ بها فإنها لا تنجسه بحال، وقد مر بيانه. وفي قدر المكاثرة مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بأن يصب على النجاسة سبعة أضعافها من الماء، وهذا هو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه.
والحجة على ذلك: هو أنها نجاسة أريد تطهيرها فاعتبر فيها أضعاف سبعة، دليله: ولوغ الكلب. وقد قال ً: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب )).
المذهب الثاني: أن المكاثرة بأن يصب على النجاسة ما يغمرها من الماء ويستهلكها، مما يكون مُذْهِباً لجميع أوصافها من طعم أو ريح أو لون.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود إنما هو إزالة النجاسة وإذهاب عينها وهذا حاصل بما ذكرناه، وهذا هو رأي بعض أئمة العترة وهو القول الجديد للشافعي، وهو المختار؛ لأن أصحابنا إنما ذكروا الأرطال الثمانية وغيرها من المقدرات على جهة الفرض والكشف للإبانة لا على جهة الشرط لتحقيق العدد.
والحجة على ذلك: هو أن هذه الأمور العددية، إنما تؤخذ من جهة نص الشارع وتوقيفاته ولا يجوز أخذها بالمقاييس؛ لأن القياس لا مدخل له فيها؛ لأنها معلومة بأمر غيبي من جهة اللّه أو من جهة رسوله ً، ولم يكن من جهة اللّه تعالى ولا من جهة رسوله ً فيها نص بأمر مقدر، فلهذا لم يكن عليها تعويل وإنما التعويل على إذهاب النجاسة من غير تقدير.
الانتصار لهذا المقالة: بإبطال ما سواها.
قالوا: روي عن الرسول ً في طهارة ولوغ الكلب سبع مرات.

قلنا: هذه المقالة نذكرها في النوع الثاني ونبين كيفية الطهارة من ولوغ الكلب، ونتكلم على ما قالوه من إبطال هذا العدد، وأنه وارد على جهة الاستحباب دون الوجوب، وعلى هذا إذا بال رجلان على أرض وأريد تطهيرها فإنه يكون بالمكاثرة على رأي أئمة العترة، وهو المختار، وحكي عن الشافعي أنه يصب عليه ذنوبان لكل بول رجل ذنوب، والحق ما قلناه؛ لأن ما هذا حاله يؤدي إلى التناقض بأن يطهر البول الكثير من الواحد بذنوب واحد، وما دون ذلك من الاثنين بذنوبين، فلهذا كان التعويل على المكاثرة على قدر البول من واحد أو من اثنين، فهذا هو الكلام في كيفية تطهير الآبار.
مسألة: أولاد ما لا يؤكل لحمه من بني آدم وغيرهم من سائر الحيوانات ما خلا الكلب والخنزير وما تولَّد منهما، فإنها تكون طاهرة بعد الجفاف من الولادة، عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: دليل عام نقرره، وحاصله هو: أن اللّه تعالى من لطفه وعظيم رحمته للخلق، جعل الأعيان التي أوجب على الخلق اجتنابها ونهاهم عن التلبس بها، أموراً محصورة مقدرة قد أوضحها في كتابه وعلى لسان رسوله ً، وما عداها من جميع الأعيان فإنها طاهرة، وعند هذا نعلم أن الأعيان النجسة منحصرة، وما عداها أمور طاهرة لا تتناهى، وهذا الدليل عام يسترسل على جميع الصور التي لم تدل عليها دلالة معينة إذا التبس الأمر فيها. وأولاد ما لا يؤكل لحمه تعرف طهارتها بما ذكرناه من هذه الدلالة، وإذا كان محكوماً عليها بالطهارة لما ذكرناه فبأي شيء تطهر؟
فالذي ذكره الإمام المنصور بالله، أن طهارتها عقيب خروجها من بطون أمهاتها هو بالجفاف، وهذا جيد لا عثار عليه وهو من جملة أنظاره التي تفرد بها وأسرار فكرته التي لم يُزاحم عليها.

والحجة على ذلك: هو أنه لا سبب هنالك يشار إليه بالتطهير سوى ما ذكره، فيجب أن يكون هو السبب في طهارتها، وإنما قلنا: أنه لا سبب هناك يعقل في الطهارات إلا ما ذكره، فلأن الأمور التي يعقل أن تكون سبباً: إما الغسل ولا قائل به، وإما المسح وهو إنما يكون في الأشياء الصقيلة ولا قائل به في غيرها، فإذا بطل هذان الأمران لما قررناه لم يبق إلا الجفاف بعد الولادة، وإذا كان الأمر كما قلناه في طهارتها بالجفاف، فما بعد جفافها من مباشرتها بالرطوبات يكون طاهراً لا محالة، إلا أن يعرض له عارض مما يوجب نجاستها فتكون نجسة، وقبل الجفاف تكون تلك البِلَّة التي حصلت من بطون أمهاتها نجسة لا محالة من البِلَّة والدم، وما يكون من آثار الرحم؛ لأنها مواضع الحدث، فما يخرج منها فهو نجس وما كان متصلاً به، فأما أجواف ما يؤكل لحمه فسنذكر كيفية تطهيره في الأطعمة عند ذكر الجَلاَّلَةِ بمعونة اللّه تعالى. وهذا ما أردنا ذكره من النوع الأول في كيفية تطهير ما لا يقبل الغسل وما تعذر غسله للحرج والمشقة، فأما ما لا يغسل فليس فيه إلا مسألة واحدة نذكرها هاهنا.
مسألة: ذهب علماء العترة إلى أن الميتة من جميع الحيوانات، إذا وقعت في شيء جامد كالسمن والعسل وغير ذلك من الأشياء الجامدة فإنه يُقوّرَ ما حولها، وإن كانت مائعة أريقت كالزيت والسليط وغير ذلك من المائعات. وهذا هو المحكي عن فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا وقع الحيوان في السمن أريق المائع وَقُوِّر ما حولي الجامد))(1).
__________
(1) وفي هذا ما روي عن ميمونة أن رسول اللّه ً سئل عن فأرة وقعت في السمن. فقال: ((ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)). أخرجه البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول اللّه ً، قال: ((إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه)). أخرجه أبو داود. ا.هـ. من (جواهر الأخبار).

وإن غسل الجامد جاز ذلك لأنه مما يمكن غسله لجموده، فأما المائع فلا سبيل إلى غسله لأجل ميعانه فلأجل هذا يراق.
وحكي عن الإمام المنصور بالله: جواز غسل بعض المائعات، وهذا نحو السليط والزيت وما كان من طبعه أن يطفو على ظهر الماء، فأما ما كان يرسب فلا يمكن غسله بحال. وكيفية غسله أن يجعل الماء في إجانة أو طشت ثم يصب الزيت أو السليط على الماء فيعلوان جميعاً على الماء، يفعل ذلك مرة أو مرتين أو مرات ثلاثاً على حد الاختلاف في إذهاب النجاسة كما سنوضحه، فإن كان ما ينجس به له رائحة وزال بما ذكرناه من هذه الغسلات فإنه يطهر، وإن لم تكن للنجاسة رائحة أو غير ذلك من الصفات فإنه يطهر أيضاً.
والحجة على ذلك: هو أن الماء جعل مطهراً للنجاسات كلها مما له أثر من النجاسات ومما ليس له أثر، فإذا أمكن التوصل إلى غسله بما ذكرناه جاز ذلك وطهر كسائر الأشياء النجسة إذا غسلت بالماء. وهكذا الحال فيما يرسب في الماء، فإنه يمكن غسله بالماء بأن يطفو(1) فوقه حتى يطهر. وأما ما كان يُماع كاللبن والخل فإنه إذا تنجس أريق؛ إذ لا سبيل إلى طهارته بالماء، لأنه يخالطه ويمازجه ولا يمكن انفصاله عنه فيطهر به.
مسألة: قد ذكرنا فيما سلف أن أبوال ما لا يؤكل لحمه نجسة من الآدميين وغيرهم، وأبوال الصبيان أيضاً كلها نجسة ذكوراً كانوا أوإناثاً عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، خلافاً لداود في بول الصبي إذا لم يطعم، وأقمنا البرهان على ذلك فأغنى عن الإعادة. وإذا تقرر ما قلناه، فلا خلاف بيننا وبين الشافعي في نجاسة بول الصبي والصبية، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولكن الخلاف إنما يقع في كيفية التطهير منهما، فالذي عليه أئمة العترة أنهما مستويان في وجوب الغسل منهما ولا يختلفان في ذلك، وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) في الأصل: يصفو.

والحجة على ذلك: ما قدمناه من حديث عمار، وهو قوله عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط)). ولم يفصل بين صغير وكبير، ولا فصل في كيفية الغسل، وفي ذلك دلالة على استوائهما في الغسل والإزالة.
ومن وجه آخر: قياسي، وهو أن كل ما وجب غسله من الأنثى وجب غسله من الذكر كالعذرة، ولأنه خارج من سبيلي بني آدم فلا يختلف الحال فيه بين الذكر والأنثى كالشيخ والشيخة.
وعن الشافعي: أنه قال في بول الصبي الذي لم يطعم الطعام، أنه يجزئ في بوله النضح، وهو: أن يبل موضعه بالماء وإن لم ينزل عنه، وفي بول الصبية وجهان:
أحدهما: أنه مثل الصبي في النضح.
وثانيهما: أنه يغسل بولها غسلاً كسائر الأبوال.
والحجة له على ما قاله: هو أن الحسن بن علي بال على ثوب النبي ً، فرشه بالماء، فقيل له: ألا تغسل ثوبك؟ فقال: (( إنما يغسل بول الصبية ويرش على بول الغلام )).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من وجوب غسله دون نضحه.
والحجة على ذلك: ما ذكروه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن الصبي كالصبية وأنهما لم يفترقا إلا في الذكورة والأنوثة، وهذا لا مدخل له في التفرقة، فنركب القياس ونقول: صغيران فلا يختلفان في غسل أبوالهما كما قاله الشافعي في إيجاب نية الوضوء بالرد إلى التيمم: طهارتان فكيف يفترقان!. ونقول أيضاً: بول آدمي ذكر فلا يختلف حاله في كيفية الغسل كالكبير.
الانتصار: يكون بتزييف ما أوردوه حجة.
قالوا: حديث أمير المؤمنين دال على التفرقة بينهما فلا وجه لإنكاره.

قلنا: إنا لم ننكر ما رواه أمير المؤمنين بل حديثه يوازي ظاهر آية من كتاب اللّه في الصحة والثبات، ولكنا نقول ليس في ظاهر الحديث ما يدل على كيفية الغسل ولكنه قال: يرش على بول الغلام، والرش هو خفيف الغسل، وأيضاً فإنا لا نمنع من أنهما يغسلان جميعاً، ويشتركان في حقيقة الغسل، وإن كان غسل أحدهما أخف من غسل الآخر، ولأن الرش هو صب الماء على الموضع المرشوش وهذا بعينه هو خفيف الغسل.
قالوا: روي عن النبي ً أنه قال: (( يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام )). فصرح بالنضح وليس غسلاً، وفي هذا ما نريده من التفرقة بينهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالحديث المشهور إنما ورد بالرش، فأما هذا الحديث بالنضح فعلى ناقله التصحيح.
وأما ثانياً: فالنضح إذا كثر فهو مسيل الماء عنه وليس في ظاهر الحديث ما يشعر بأن الماء لم يسل عنه، فلعله قد سال لما كثر نضحه، وفيه ما نريده من سيلان الماء عنه، وذلك أقل ما يجري في غسل النجاسة.
قالوا: الغلام أمارة بلوغه بأمر طاهر وهو المني، والجارية أمارة بلوغها بشيء نجس وهو الحيض، فلأجل ذلك اختلفا في تطهير بولهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن رد البول إلى البول أولى من رده إلى الحيض والمني لما في ذلك من البعد والتفاوت.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: أليس قد اتفق الحيض والمني في كونهما أمارة للبلوغ مع اختلافهما في الحقائق والأحكام؟ فلا بد من بلى، فهكذا نقول: يجب اتفاق بول الجارية وبول الغلام في كيفية الغسل، وإن اختلفا فيما وراء ذلك، فبطل ما توهموه.

58 / 279
ع
En
A+
A-