المذهب الأول: أنه يجب نزحه وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، كزيد بن علي والناصر والهادي، والمنصور بالله، والمؤيد بالله، والسيدين: أبي العباس وأبي طالب، وهو محكي عن أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الماء إذا كان قليلاً في البئر، فالنجاسة إذا وقعت عليه فإنه يصير نجساً لما كان قليلاً، ومن مذهب هؤلاء أن القليل من الماء يكون نجساً وإن لم يكن متغيراً كما مر بيانه في المياه، فإذا صار نجساً وجب نزحه لنجاسته كالماء إذا ظهرت عليه النجاسة وغيرت أوصافه، فإذا صار كله نجساً فإن البئر لا تطهر إلا بنزحه، فإن لم يكن الماء غالباً للنازح فإنه يجب النزول إلى قرار البئر لإحصائه لما كان نجساً كله، وإن غلب الماء النازح وجب نزحه حتى يكون الماء غالباً، فصار النزح واجباً عند غلبة الماء النازح، فلتحصل غلبة الظن بإزالة ما كان قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، وعند عدم الغلبة أيضاً؛ لأنه صار نجساً كله لقلته، والنزح كما هو واجب هاهنا فهو في الأول أوجب من جهة أن نجاسة البئر إذا لم تظهر على مائها النجاسة مختلف فيه، وإذا ظهرت عليه فهو مجمع على نجاسته، إذ لا قائل بخلاف ذلك. واعتبار كون الماء غالباً للنازح أو غير غالب هاهنا له وجه معقول؛ لأنا فرضنا هاهنا أن الماء قليل فهو نجس، فإن لم يغلب الماء فلابد من إزالته كله؛ لأنه نجس ولا مانع من زواله، وإن غلب فقد طهر ماء البئر بتجدد الماء الطاهر الذي غلب، فلهذا لم يكن بد من اعتبار كون الماء غالباً أو غير غالب؛ إذ لا معيار هاهنا للتطهير والتنجيس إلا النزح وعدمه، بخلاف ما ظهرت عليه آثار النجاسة فإن معيار التطهير والتنجيس فيه هو ظهور الأوصاف وعدمها، من غير حاجة إلى معرفة كون الماء غالباً أو غير غالب، فإذا حصل بالنزح معرفة ذهاب الأوصاف أو ثبوتها كان كافياً، ولا حاجة إلى غيره فافترقا. وكما وجب ما ذكرناه في الماء القليل الذي عُلِمت قلته فهكذا الحال فيما لا يُعلم حاله
في القلة والكثرة؛ لأن القلة هي الأصل والكثرة لا بد فيها من دليل منفصل، ولأن إلحاق ما التبس حاله بحكم القليل، فيه نوع من الاحتياط، وهو الحكم بنجاسته والامتناع منه، فلهذا جعلوا حكمه حكم القليل.
المذهب الثاني: أنه طاهر ولا يجب نزحه، وهذا هو المحكي عن الإمام القاسم بن إبراهيم، وهو قول مالك.
والحجة على ذلك: ما حكيناه من ظواهر الأخبار الواردة في المياه كحديث أبي سعيد الخدري بقوله عليه الصلاة السلام: (( خلق الماء طهوراً )) وحديث ابن عباس بقوله عليه الصلاة السلام: (( الماء لا يخبث )). وغير ذلك من الأخبار الدالة على أن الماء لا ينجس إلا بأن يكون متغيراً بالنجاسة. وروى محمد بن منصور [المرادي] في جامعه(1) قال: حضرت القاسم بن إبراهيم وكان يستسقى له من بئر كان يتوضأ منها، فأصابوا فيها حمامة ميتة. فأُعلم بذلك القاسم فقال لغلمانه: انظروا هل تغير منها طعم أو ريح؟ فنظروا فلم يروا تغيراً فتوضأ منها ولم ينزح منها شيئاً.
والمختار: ما عول عليه القاسم بن إبراهيم، وهو متفرع على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إلا أن تكون مغيرةً له.
والحجة على ذلك: ما أسلفناه من قبل من الأحاديث، فإنها دالة على أن الماء لا يكون نجساً إلى بأن تغيره النجاسة، فإذا كان ماء البئر قليلاً أو لا يعلم حاله في القلة والكثرة ولم يكن متغيراً بوقوع النجاسة عليه فإنه يكون طاهراً لا محالة إذ لا وجه يقتضي نجاسته، فإذا كان طاهراً فلا فائدة في نزح البئر؛ لأن النزح إنما يكون لتطهير الماء بزوال ما ينجس من الماء بالتغير، فإذا كان لا تظهر عليه نجاسة فلا فائدة عند ذلك في نزحه، فلا جرم قضينا بطهارته وبطلان نزحه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوا عليه.
__________
(1) مجموع في الحديث والفقه.
قالوا: قد أسلفنا في باب المياه أن الماء إذا كان قليلاً فإنه ينجس بوقوع النجاسة عليه وإن لم يكن متغيراً، وماء البئر منه عند قلته فيجب القضاء بكونه نجساً وإن لم يتغير.
قلنا: وقد تكلمنا على ما ذكرتموه في باب المياه، وقررنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أو كثيراً، وإليه تشير ظواهر الأخبار، فأغنى عن التكرير والإعادة.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فإنك تنزحها حتى يغلبك الماء.
قلنا: هذا محمول على أن الماء قد تغير بوقوع الحيوان فيه، وهو الغالب من حال أمواء الآبار وليس كلامنا فيما ظهرت عليه النجاسة فإنه محل اتفاق، ولكن الخلاف والنزاع فيما لم تظهر عليه نجاسة فإنه لا فائدة في النزح ولا جدوى، وأيضاً فإنا نتأول أمره بالنزح على أنه قد بقي من شعر الحيوان المتمعط وجلده المتمزق على ظهر الماء من غير أن يكون مغيراً له، فلهذا أمر بنزحه لإزالته عن البئر وتنزهاً عن عفونته لا أنه واجب، فإن الوجوب إنما يكون عند نجاسة الماء، وإنما كان ذلك على جهة الاستحباب والتطهير.
قالوا: روي عن ابن الزبير وابن عباس (رضي اللّه عنهما) أن رجلاً حبشياً وقع في بئر زمزم فأمرا بنزح مائها، فجعل الماء لا ينقطع فنظرا فإذا هي عين تجري من قبل الحجر الأسود.
قلنا: وكذلك نقول، فإنهما إنما أمرا بالنزح وأوجباه لما تغير الماء بوقوع الآدمي عليه، وهذا هو الغالب فإنه إذا وقع [وظل] فيها حتى تقطعت أوصاله بالماء، فإنه يؤثر في تنجيس الماء فلهذا أمرا بنزحه للتطهير مما ظهر عليه من آثار الميتة، فلما تحققا زوال ما ظهر على الماء وأن الماء لا يمكن إزالته بالكلية فقالا: حسبكم، يريدان من النزح، فإن فيه كفاية لما زالت العفونة عن الماء بما قد استوعبوا من نزح مائها.
قالوا: بم تنكرون على من يقول: النزح تعبد لا يعقل معناه من جهة الشرع كسائر التعبدات التي لا تعقل معانيها، فلهذا وجب سواء كان الماء متغيراً أو غير متغير؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأصل فيما ورد عن اللّه تعالى أو عن الرسول أن تكون معانيه معقولة، ولهذا ورد التعبد بالقياس في ألفاظهما لما كانت معانيهما معقولة مفهومة المقاصد والأغراض.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن ما ذكرتموه من النزح وارد على جهة التعبد الذي لا يعقل معناه، فليت شعري ماهو الضابط لوجوبه؟ هل كل واقع في البئر؟ فأوجبوه في الحجر والعود، أو كل حيوان؟ فأوجبوه في الزنبور والذبابة والنحلة والخنفساة أو يكون الضابط للنزح: هو ما كان مغيراً للماء فيوجب النزح لإزالة ما لحقه من التغير، فهذا جيد لا عثار عليه وعند هذا يكون معقول المعنى، فلا وجه لقولكم: إنه وارد على جهة التعبد الذي لا يعقل معناه. وعلى هذا يفترق الحال بين كونه مغيراً وغير مغير، فإن كان مغيراً وجب النزح، وإن كان غير مغير فلا فائدة في إيجاب النزح، وفي ذلك صحة ما نقوله من أن الماء إذا كان قليلاً لم ينجس ولا يجب نزحه إذا لم يتغير.
الفرع الرابع: في حكم ماء البئر إذا لم تكن النجاسة ظاهرة عليه وكان كثيراً، فهل يجب الحكم بنجاسة ماء البئر إذا كان على هذه الصفة ويجب نزحه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون طاهراً ولا يجب نزحه، وهذا هو رأي الإمام القاسم، والناصر، والهادي، والمنصور بالله، وغيرهم من علماء العترة، وهو الأقوى على رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أن الماء إذا كان كثيراً فلا يفترق الحال بين ماء البئر وغيرها من سائر الأمواء من البرك والمدود(1) في أنه لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه، وإليه تشير ظواهر الأحاديث التي رويناها.
__________
(1) المد: السيل. وارتفاع النهار... إلخ. ا.هـ. قاموس.
وهل ينجس المجاور أو لا ينجس؛ وإذا قلنا بنجاسة المجاورة فهل ينجس المجاور الأول والثاني، أو لا يكون [نجساً] إلا المجاور الأول؟ فيه تردد ونزاع بين العلماء وقد قدمناه في باب [المياه]، وقدمنا المختار في ذلك فأغنى عن الإعادة.
المذهب الثاني: أن الماء وإن كان كثيراً في الآبار، فإنه يحكم بنجاسته ويجب نزحه، وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن أبي حنيفة، وحَصَّلَهُ بعض فقهاء المؤيد بالله على مذهبه.
والحجة على ذلك: هو أن ماء الآبار مخالف لغيرها مع الكثرة، والأدلة التي دلت على وجوب النزح من جهة الصحابة والتابعين لم تفصل بين أن يكون متغيراً بالنجاسة أو غير متغير، فإنه ينجس جميعه ويجب نزحه وإن لم تظهر عليه النجاسة، بأحد أمور ثلاثة:
أحدها: أن يكون النجس الواقع عليه مائعاً.
وثانيها: أن يكون جامداً خلا أنه تفسخ فيه.
وثالثها: أن يكون جامداً إلا أنه ثقيل يبلغ إلى أسفل البئر كالإنسان ونحوه.
فإن لم يوجد شيء من هذه الأمور الثلاثة وجب أن ينزح شيء من الماء على قدر عظم النجاسة وخفتها، فإن كانت فأرة أو عصفوراً أو ما أشبه ذلك مالم يبلغ حد الحمامة والدجاجة، فإنه ينزح منها عشرون دلواً، فإن بلغ حد الحمامة والدجاجة فإنه ينزح منها أربعون .. خمسون .. ستون دلواً، وكذلك ما جاوز قليلاً ما لم يبلغ حد الجدي والإنسان، فإن بلغ حد الجدي والإنسان، نزح جميع ماء البئر. ومن أوجب النزح فإنه يوجب نجاسة المجاور الأول دون الثاني أو هما جميعاً، ومن لا يوجب النزح، منهم من أوجب تنجيس المجاور ومنهم من منع ذلك. وقد فصلنا حقيقة الكلام في المجاورة فيما مر.
والمختار: ما عول عليه الجماهير من علماء العترة، من أن الماء إذا كان كثيراً فإنه محكوم عليه بالطهارة وأنه غير مفتقر إلى النزح.
والحجة على ذلك: أما الحكم بطهارته، فلأن تعويل الشرع في ذلك إنما هو على عدم تغيره، وما هذا حاله فليس متغيراً؛ لأن كلامنا إنما هو إذا لم يكن متغيراً بالنجاسة، فلأجل هذا حكمنا عليه بكونه طاهراً، وأما النزح فلأن تعويل الشرع عليه إنما هو لتطهير البئر، ولا شك أن الماء إذا كان غير متغير، فهو طاهر. فإذاً لا حاجة إلى النزح، وهذا الذي اخترناه، هو الذي يأتي على أصول المؤيد بالله ويقتضيه مذهبه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الظاهر من عمل الصحابة وعلماء التابعين، إيجاب النزح كما حكيناه عن أمير المؤمنين، وابن عمر، وابن الزبير، وليس وجوبه إلا لأجل نجاسة ماء البئر وإن لم يكن متغيراً، وفي هذا دلالة على صحة ما نقول من الأمرين جميعاً، نجاسة الماء وإيجاب النزح.
قلنا: ليس من جهة الصحابة والتابعين تصريح بأنهم نزحوا من غير تغير فيكون حجة لكم، وإنما الظاهر أنهم لا ينزحون إلا لأجل طهارة البئر والماء، وهذا إنما يكون مع نجاسة الماء فيكون النزح مطهراً له، وأقوى أمارة في ذلك أنهم لا محالة يقرع مسامعهم ما ورد من الأحاديث النبوية، على أن الماء لا ينجس إلا مع التغير. فلأجل هذا قضينا بأن إيجابهم النزح إذا كان هناك تغير، فأما إذا كان لا تغير هناك فلا وجه للنزح فبطل ما توهموه.
قالوا: تلك الأمور الثلاثة توجب نجاسة الماء من غير تغير، فلأجل هذا حكمنا بنجاسته وإن لم يكن متغيراً فأوجبنا النزح لذلك.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحكم على الماء بكونه نجساً مع كثرته وأن النجاسة لم تكن ظاهرة عليه تحكم لا مستند له ولا دلالة عليه، والشرع إنما دل على نجاسة الماء إما بتغيره بالنجاسة إذا كان كثيراً أو قليلاً، أو بوقوع النجاسة فيه مع قلته وإن لم تظهر عليه، فأما إذا كان كثيراً ولم تظهر النجاسة عليه فلا دلالة من جهة الشرع على نجاسته.
وأما ثانياً: فلأنه إذا جاز الحكم على ماء البئر بالنجاسة وإن لم تكن ظاهرةً عليه، جاز الحكم على الماء في غير البئر، فيلزم في البحر إذا حصلت فيه أحد هذه الأمور الثلاثة، أن يكون نجساً ولا قائل به. وهكذا القول في البركة العظيمة، لأنكم إذا حكمتم بنجاسة الآبار من غير تغير في مائها لزم في البحر مثله من غير تفرقة بينهما.
قالوا: كيف نحكم على ماء البئر بالطهارة مع وقوع أحد هذه الأمور الثلاثة فيها وكل واحد منها مؤذن بالاختلاط والامتزاج؟
قلنا: ليس التعجب من هذا، إنما التعجب من الحكم عليه بالنجاسة من غير أمارة، لأن الأمارة التي أشار إليها الشرع إنما هي(1) التغير بالنجاسة، وها هنا لا تغير، أو يكون الماء قليلاً فلا يقوى على حمل النجاسة كما قال به أكثر العلماء، فأما الحكم على النجاسة من غير هذين الأمرين فلا وجه له.
قالوا: فإن لم يوجد واحد من هذه الأشياء الثلاثة وجب أن ينزح شيء من الماء على قدر عظم النجاسة وخفتها، فإن كانت فأرة أو عصفوراً أو ما أشبه ذلك إلى آخر ما ذكروه من تقديرات الحيوانات الواقعة، كما قررناه عنهم في الاحتجاج لهم.
قلنا: عما ذكروه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه مبني على وجوب النزح فيما لم يكن متغيراً بالنجاسة، وهذا قد أفسدناه من قبل.
__________
(1) في الأصل: إنما هو.
وأما ثانياً: فلأن هذه التقديرات في الدلاء المنزوحة من العشرين والأربعين والخمسين والستين دلواً، ليس يخلو الحال فيها، إما أن توجبوها مع القول بنجاسة الماء، أو مع القول بطهارته، أو مع القول بنجاسة بعضه دون بعض، فإن كان مع القول بنجاسة الماء كله فلا وجه له؛ لأن نجاسة الماء كله إنما تكون مع تلك الأمور الثلاثة التي ذكرتموها وليس هذا منها، وإما أن يكون مع القول بطهارة الماء كله فهو فاسد أيضاً، لأن الماء إذا كان طاهراً فلا حاجة إلى إيجاب النزح منه؛ لأن النزح إنما يجب تطهيراً للماء فإذا كان طاهراً فلا حاجة إلى التطهير، وإما أن يكون مع القول بأن بعضه طاهر دون بعض فهذا الحكم لا أصل له؛ لأنه ماء واحد، فلا وجه لكون بعضه نجساً دون بعض مع ذهاب التغير عنه.
وأما ثالثاً: فلأنا لا نرى أكيس من دلوكم هذا، حيث ميز الطاهر عن النجس، فأزال النجس وترك الطاهر، مع أنه ماء واحد في موضع واحد، ثم نقول: معاشر فقهاء الحنفية، أخبرونا عن هذا التقديرات من الدلاء بالعشرين والخمسين والأربعين إلى غير ذلك من العدديات التي اقترحتموها، هل كانت بنص من اللّه تعالى أو من جهة رسوله؟ فأظهروها حتى نساعدكم عليها، فلا حاجة بنا إلى مخالفة أمر اللّه تعالى وأمر رسوله، وإن كانت بنظرٍ في أمارات شرعية فأوضحوا تلك الأمارات لننظر فيها، فإن كانت صحيحة اتبعناها، وإن كانت فاسدة أبطلناها ولم يكن عليها اعتماد، وإن كان ذلك على حسب هذه الحيوانات الواقعة في البئر فهذا فاسد أيضاً، فإنكم قدرتم في الفأرة والعصفورة عشرين دلواً، والفأرة أكبر من العصفور وهما في النزح على سواء، ثم قدرتم في الحمامة والدجاجة خمسين أو ستين، وهما مختلفان في الكبر والحجم. ثم إنكم سويتم بين الجدي والإنسان وأحدهما مخالف للآخر في الكبر والصغر، ثم قلتم إنه ينزح معهما ماء البئر كله لكونه صار نجساً بهما من دون تقدير في النزح وهما متقاربان في القدر، ثم نقول: قد أوجبتم النزح بالدلاء واحتكمتم هذا الاحتكام من غير أمارة ولا دلالة شرعية، فأخبرونا عن مقدار هذا الدلو، فإن الدلاء في أنفسها متفاوته وبعضها يسع رطلاً من الماء، وبعضها عشرة، وبعضها عشرين وخمسين ومائة، فعلى أيها تعولون وبأيها تقدرون ما قدرتم من النزح؟ فما هذا حاله مع ما فيه من الاحتكام من غير دلالة، فهو رد إلى عماية وجهالة في التقدير لا يعلم حالها.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أنهم لم يصنعوا شيئاً في هذه التحكمات من غير أمارة يعتمد عليها، ولا تقرير دلالة يستند إليها، وأعرضوا عما ذكره الشارع ً، وأشار إليه من تعليق نجاسة الماء بتغيره، وتعليق طهارته بعدم تَغَيُّرِهِ، فلأجل هذا وقعوا في هذه التحكمات التي ليس عليها دلالة. والله أعلم.
الفرع الخامس: في كيفية طهارة البئر بنضوب الماء عنها، إذا وقعت في البئر نجاسة فلم تزل عنها حتى نضب ماؤها كالبول والخمر والسرقين وغير ذلك من أنواع النجاسات العينية، ثم نبع بعده ماء آخر فهل يفتقر إلى النزح أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تفتقر إلى النزح، وهذا شيء يحكى عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن البئر إذا وقعت فيها نجاسة فقد دل الشرع على أن طهارتها متعلقة بالنزح، ولأن النجاسة قد اتصلت بماء البئر فيجب نزحها كما لو لم ينضب ماؤها، فلا بد من النزح وتصير البئر طاهرة.
المذهب الثاني: أنها لا تفتقر إلى النزح، وهذا شيء محكي عن محمد بن الحسن الشيباني.
والحجة على ذلك: هو أن طهارة البئر مشروطة بذهاب ما فيها من الماء النجس، فإذا ذهب ذلك بالجفاف صار كأنه ذهب بالنزح.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه يكون صالحاً لأن يكون مذهباً لأئمة العترة، لما كانت المسألة غير منصوصة لهم، وحاصله أنا نقول: إذا نضب الماء عن البئر وبقيت النجاسة ثم نبع الماء عقيب نضوبها وهي حاصلة في البئر، فليس يخلو الحال عند نبوع الماء، إما أن يتغير بما بقي من النجاسة أو لا يتغير، فإن كان متغيراً فهو نجس لقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه)). وإن كان غير متغير بها فهو طاهر، لقوله عليه السلام: (( خُلق الماء طهوراً )). وسواء كان الماء قليلاً أو كثيراً فإنه طاهر إذا لم يتغير؛ لأن الخبر لم يفصل في ذلك، فأما على رأي من ينجس الماء القليل كما هو رأي الأكثر من أئمة العترة وفقهاء الأمة فإنهُ يُنظر، فإن كان الماء قليلاً وبقي أثر النجاسة في البئر فإنه ينجس، وإن لم يكن متغيراً، فأما على ما اخترناه فهو طاهر مع القلة لظاهر الخبر، وقد ذكرناه غير مرة فأغنى عن الإعادة.
الانتصار: يكون بتزييف ما عدا ما اخترناه مذهباً لنا.
قالوا: طهارة البئر مشروطة بالنزح.
قلنا: عنه جوابان: