وحكي عن أبي حنيفة: أن سؤرها يكره، وكذلك الخيل، وعنده أن سؤر بني آدم وسائر ما يؤكل لحمه طاهر، وسؤرٌ مشكوك فيه وهو سؤر البغال والحمير، وسؤرٌ نجس وهو سؤر السباع كلها.
والحجة على كراهة سؤر الهر: هو أنه من جملة السباع لكونه ذا ناب، لكن القياس: أن يكون نجساً عنده كسائر السباع، فلما خفف الشرع حكمه بالمخالطة والطوفان فيه، لا جرم كان مكروهاً ولم يكن محرماً.
والمختار: ما عول عليه الجماهير من أئمة العترة والفقهاء من طهارتها ولا مزيد على ما أوردناه في ذلك من الأدلة الشرعية، لكنا نقول: الكراهة حكم شرعي فلا بد فيه من دلالة لكونه مقابلاً للمندوب، من جهة أن المندوب: ما جاز تركه والأفضل فعله، والمكروه: ما جاز [فعله] والأفضل تركه، والجنس شامل لهما جميعاً، فكما كان الندب لا بد فيه من دلالة، فهكذا حال المكروه من غير فصل، ولا دلالة هناك على كراهة سؤر الهرة.
الانتصار على أبي حنيفة: قال: سؤر السباع نجس.
قلنا: لا نسلم، وقد مر الكلام فيه، وقد أوضحنا كونه طاهراً فأغنى عن الإعادة، ثم إنا إن سلمنا كون السباع نجسة، فالهرة ليست من السباع بنص صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وعلى آله وسلم، حيث قال: (( إنها ليست سبعاً )). ثم إن عموم المخالطة بالطوفان قد خفف أمرها في النجاسة فلا وجه لما ادعاه من الكراهة.
الفرع الثاني: إذا افترست الهرة حيواناً فهل ينجس فمها أم لا؟ فالذي ذهب إليه علماء العترة: أنه ينجس، وهذا هو أحد أقوال الشافعي، وله قول ثان: أنه لا ينجس بالافتراس؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها، وقول ثالث: أنها إن غابت ثم رجعت لم ينجس، لجواز طريان الطهارة على فمها، وإن لم تغب فإنه يكون نجساً؛ لأن الأصل هو بقاء نجاسته بالافتراس.
والحجة على ما قاله علماء العترة: هو أن الافتراس متحقق في حقها والنجاسة متحققة فلا معنى لإزالتها بالوهم الصرف.
والمختار: ما عولنا عليه من نجاسة فمها.
والحجة على ذلك: هو أنه إما أن يقال: إنها لم تفترس شيئاً، فقد فرضنا أنها قد افترست، فلا وجه له، لفرض خلافه.
وإما أن يقال: إنها وإن افترست ففمها طاهر. فهذا لا وجه له، لأنا قد تيقنا نجاسة فمها بأكل الميتة فإذاً الحكم بنجاسة فمها هو الوجه، ولأنا لو لم نحكم بنجاسة فمها لأدى إلى طهارة الميتة، ولا قائل بكونها طاهرة.
الانتصار على الشافعي: حيث قال: بأنها لا تنجس؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها.
قلنا: إنكار كونها آكلة للميتة لا سبيل إليه، فبعد ذاك، إما أن يقال: إن الميتة طاهرة، وهذا لا وجه له، وإما أن يقال: بأن فمها لم ينجس بأكل الميتة، فهذا فاسد أيضاً فإن الميتة نجس وما خالطها فهو نجس أيضاً، وإما أن يقال: بأن فمها قد تنجس خلا أنه يطهر بعد ذلك، فهذا جيد، وسنقرر كيفية طهارته بعد تنجيسه بأكل النجاسة، وفيه تسليم ما قلناه من كون فمها نجساً.
قوله: ينظر، فإن غابت فهو طاهر، وإن لم تغب فهو نجس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأصل: هو تحقق النجاسة بالافتراس فلا يجوز رفع هذا التحقق بالوهم والشك.
وأما ثانياً: فلأن فمها قد وجب كونه نجساً بالحضور، فيجب أيضاً الحكم عليه بالنجاسة مع الغيبة، والجامع بينهما: هو تحقق النجاسة، ولم يعرض ما يزيلها أصلاً.
الفرع الثالث: إذا تقرر كونه نجساً بما قررناه، فبأي شيء تكون طهارته؟ إذ لا سبيل إلى القول ببقاء نجاسته على الاستمرار؛ لأنها من الطوافين والطوافات ولا تنقطع مخالطتها، وكون فمها نجساً بكل حال فيه حرج ومشقة فلا وجه له.
والذي عليه أئمة العترة: أنه يكون طاهراً بالريق؛ لأن ذلك هو الممكن في حقها، وظاهر كلام الشافعي: أنه يطهر حكماً، ولم أعلم أن أحداً من نُظَّار أصحابه ولا من حُذَّاق محصلي مذهبه البغداديين، كالزعفراني الحسن ) والكرابيسي الحسين وإبراهيم الكلبي، ولا من المصريين، كالمزني وحرملة والبويطي. فالبغداديون يروون أقواله القديمة، والمصريون يروون أقواله الجديدة، وما نقل أحد منهم عنه أنه يطهر بالريق، ولا من أصحابه المتأخرين، كالصباغ والقفال وأبي بكر الحداد، نقل ذلك عنه أيضاً مع تحفظهم على نقل أقواله، وتشددهم في التخريج عليها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من طهارته بالريق، ويدل على ذلك حجتان:
الحجة الأولى: أنا نقول: ليس يخلو الحال في فم الهرة، بعد تحقق النجاسة عليه: إما أن يقال: إنه يطهر بغير سبب، وهذا لا قائل به، فإن أحداً من الفقهاء لم يذهب إلى طهارة الشيء بعد نجاسته لا لأمر من الأمور، وإما أن يقال: إنه يطهر بالغسل، وهذا أيضاً لا قائل به، فإنه لا يعلم أن أحداً أوجب غسل فم الهرة بعد نجاسته، وإما أن يقال: إنه يطهر بالمسح، وهذا إنما يقال به في الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة، فأما ما عداها فلا، وقد مر بيانه، فإذا بطل ما ذكرناه من هذه الأوجه لم يبق إلا أن يقال: إنه يطهر بالريق؛ لأنه هو الذي يمكن أن يقال في حقها بعد بطلان ما ذكرناه.
__________
(1) الزعفراني: أبو علي الحسن بن محمد بن الحسين الزعفراني نسبة إلى قرية بقرب بغداد اسمها زعفرانه. كان إماماً في اللغة، وهو أثبت رواية القديم للشافعي، وكان راوية له، وهو الذي يتولى القراءة عليه. مات يوم الإثنين من شهر ربيع الآخر سنة259هـ. (تهذيب التهذيب ج2/275، طبقات الفقهاء 191).
الحجة الثانية: هو أن الريق مائع فأشبه الماء، ولأن الريق في حقها وحق غيرها من سائر الحيوانات مختص بنوع حدة، ولهذا فإنه يؤثر في زوال الآثار بعض تأثير في تقليلها إذا علقت، فلأجل هذا كان مختصاً بالتطهير في حقها، لما لها في ذلك من مزية الاختصاص؛ ولأنه هو الممكن في حقها، وقد قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]. ولأنه قد رآه الأفاضل من علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن )).
الانتصار على الشافعي: قال: روي عن الرسول ً أنه قال: (( إنها ليست بنجس )). ولم يفصل بين أحوالها في حال افتراسها وعدم افتراسها، وفي هذا دلالة على كونها طاهرة في جميع حالاتها بتقرير الشارع وتصريحه من غير حاجة إلى التأويل.
قلنا: عما أوردوه جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما قال ذلك لسبب، وهو أنه لما دُعِي إلى دار فيها كلب فلم يجب، ثم دعي إلى دار فيها هرة فأجاب فقيل له في ذلك، فقال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). يعني أنها ليست مثل الكلب في السَّبُعَّيَةِ، ولم يُرِدْ نفي النجاسة عنها على جهة الإطلاق.
وأما ثانياً: فلأنه إنما أراد أنها ليست نجسة الذات وإنما هي طاهرة، ولأجل ما يعرض فيها من الطوفان، ولم يُرِد أنها إذا افترست لا ينجس فوها فبطل ما قاله.
قال الشافعي: قال الرسول ً: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). والغرض من ذلك أنها لما كانت البلوى تعظم بها بالمخالطة والطوفان، وأنه لا يمكن حجزها عن البيوت والحجرات والمساكن، فلأجل هذا حكم بطهارتها من أجل ذلك، ولم يفصل فيها بين حال وحال، وفي هذا دلالة على طهارتها.
قلنا: هذا فيه دلالة على ما قلناه من نجاستها؛ لكن الشرع عفا عن تلك النجاسة، لأجل عظم الخلطة بها وملابستها لها في كل حال من حالاتها، فلو استدللنا بهذا على ما يقوله من نجاستها لكنا أسعد حالاً لما ذكرناه.
الفرع الرابع: وإذا قلنا بطهارتها بعد وقوع النجاسة، فهل تقدر طهارة فيها بمدة أو لا تقدر بمدة؟
ولا قائل بعدم المدة إلا من قال: إن فاها لا ينجس مطلقاً، وهوالشافعي، وقد رددنا عليه، ولأن القول بطهارة فمها عقيب الافتراس لا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلا بد من تفرقة بين حال الطهارة، وحالة النجاسة، ولا تفرقة إلا بعد مضي مدة بعد وقوع النجاسة في فمها.
وأما ثانياً: فكيف يقال: بأنه يطهر فوها من غير تقدير مدة؟ ولعل بعض أجزاء الفريسة في فمها وبين أنيابها فكيف يحكم بطهارته من غير مدة تمضي؟ هذا لا وجه له.
وإذا كان لا بد من مدة فكم تكون تلك المدة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن تكون المدة ليلة، وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله في كتاب (الزيادات).
ووجهه: هو أن الليلة زمان سكون ودعة واستراحة، ولعابها لا يزال جارياً في هذه المدة، فلهذا كان موجباً لطهارته.
وثانيهما: أن تلك المدة تكون يوماً وليلة، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو مضر، تحصيلاً لمذهبه(1).
ووجهه: أنها في اليوم والليلة لا تصبر عن الماء فيهما أصلاً، فإذا شربت أزال الماء تلك العفونة عن فمها، ورحض ذلك التقذير الذي حصل من أجل الافتراس، وكلا التقديرين لا عثار عليه، خلا أن الليلة هي نص الإمام، واليوم والليلة مخرجان على مذهبه، والنص خير من التخريج وأقوى نفوذاً، لكن التخريج مختص بنوع من الحيطة فلهذا كان سائغاً.
وهل يكون ما ذكرناه من الليلة على النص، أو على اليوم والليلة تخريجاً على مذهبه، تقريباً أو يكون تحديداً؟
فيه احتمالان:
__________
(1) المؤيد بالله.
الاحتمال الأول: أن يكون على جهة التحديد، وفائدته: إن نقص من الليلة ساعة أو من اليوم والليلة تخريجاً ساعتان، لم يطهر فمها؛ لأن هذا هو فائدة التحديد بالوقوف على حده من غير نقصان كسائر الأمور المحدودة الشرعية.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك على جهة التقريب، وفائدته: أنه لو نقص من الليلة أو من اليوم والليلة، ساعة واحدة أو نصف ساعة، فإنه غير ضار في الطهارة. والأجود أن ذلك على جهة التقريب؛ لأن الريق يجري من فمها من دون ذلك، فيكون موجباً للطهارة، والله أعلم.
الفرع الخامس: وإذا قلنا بطهارة فم الهرة لأجل ما أوردنا من الأدلة الشرعية قولاً وفعلاً، فهل يقاس عليها غيرها مما يشاركها في العلة التي نبه الشرع فيها على أنها علة طهارتها وهي الطوفان حيث قال: ((بأنها من الطوافين عليكم والطوافات)) في حديث أبي قتادة، أو يكون مقصوراً عليها لا يتعداها؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مقصور عليها لا يتعداها، وهذا المذهب له عندي توجيهان:
التوجيه الأول: أن يكون صادراً من منكري القياس، إما على جهة الإطلاق كداود وطبقته، وإما من جهة من اعترف بأطراف منه وصور قد عددها، ليس هذا منها، كالشيخ أبي هاشم وأبي إسحاق النظام )، وأبي عبد الله البصري، فإن هؤلاء قد أنكروا القياس كله إلا أطرافاً منه، فهؤلاء يمكن أن يقولوا: يجب قصر الخطاب على فم الهرة، ولا يقاس عليه غيره من سائر الأفواه، وقد رددنا عليهم هذه المقالة في الكتب الأصولية، من رده مطلقاً ومن اعترف بصور منه، وأوضحنا أنهم لم يصنعوا شيئاً في رد القياس وإنكاره، والبحث في الأصول مخالف للأسرار الفقهية، فلا يمزج أحدهما بالآخر.
التوجيه الثاني: أن يكون صادراً من جهة المعترفين بالقياس، لكنهم قالوا: وإن كنا معترفين بالقياس لَكِنْ فيه مانعان:
أحدهما: أنه خارج عن القياس فلا يجوز القياس عليه كما في الخبر إذا خالف القياس، فكان المانع هو خروجه.
__________
(1) أبو إسحاق النظَّام: إبراهم بن سيار النظَّام البصري المعتزلي. قال الإمام المهدي في شرح الملل والنحل: قيل: إنه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ التوارة والإنجيل والزبور مع تفسيرها. قال الجاحظ: ما رأيت أحداً أعلم في الفقه والكلام من النظَّام. وهو من الطبقة السادسة من المعتزلة. ا.هـ وسمي نظَّاماً؛ لأنه كان ينظم الكلام، وقيل: كان ينظم الخرز، توفي سنة بضع وعشرين ومأتين. وهو من ألمع الأعلام الذين يتكرر ذكرهم والاستشهاد بآرائهم في علم الكلام في مؤلفات المعتزلة.
وثانيهما: أن يقال: ليس ببدع في المجاري الشرعية، أن يكون ملحوظاً بحكم لبسٍ ومصلحة لا يشاركه فيه غيره ويكون مخصوصاً به، وعلى هذا تكون معاني القياس فيه غير معقولة ومسالكه مسدودة ومجاريه منحسمة، كما نقوله في العبادات وغيرها مما لا تعقل فيها مخايل المعاني ولا تجري فيها طرق الأشباه، فمن أجل ذلك يكون مقصوراً على محله لأجل الخصوصية التي لا يشاركه فيها غيره، وهذا فاسد فإن الأصل عند المعترفين بالقياس القائلين به: هو جري المعاني المعقولة والأشباه الخاصة على التعدي من محالها إلا لمانع شرعي يمنع من ذلك، ولا مانع هاهنا من قياس الأفواه على فم الهرة بجامع الطوفان فيهم جميعاً كما نقول في سائر المعاني الجارية في جميع معاني الشريعة كلها من المعاوضات وغيرها، فهذا تقرير مذهب هؤلاء الذين قصروه على فم الهرة لا غير.
المذهب الثاني: مذهب المُعَدِّين له إلى سائر الأفواه، وهذا هو قول المعترفين بالقياس السالكين لطرقه، وهم علماء الشريعة وأهل الحل والعقد من أئمة العترة وأكثر علماء الأمة، فإنهم جازمون بالتعدية في كل معنى من المعاني المخيلة والأوصاف الشبهية، لا يكيعون عن ذلك إلا لمانع شرعي من بعيد تظهر فيه آثار التحكم التي لا يفهم معناها في الأعداد والتقديرات وغيرها مما تنحسم فيه مسالك الأقيسة ولا تكون جارية فيه، وفم الهرة ليس من هذه المجاري، فلهذا وجب القضاء بالتعدية كما أوضحناه، والله أعلم.
ثم نقول: لأي شيء منعتم من قياس سائر الأفواه على فم الهرة؟ هل كان ذلك لعدم فهم المعنى؟ فهذا خطأ فإن الشارع قد أشار إلى العلة في فم الهرة ونبه عليها بقوله: (( إنها من الطوافين عليكم )). وإن كان من جهة أن العلة مفهومة لكن منع من ذلك مانع فهذا خطأ أيضاً، فإن المانع لا بد من أن يكون ظاهراً [فأين] ظهوره حتى نتكلم عليه؟ وإلا كان تحكماً فاسداً لا يُعول عليه، فبطل ما قالوه ووجب تعديته إلى سائر الأفواه بجامع الطوفان.
الفرع السادس: إذا وجب تعديته إلى سائر الأفواه كما أوضحناه، فهل يكون ذلك من جهة القياس بالجامع الذي ذكرناه أو يكون على جهة التنصيص؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: وهو الذي عليه أكثر العلماء من أئمة العترة وفقهاء الأمة، وهو أن يكون إلحاق ما عداها من الأفواه بالقياس على الهرة بجامع الطوفان، وذلك لأن فهم العلة قد يكون بالتنصيص كقول الشارع: (( حرمت الخمر لشدتها أو لأجل شدتها )). وقد تكون بالإيماء كقوله عليه السلام: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). وقوله: (( القاتل لا يرث ))(1). وغير ذلك من أنواع التنبيهات على العلل الشرعية، وقد تكون من جهة الاستنباط، فلا تخلو العلة عن إحدى هذه الطرق الثلاث، وطريق تقرير العلة في خبر الهرة قوله ً: (( إنها ليست بنجس)) ثم علل عدم النجاسة فيها بأنها من الطوافين، فحصل من ذلك أن عدم النجاسة لعلة الطوفان علينا، فمن شاركها في هذه العلة مما يكثر طوفه علينا مثل كثرة تطوافها، فالنجاسة عنه منتفية، وهذا هو الأصل في تقرير كل علة من العلل الشرعية يجري على ما ذكرناه من غير مخالفة، كالصبيان الصغار، فإن أفواههم تطهر في هذه المدة إذا وقع منهم القيء، وكثيراً ما يسنح في حقهم، وهكذا الحال في الفأرة إذا أكلت العذرة فإن هذه الأفواه تطهر بالريق، إما بعد الليلة أو اليوم كما قاله المؤيد بالله، وإما بمجموعهما كما خرجه أبومضر.
__________
(1) سيأتي في المواريث.
نعم.. طهارة هذه الأفواه بالريق مخالف للقياس من جهة أن القياس أن النجاسة لا تطهر بشيء سوى الماء؛ لأنه هو الأصل في إزالتها، وإن جاء شيء على خلاف ذلك فهو مخالف للقياس، كما أن الأصل في طهارة الحدث ألا يكون إلا بالماء، وما خرج عن ذلك فعلى مخالفة القياس وقد مر بيانه، وإنما قضينا بطهارة الأفواه بالريق على جهة الاستحسان لما ذكرناه من الأدلة الشرعية، والاستحسان معمول به عندنا، وهو أخص من القياس وأقوى في الدلالة على الحكم، وحكي عن الشافعي: إنكاره. والقول به هو قول أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه، وقد أقمنا على صحة القول به البرهان الأصولي، فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا: أن طهارة الأفواه وإن كان جارياً على مخالفة القياس، لكن أفواه ما عدا الهرة مقيس عليها على جهة الاستحسان.
المذهب الثاني: إلحاق ما عدا فم الهرة من الأفواه ليس على جهة القياس، وذلك يكون على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول منها: أن يكون على جهة العموم، وحاصله: دلالة الظهور؛ لأن الحق أن دلالة العموم ليست إلا من جهة الظاهر دون النص؛ لأن العموم ليس نصاً فيما تناوله وإنما هو ظاهر في الدلالة، وتقريره هو أن قوله: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). ولفظ: الطوافين، لفظ العموم؛ لأنه مستغرق بدخول اللام عليه كالمؤمنين والمسلمين، وما كان دلالته من جهة العموم الذي يكون ظاهراً فليس دالاً من جهة القياس وإنما دلالته لفظية، وليس من المعاني في ورد ولا صدر.