والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو أن الأرض محل نجس(1) فلا تطهر عند وقوع النجاسة إلا بالماء كالثوب، ولأنها أرض لا يصح التيمم منها فلا تصح الصلاة عليها كما إذا لم يذهب أثر النجاسة، وهذا القياس إنما هو على إحدى الروايتين في أنه يصلي عليها ولا يتيمم منها، فأما على الرواية الثانية أنه يصح فيها الأمران جميعاً فلا وقع له.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الأرض مع طلوع الشمس وهبوب الرياح تُحيل الأشياء عن طباعها، ولهذا قال اللّه تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُوْنَ مَا عَلَيْهَا صَعِيْدَاً جُرُزَاً }[الكهف:8]. ومع الاستحالة تحصل الطهارة لا محالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا منقوض بالذهب والفضة وسائر الأحجار الجوهرية، فإن الأرض لا تحيلها.
وأما ثانياً: فلأن الغرض بالآية إبطال هذا النظام وزوال هذا التأليف من الجبال والآكام، وجعلها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، على أنه قد حُكي عن ابن عباس في تفسير الآية: أنه [تعالى]: أراد بذلك موت الأنبياء، والخلفاء، والعلماء، والأمراء، ومن فيه صلاح للخلق.
قالوا: الشمس تُقلل النجاسة، وقليل النجاسة لا يمنع من الصلاة كالأمور التي عفا الشرع عنها، وقد مر بيانها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن الشمس تقلل النجاسة كما زعموه، وإنما تنشفها كما ينشفها ما كان مهلهل النسيج؛ كالثوب الخلق والبساط، وما هذا حاله فلا يعد تقليلاً بحال.
وأما ثانياً: فإنا نقول: القليل عندكم معاشر أصحاب أبي حنيفة هو قدر الدرهم قياساً على حلقة الدبر، وهذا أكبر من الدرهم فلا وجه لعده من جملة القليل.
__________
(1) يقصد: قابلة لوقوع النجاسة عليها.
قالوا: تأثير الأرض في إزالة النجاسة أعظم من تأثير الماء فإذا كان الماء مطهراً فالأرض مثله في التطهير من غير فرق بينهما، وإنما كانت الأرض أبلغ من الماء من جهة أن الأرض تُحيل النجاسة وتُذهبها بخلاف الماء، فإنه إنما يطهرها ولا يحيلها، فلهذا قلنا: بأنها أبلغ من الماء في التطهير.
قلنا: إن كان الغرض أن جرم النجاسة قد أحالته الأرض حتى صار تراباً فقد صار طاهراً بالاستحالة كما في رماد العَذِرَةِ، لكنا نقول: إن مكان النجاسة قد صار نجساً بالبلة التي تلحقه فهي باقية فلا بد من إزالتها بالماء، والأرض لا تقدر على إزالة البِلة، وإنما تطهيرها يكون بالماء، فالأرض وإن كانت أقوى في الإحالة للنجاسة من الماء لكن الماء أقوى منها في كونه مزيلاً للبلة المتنجسة دون الأرض.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( جُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً )). ولفظة الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وظاهرها يدل على أن الأرض كما تصلح للسجود عليها بالصلاة فهو دال على كونها مطهرة للأنجاس، ولن يكون تطهيرها لها إلا بما ذكرناه.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا لا يتأتى على مذهبكم؛ لأن الطهور عندكم من الأسماء اللازمة، والطاهر والطهور عندكم سواء، فلا يكون لكم فيه حجة؛ لأنه ليس مطهراً لغيره، ولهذا عمموا التطهير بالماء وبغيره من الطاهرات كما مر تقريره.
وأما ثانياً: فلأن المراد بكون الأرض مطهرة هو أنها قائمة مقام الماء عند عدمه في تأدية الصلاة، أو أنها مزيلة للنجاسات بالاستحالة فتطهر الميتة بأن تجعلها تراباً كما تطهر النار العذرة بأن تجعلها رماداً، وهذا لا ننكره وعليه يكون تأويل الخبر، وإنما الذي وقع فيه الخلاف والنزاع إنما هو طهارة بلة النجاسة بالأرض، والخبر لم يتناول هذا فلا يكون فيه حجة لكم، فإن ذهب لون النجاسة وريحها بالظل فقد قال البغداديون من أصحاب الشافعي: أنه لا يطهر قولاً واحداً، وقال أهل خراسان من أصحابه أيضاً: فيها قولان.
والمختار على رأي أئمة العترة: أنها لا تطهر بالظل، بل لا بد من غسلها بالماء عند وقوع النجاسة عليها كما قاله أهل بغداد.
والحجة على ذلك: هو أن الأرض لا قوة لها على طهارة البِلة اللاحقة بالأرض، وأن الظل أضعف من الشمس، فإذا لم تكن مؤثرة فالظل أبعد من التأثير في الطهارة.
مسألة: ذهب أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، إلى أن الخفاف والنعال إذا أصابت أسفلها نجاسة فدُلِكت على الأرض فأزال عينها وبقي أثرها فإنه يُنظر في حالها، فإن كانت رطبة لم تطهر؛ لأنها لرطوبتها تزول بالدلك من جانب من الخف إلى جانب آخر بالحك والدلك فلا تطهر إلا بالغسل، وإن أصابتها وهي رطبة فجفت عليها ثم دلكها عن الخف فأزال عينها وبقي أثرها فإنه لا يحكم بطهارة الخف والنعل لاتصال النجاسة به، وهل يعفى عن ذلك الأثر وتصح الصلاة فيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعفى عنه ولا تجوز الصلاة فيه، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، وهو قول محمد والشافعي في الجديد.
والحجة على ذلك: هو أنه محلٌ نجس فوجب أن لا يطهر بالمسح والحك كالثوب، ولأنه لو كان على الثوب لم يطهر إلا بالغسل، فهكذا إذا كان على الخف من غير تفرقة بينهما.
المذهب الثاني: أنها تطهر وتجوز الصلاة فيها، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو قول الشافعي في القديم.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله فإن طهورها التراب ))(1) رواه أبو هريرة.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه موضع تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستجمار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة على ذلك: هو أن الخِفاف والنعال ملبوسة فإذا أصابتها نجاسة فإنها لا تطهر إلا بالغسل، دليله: الأثواب، ولأنها نجاسة اتصلت بالخف وهي رطبة فلا تجوز الصلاة فيها ولا يحكم بطهارتها إلا بالغسل كما لو اتصلت بالقدم من غير خف ولا نعل.
الانتصار: يكون بتزييف ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله فإن طهورها التراب)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه يحتمل أن يكون مراده وطء المستقذرات الطاهرة، فإنه قد يستعمل لفظ التطهير في ذلك كقوله عليه السلام: (( السواك مطهرة للفم ))(2).
وأما ثانياً: فلعله أراد الأذى الذي يكون جافاً فلا يعلق بالخف، وما هذا حاله فإنا نسلم أنه لا يحتاج إلى غسل؛ لأن ظاهر الحديث ليس فيه أن النجاسة رطبة كما زعمتم، فإذا كان الخبر محتملاً لما ذكرناه بطل تعلقهم به.
__________
(1) قال في جواهر الأخبار: وفي رواية: ((إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)). أخرجه أبو داود. وفي رواية أخرى نحوه عن أبي سعيد من حديث أخرجه أبو داود أيضاً.
(2) وروى أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة، وروى ابن ماجة عن أبي أمامة عن النبي ً أنه قال: ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)). ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وزاد: ((ومجلاة للبصر)). ا.هـ اعتصام.
قالوا: روى أبو سعيد الخدري عن الرسول ً أنه قال: (( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإذا كان فيهما خبث فليمسحه بالتراب)). أو قال: (( بالأرض ثم ليصل فيهما))(1). فظاهر الخبر دال على ما قلناه من طهارة الخف إذا حكه بالتراب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في الخبر إلا أنه يمسحه على الأرض، وليس فيه دلالة على منع غسله، فلعله أراد بالمسح تخفيف النجاسة بالمسح أولاً، ثم يغسله ثانياً.
وأما ثانياً: فلأنه يحتمل أن يكون ذلك الخبث جافاً فلا ينجس الخف به، كغيره من النجاسات الجافة وإنما وجب حمله على ما ذكرناه من أجل مخالفته للقياس؛ لأن القياس في اتصال النجاسة الرطبة: أنه لا بد من غسلها للصلاة، وهذا الخبر لما خالف هذا القياس وجب تأويله على ما ذكرناه. والاحتمال وإن بَعُدَ فإنه يُغتفر بُعْدُهُ مخافة ارتكاب ما هو أَبْعَدُ منه، والله أعلم.
قالوا: محل تتكرر فيه النجاسة فزال حكمها بالمسح كمسح الاستجمار.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أنه تتكرر فيه النجاسة، فإن الغالب من حال الأرض هو الطهارة، وهو مخالف لما قالوه في الاستجمار، فإن موضع الاستجمار تتكرر فيه النجاسة، فلو ألزمناهم غسله لكان فيه مشقة، هذا على رأيهم في أن وضع الاستجمار معفو عنه، فأما على ما نختاره وهو رأي أئمة العترة، فإنه غير معفو عنه، وسيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
وأما ثانياً: فلأن المسح بالأحجار في موضع الاستجمار يزيل البول والغائط إذا كانا رطبين، وهاهنا لا يجوز إلا إذا كانت النجاسة قد جفت على الخف والنعل فافترقا.
قالوا: جرم الخف مستحصف كثيف، وجرم النجاسة متخلخل سخيف، فإذا جفت النجاسة على الخف والنعل فإنها تنشف الرطوبة إلى نفسها التي فيها، فإذا مسح زال ما حصل فيه إلا الرطوبة، وتبقى في الخف نجاسة يسيرة يعفى عنها شرعاً.
__________
(1) سبقت الإشارة إليه في الحديث السابق، وهو عن أبي سعيد الخدري بلفظه.
قلنا: هذا فيه منع من وجهين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن النجاسة تنشف نجاسة الخف إلى نفسها، لأنها لو كانت كما زعموا لوجب إذا مسح الخف على الأرض أن يطهر عند اتصال النجاسة به، من جهة أن الرطوبة قد حصلت في الجرم وقد زال الجرم.
وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم أن ما يبقى معفو عنه؛ لأن ما يُعفى عنه إنما هو مما تعظم به البلوى، ويكثر فيه الحرج والمشقة في تلك الأمور العشرة، وليس هذا منها فافترقا.
مسألة: مشتملة على فروع:
الفرع الأول منها: إذا ضُرِب اللَّبِن من التراب وفيه نجاسة ذائبة كالخمر والبول، فإن اللَّبِنَ يكون نجساً لا محالة لاتصاله بالنجاسة الذائبة المتصلة به، فإن أريد تطهيره قبل طبخه فإنه يكاثر بالماء فإذا كوثر بالماء طهر ظاهره، ولا يطهر باطنه إلا بأن تفتت أجزاؤه ثم يصب عليه من الماء ما يغيره، ويتهرأ(1) فيه فعند ذلك يطهر، وإن طبخ هذا اللبن فإذا صب الماء على ظاهره طهر ظاهره وإن خرج الندى من الجانب الآخر طهر باطنه لاتصاله بالماء، وإن خالط طينه نجاسة مستجسدة كالسرقين والعذرة، فإنه مهما دام لَبِناً لم يطبخ، فإنه لا يطهر بحال؛ لأنه لا يطهر بالغسل فلا معنى للمكاثرة فيه بالماء من جهة أن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل؛ لأن نجاستها عينية كما مر تقريره، وإن طبخ هذا اللبن فهل يطهر بالنار من غير غسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر؛ لأن بلة السرقين والعذرة نجسة، وقد اختلط بها وامتزج ولم يعرض [له] إلا النار وهي غير مطهرة.
وثانيهما: أنه يكون طاهراً من جهة أنه قد استحجر واستحالت تلك الأجزاء بالنار فصار كرماد العذرة والسرقين، وهذان الوجهان محكيان عن الشافعي.
والمختار: هو الثاني؛ لأن أجزاء السرقين قد ذهبت بالاحتراق بالنار، فإذا زالت العين بالنار زال حكم البلة تبعاً لها كما قلناه في الدم إذا صار لَبَناً، والخمر إذا صارت خَلاًّ كما سبق.
__________
(1) هكذا في الأصل من غير عجم لحروفها.
الفرع الثاني: قال القاسم: من مس كلباً جافاً لم يجب عليه غسل يده، وهكذا الحال فيمن مس عذرة [جافة] فإنه لا يتوجه عليه غسل يده لأجل مجاورتها للنجاسة، وهذا هو رأي العترة وهو قول علماء الأمة.
والحجة على ذلك: هو أن الأشياء النجسة إنما تكون منجسة لما جاورها بأحد أمرين:
- إما بأن تكون مائعة بنفسها كالخمر ودم الميتة ورطوبتها.
- وإما بأن تكون في نفسها جافة، لكن الشيء الطاهر الذي جاورها يكون رطباً فإنه يكون مخالطاً لها بما فيه من الرطوبة فينجس من أجل ذلك، فمن غسل يده وأمرَّهَا على كلب أو خنزير فإنها تكون نجسة؛ لأنها بما فيها من البلة لاقت النجس فكانت نجسة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن جميع الأعيان الطاهرة لا ينجس شيء منها بملاقاة [شيء] من النجاسات إلا إذا كان أحدهما رطباً.
الفرع الثالث: إذا وقعت في الأرض نجاسة ذائبة كالبول والخمر وكاثرها بالماء، فهل تطهر على الإطلاق أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها تطهر بالمكاثرة من غير نظر إلى حالها، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى أبو هريرة أن أعرابياً دخل مسجد الرسول ً فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال الرسول ً: (( لقد تحجرت واسعاً )). فما لبث أن قام إلى زاوية المسجد فبال فيها فابتدره أصحاب النبي ً. فقال النبي ً: (( دعوه )). ثم دعا بذَنُوبٍ من ماء فأراقه عليه ثم قال: (( علموا ويسروا ولا تعسروا و بشروا ولا تنفروا ))(1). والذَّنوب: هو الدلو الكبيرة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. صبوا عليه سجلاً من ماء، أو قال: ذنوباً من ماء)). ا.هـ. السجل بفتح السين المهملة وسكون الجيم: الدلو الملأى ماء. والذنوب بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة. ا.هـ. جواهر.
وثانيهما: أنه ينظر فإن كانت الأرض رخوة ينزل فيها الماء، وصب عليها الماء فإنها تطهر، وإن كانت صلبة لم يجز إلا حفرها ونقل التراب وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنها إذا كانت رخوة ذهبت أجزاء النجاسة مع الماء بخلاف ما إذا كانت صلبة فإنها تطهر على وجه الأرض والماء قليل ينجس بملاقاة النجاسة، فلهذا وجب حفر ما اتصل بالنجاسة وإلقاؤه، فعند ذلك تطهر الأرض بقلع التراب وإزالته.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، هو أن الأرض إن كانت رخوة فلا كلام في طهارتها، فأما إذا كانت صلبة، فإنه ينظر في الماء الذي كوثرت به النجاسة، فإن كان متغيراً بها لم يطهر إذا ظهر فيه ريح أو لون، وإن لم يظهر فيه تغير بالنجاسة طهرت الأرض بالماء وإن لم تنشفه.
الانتصار على الشافعي: احتج بحديث أبي هريرة.
قلنا: أرض المسجد كانت رخوة؛ لأنه رمل وكلامنا إذا كانت صلبة لا ينزل فيها الماء، فليس في حديث أبي هريرة حجة على ذلك.
وعلى أبي حنيفة نقول: إذا كان غير متغير بالنجاسة، فإنه بالمكاثرة قد صارت الأرض طاهرة ولا معنى لحفرها، بخلاف ما إذا تغير الماء بالنجاسة، فإنها تنجسه وعلى هذا تكون غالبة فلا تطهر.
الفرع الرابع: وإن وقعت نجاسة على الأرض فصب عليها الماء وكاثرها به، فهل يحكم بطهارتها قبل أن ينشف الماء أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يحكم فيها بالطهارة وإن لم ينشف الماء؛ لأن الطهارة فيها متعلقة بالمكاثرة وقد وجدت فلهذا طهرت.
وثانيهما: أنه لا يحكم لها بالطهارة حتى ينشف الماء؛ لأنه لا يتحقق ذهاب النجاسة إلا بالتنشيف، وهذا هو الذي ذكره أصحابنا للمذهب.
والمختار: أن الماء إذا كان راكداً على الأرض ولم تبلعه فإنه يُنظر فيه، فإن تغير بالنجاسة التي وقع عليها فهو غير طاهر ولا مطهر لها، وإن لم يكن متغيراً بالنجاسة فإنه يكون طاهراً مطهراً، من جهة أن العبرة هي المكاثرة من غير تغير فيه.
الفرع الخامس: في قدر المكاثرة، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يصب على النجاسة ما يكون غامراً لها مستهلكاً لأجزائها مما يكون ذاهباً بلونها وطعمها ورائحتها.
وثانيهما: أن النجاسة لا تطهر حتى يصب عليها من الماء سبعة أضعافها؛ لأنها نجاسة فيجب إزالتها بسبعة أضعاف، دليله: ولوغ الكلب.
والمختار: هو الأول، وهو الذي نص عليه الشافعي في (الأم).
والحجة على ذلك: هو أن المقصود إنما هو إزالة النجاسة، وما ذكرناه يكون مُذْهِباً لها فلهذا وجب التعويل عليه، وما ذكروه من أخذه من ولوغ الكلب لا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أنه يُغسل من ولوغه سبع مرات، وسنوضح القول فيه إن شاء اللّه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمناه في الكلب، وأما في غيره فلا نسلمه(1) لأن ذلك إنما كان تَعَبُّداً في حق الكلب على الخصوص، لكونه مختصاً في نظر الشرع بتقذير بالغ، فلهذا خصه بهذا العدد في الإزالة فلا يكون غيره في معناه، فلا يُقَاس عليه غيره.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن فم الهر طاهر، وسؤره يجوز التطهر به، وهو رأي فقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولهم على تقرير هذه المسألة حجتان:
__________
(1) في نسخة [و]: فلا نسلمه في غيره. والمعنى واحد. ا.هـ.
الحجة الأولى: من جهة القول، وهو ما روته كبشة بنت كعب بن مالك (1)، وكانت تحت [عبدالله بن] أبي قتادة )، فجاءت هرة فشربت من وضوئه فأصغى لها الإناء فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول اللّه ً قال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
الحجة الثانية: من جهة الفعل، وهو ما روته عائشة رضي اللّه عنها أن الرسول ً كان يتوضأ بفضلها(3)، وروي أنه أصغى لها الإناء فشربت منه، فوضح بما قررناه هاهنا، أن الهرة فمها وسؤرها طاهران بما أوردناه من الأدلة الشرعية في حقها قولاً وفعلاً، والله أعلم.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: إذا ولغت هرة في ماء قليل ولم يرها قبل ذلك أكلت نجاسة، جاز الوضوء به عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي،. ولا يكره ذلك.
والحجة على ذلك: ما قررناه من قبل من جهة القول والفعل فلا وجه لتكريره، وكله دال على طهارتها من غير كراهة فلو كان فيه كراهة لنبه عليه؛ لأنه في موضع الشرع فلا يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة إليه.
__________
(1) روت عن أبي قتادة، وكانت زوجة ابنه عبدالله، في الوضوء من سؤر الهرة، وعنها بنت أختها حميدة بنت عبيد بن رفاعة. (تهذيب التهذيب ج12/475).
(2) أبو قتادة الأنصاري السلمي، صاحب رسول اللّه ً، واسمه: الحارث بن ربعي، وقيل: النعمان، وقيل: غير هذا، ابن بلدمة بن خُنَاس السلمي المدني. من مشاهير الصحابة، ورواة الحديث. روى إياس بن سلمه عن أبيه أن النبي ً قال: ((خير فرساننا أبو قتادة)). توفي بالكوفة سنة 54هـ. عن 70سنة. (تهذيب التهذيب 12/224).
(3) يعني بفضل الهرة أو مما شربت الهرة منه، ولفظه: عن عائشة أن النبي ً كان يصغي الإناء للهرة ويتوضأ بفضله. حكاه في جواهر الأخبار وفي أصول الأحكام والشفاء .ا.هـ.