وأما ثانياً: فلأنه إذا كان اللحم منجبراً عليه فليس بأعظم من النجاسات التي اشتمل عليها باطنه كالبول والعذرة والدم، وإنما قال الشافعي: يجبره السلطان لما كان منكراً تجب إزالته فيستعان بالسلطان على دفعه وإزالته إذا لم يكن صاحبه دافعاً له؛ لأن الولاية تقتضي ذلك وتوجبه كإزالة سائر المنكرات الشرعية، وإنما خص الإخراج بالسلطان لما كان يتضمن من الإيلام بالقطع، وإيلام الخلق لا يجوز إلا بالولاية، ولا ولاية أعظم من ولاية الذي بيده سلطان الإسلام.
والعجب من تصميم الشافعي على هذا النظر مع علمه بتحقق رحمة اللّه للخلق وأنه لا يكلف ما ليس في الوسع، وأن مبنى الطهارات على الخفة والسهولة. ويؤيد ما ذكرناه ما سبق من أن عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فأمره الرسول ً باتخاذ أنف من ذهب، ولا فرق بين العظم النجس وبين استعمال الذهب في التحريم، فإذا جاز ذلك جاز هذا من غير تفرقة بينهما. وليت شعري أيما أعظم في نظر الشرع مع الإلتفات إلى القواعد العقلية والإستمرار على القوانين النقلية، هل تقطيع أوصال الإنسان وإيلامه بأنواع الإيلام لغير موجب، أو اغتفار نجاسة عظم قد صار من جملة الأوصال مغموراً باللحم والعصب مع ما تضمنه باطن الإنسان من أضعاف تلك النجاسة! فما قاله الشافعي معوز النظير، فهذا ما أردنا ذكره في بيان الأعيان النجسة.
دقيقة تشتمل على بيان ما يعفى عنه من هذه النجاسات، وجملة ذلك أمور عشرة:
أولها: الطين الذي يكون في الشوارع النجسة الذي يعلق بالخفاف والنعال وأسفل الأقدام بقدر ما يتعذر الاحتراز منه، والضابط لما يعفى منه: هو الذي لا يُنسب المتلطخ به إلى تفريط ولا إلى رثاثة الهمة وركتها.
وثانيها: الغبار المنفصل عن السرقين وسائر الأرواث النجسة في الطرقات، فما هذا حاله يعفى [عنه] لكثرة التردد في الطرقات.
وثالثها: دم البراغيث والبق ما قل منه، وهو ما يكون غير سافح كما تقدم ضبطه، سواء كان في ثوبك الذي تلبسه أو ثوب غيرك فلبسته؛ لأن الرخصة حاصلة في الأمرين جميعاً.
ورابعها: دم البثرات التي تكون في الوجه في الوجنة والذقن والجبهة وما ينفصل منها من قيح وصديد ودم. وعن ابن عمر رضي اللّه عنه أنه كان في وجهه بثرة فخرج منها دم فصلى ولم يغسل أثرها؛ لأنها ربما شق الاحتراز عنها.
وخامسها: أثر الفصد فإن تلك الشرطة أثرها يسير يعفى عنه، وهكذا حال أفواه الدماميل عند عصرها، يغتفر حالها لعصرها وعموم البلوى بكثرتها في الأجسام.
وسادسها: ما تحمله الذبان بأرجلها من النجاسات في الأثواب والأجسام، فإنها كثيراً ما تقع على الأجسام الرطبة ثم تطير فتقع على ما ذكرناه، فما هذا حاله يتعذر الاحتراز منه لا محالة، فلهذا عفي عنه إذا كان يسيراً غير متفاحش في الكثرة.
وسابعها: ما تحمله الريح من النجاسات أيضاً سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة، فإنها ربما حملت من غبار السرقين والأزبال النجسة، وتارة تطير بالرشاشات من الرطوبات النجسة أيضاً، فإنه يعفى عما هذا حاله مالم يكن متفاحشاً.
وثامنها: الحبة والحبتان من خرو الفأرة؛ لأن البلوى بهن كثيرة في البيوت والمساكن العامرة والخراب، ومثل ذلك جار في حق الحيات والأفاعي الساكنة في البيوت أيضاً، فإنه يعفى من ذروقهن وأزبالهن ما يغتفر في حق الفأرة؛ لأنهما سواء في المخالطة والطوف، وقد قال الفقهاء مثل ذلك في البعرة والبعرتين عند الحلب، لأن ذلك ربما وقع كثيراً، بناء منهم على ما زعموه من نجاسة أرواث ما يؤكل لحمه، وقد مر الكلام عليهم في ذلك.
وتاسعها: إذا طين البيت بالطين النجس بالأمواء النجسة والأزبال والسرقين، فإن الطين يكون نجساً بما خالطه منها، فإذا دخلها الداخل ولا صق هذه الجدرات فإنه ربما يعلق بالأثواب منها شيء من غبارها وترابها، فيغتفر ما هذا حاله لما يلحق من توقيه من المشقة بالتحرز منه فتساهل الشرع فيه.
وعاشرها: الدماء التي تكون في العروق متصلة باللحم بعد الذبح، ودماء المذابح ما بقي منها يغتفر، لأنه لم يعلم في الأمصار والأقاليم أن أحداً من العلماء أوجب غسل تلك المواضع لما يلحق فيها من الصعوبة والحرج، وفي هذا دلالة على كونها مغتفرة في الطهارات كما قررناه من قبل، ويلحق بهذا العفو: موضع السبيلين، بترك الغسل اكتفاءً بالحجارة على رأي الفقهاء، وهو عندنا غير معفو عنه، ولابد من غسله وسنقرره في الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
فهذه الأمور العشرة قد تسامح الشرع فيها وعفا عنها، وتسامحه فيه دلالةُ ظاهرٍ وقرينةُ معرفةٍ على أن مبنى الطهارات كلها على التساهل، وأن كل ما زيد فيه على خلاف قانون الشرع ووضعه فإنما هو بدعة نشأت من جهة الوسوسة لا أصل لها. وبتمامه يتم الكلام على الفصل الأول من باب النجاسات، والله أعلم بالصواب.
---
الفصل الثاني: في بيان الكيفية في إزالة هذه النجاسات
اعلم أن الذي ورد به الشرع هو التحرز من النجاسات والبعد عنها، كما قال اللّه تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. والرجز: هو النجس، فأما الرجز في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزَاً مِنَ السَّمَاءِ }[الأعراف:162].فإنما هو العذاب، وفي الحديث: (( إن اللّه نظيف يحب النظافة فتنظفوا )). ثم إن الإزالة مختلفة باختلاف النجاسات نفسها، منها ما لا يقبل النجاسة، ومنها ما لا يمكن غسله فمنها ما يمكن غسله خلا أنه يتعذر من جهة المشقة، ومنها ما هو ممكن الغسل، فهذه أمور أربعة نعقدها في نوعين لاندراجها تحتهما، ثم نذكر ما يختص كل واحد منها من المسائل:
النوع الأول منها: ما لا يقبل النجاسة لصقالته، وهذا نحو: المرآة والسيف والزجاج والذهب وغيرها من الأشياء الصقيلة، فإذا أصابتها نجاسة فهل تطهر بالمسح أو لابد من الغسل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بالغسل لا غير، وهذا الذي ذكره المؤيد بالله، وأشار إلى أنه مذهب الهادي، وهو قول الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه محل نجس فلا يطهر بالمسح كالثوب، أو نقول: محل اتصلت به النجاسة فلا يطهر إلا بالغسل كالأثواب والآنية.
المذهب الثاني: أنه يطهر بالمسح فإذا داس(1) ما هو صقيل بالخرقة أو بالخشن كان طاهراً، وهذا هو رأي زيد بن علي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة إما أن تكون عينية أو حكمية، وكل واحد من العين أو الحكم إنما تجب إزالته عن المحل إذا كان قابلاً له، فأما إذا لم يكن قابلاً له فلا وجه لإزالته، فهذه الأشياء لصقالتها غير قابلة فلهذا لم يجب غسلها بالماء، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله وغيره.
__________
(1) داس: بمعنى صقل وجلا. ا.هـ لسان.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة تُراد للصلاة فلا يجوز تحصيلها بغير الماء، دليله: طهارة الحدث.
الانتصار: قالوا: إزالتها بالماء إنما تجب إذا كان المحل قابلاً لها فأما إذا لم يكن قابلاً فلا وجه لإيجاب الماء.
قلنا: إن لم يكن المحل قابلاً فلا حاجة إلى المسح كما قلتم، وإن كان المحل قابلاً فلا بد من الغسل، وأيضاً فإنا نقول: ما تريدون بقولكم: إن الأشياء الصقيلة غير قابلة للنجاسة، هل تعنون أنها لم تقع فيها النجاسة وتتصل بها؟ فهذا لا وجه له، فإنا فرضنا أن النجاسة متصلة بها حساً بأن يقع البول والعذرة على هذه الأشياء الصقيلة، وإن عنيتم أنها وإن اتصلت بها النجاسة لكن المسح يزيلها، فهذا فاسد، فإنه وإن أزال العين فالنجاسة الحكمية باقية لا تزول إلا بالغسل وذلك لأن التعبد في إذهاب النجاسة حكمان:
أحدهما: إذهاب العين.
وثانيهما: إزالة الحكم.
فالعين وإن زالت حساً بالمسح لكن الحكم لا يكون زائلا إلا بالغسل، وأيضاً فإن البِلَّة اللاحقة من جهة اتصال النجاسة بالمحل لا تزول بالمسح، وإنما يزول حكمها بالغسل، فبطل ما قالوه.
قالوا: التطهير بالماء إنما يجب إذا كان هناك مرفوع كالبول والعذرة، وههنا لا مرفوع فلهذا كان المسح كافياً عن الغسل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الطهارة واردة على جهة التعبد لا يعقل معناها كما مر بيانه، لاختصاصها بأوقات وكيفيات لا يعلم خصائصها إلا اللّه، ولهذا كانت مفتقرة إلى النية لأجل كونها عبادة، فلهذا وجبت على حد ما يوجبه الشرع، سواء كان هناك مرفوع أو لم يكن، ولهذا فإنا نوجب الطهارة في غير محل الحدث، فنوجبها في غسل أعضاء الوضوء وإن لم تكن محلاً للأحداث، ونوجب الطهارة من التقاء الختانين، وإن لم يكن هناك إنزال يكون حدثاً.
وأما ثانياً: فلا نسلم أنه ليس هناك مرفوع، بل المرفوع وإن لم يكن حسياً فهو رفع حكمي، وهو إزالة البلة التي تلحق باتصال النجاسة بالمحالّ، فبطل ما توهموه.
قالوا: الأعيان من جملة الأشياء الصقيلة بل هي من أعظمها في الصقالة، فلو أوجبنا غسلها عند وقوع النجاسة لأدى ذلك إلى الحرج والمشقة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. فإذا سقط الغسل فيها سقط في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن في غسلها حرجاً ومشقة، ولهذا ذهب إلى إيجاب غسلها في الوضوء ذاهبون كما سنوضحه؛ لأن الماء يجلوها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا سقوط الغسل عن الأعيان للحرج والمشقة، فلا يسقط عن غيرها إذ لا مشقة فيه ولا حرج، فالميسور لا يسقط بالمعسور، وغير الممكن إذا سقط لم يلزم سقوط الممكن فافترقا.
مسألة: الأشياء النجسة إذا استحالت عما كانت عليه، وهذا نحو أن تصير العذرة رماداً، والميتة تراباً، والكلب والخنزير إذا صارا ملحاً في الملاَّحة إلى غير ذلك من الاستحالات، فهل تطهر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تكون طاهرة، وهذا هو رأي القاسم و المؤيد بالله أخيراً، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه عين استحالت وخرجت عما كانت عليه من الصفة، فوجب القضاء بطهارتها كالخمر إذا صارت خلاً، أو نقول: إنها بالاستحالة التامة خالفت ما كانت عليه من النجاسة في الاسم والصفة والتركيب، فوجب القضاء عليها بالطهارة، كالنطفة إذا صارت آدمياً.
المذهب الثاني: أنها تكون نجسة، وهذا هو رأي المؤيد بالله قديماً، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن طريق التطهير الشرع، ولم يرد الشرع بأن النار مطهرة وهكذا القول في سائر الاستحالات، لا تكون مطهرة لما كانت عليه من النجاسة؛ فلهذا وجب الحكم عليها ببقاء النجاسة حتى تغسل كسائر النجاسات.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله أخيراً، وأبوحنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه استحالة تامة لم يبق لها أثر في الهيئة والطعم والرائحة، فوجب الحكم عليها بالطهارة؛ كالدم إذا صار لبناً؛ لأن الموجب لنجاسة العذرة والميتة إنما هو وجودها على ضرب من الاستحالة والتغير عما كانت عليه من قبل، وقد زال ذلك بالاحتراق فمن أجل ذلك حكمنا عليها بالطهارة كالدم إذا صار لبناً من غير فرق، أو نقول: إنما كانت العذرة والميتة نجسين لأمر يصح لأجله إطلاق الاسم عليها، وبعد الاحتراق قد بطل إطلاق اسم العذرة والميتة عليهما بكل حال، فلهذا حكمنا ببطلان النجاسة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمده على بقاء حكم النجاسة.
قالوا: والمحكوم عليه بالتنجيس في العذرة والميتة إنما هو الجرم والبلة، ولا شك أن الاستحالة في الجرم دون البلة فهي باقية فلا يطهرها إلا الغسل بالماء دون الاستحالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إذا بطل حكم جرم النجاسة بالاستحالة وجب بطلان البِلَّة تبعاً له؛ لأن الجرم أعظم في التنجيس من البلة فلأجل هذا بطل حكمه تبعاً لها.
وأما ثانياً: فهذا معارض بالدم فإن جرمه قد تغير بصيرورته لبناً، فإذا بطل حكم بلة الدَّمِيَّةِ عند كونه لبناً فهكذا ما نحن فيه من غير تفرقة بينهما.
قالوا: مالم يكن نجساً بالاستحالة كالكلب والخنزير فإنه لا يطهر بالاستحالة أيضاً، فصار كسائر النجاسات التي لم يحصل فيها استحالة تامة كالدم إذا صار صديداً وقيحاً وكالبول إذا تغير عن حاله، بخلاف ما تنازعنا فيه فإنه قد استحال استحالة تامة، فلهذا حكمنا عليه بالنجاسة عند استحالته لما كانت نجاسته لم تكن باستحالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه باطل بالعَذِرَة، فإنها إنما تنجست باستحالة الطعام ابتداءً، ثم إنها لا تطهر عندكم بالاستحالة إذا صارت رماداً.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الدم والبول هو أنهما لم يستحيلا استحالة تامة، فلهذا لم يكونا طاهرين بخلاف ما تنازعنا فيه، فإنه قد استحال استحالة تامة في كل أوصافه، حتى صار غير ما كان من قبل في اسمه ولونه وطعمه ورائحته.
قالوا: المستند في تنجيس هذه الأشياء العينية كالكلب والخنزير والميتة والعذرة إنما هو خطاب الشرع وأدلته، وهو لم يفصل بين هذه الأمور بين أن تكون مستحيلة أو غير مستحيلة، فلهذا قضينا بنجاستها في كل أحوالها استحالت أم لم تستحل.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنا نقول: إنما تناولها الخطاب الشرعي بالتنجيس بشرط بقائها على حالها، واستمرارها على حقائقها وصفاتها الكائنة عليها، نحو الكلبية والخنزيرية وما عداها، وبعد استحالتها بالاحراق، فلا نسلم تناول الخطاب لها بحال وهي على هذه الصفة.
وأما ثانياً: فهذا باطل بالدم، فإن اللبن مستحيل منه بظاهر الآية كقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}[النحل:66]. فكان يلزم أن يكون نجساً إذا صار لبناً ولا قائل به.
وأما ثالثاً: فلأن الاحراق بالنار في الطهارة أبلغ من الدباغ في الجلد، لأن الجِلْدِية مع الدباغ باقية، وقد حكمتم عليه بالطهارة، والعذرة والميتة مع الإحراق ليس حقيقتهما باقية؛ فإذا حكمتم هناك بالطهارة فهاهنا أحق.
قالوا: لو صارت العذرة والميتة وسائر النجاسات طاهرة بالإحراق للزم أن تكون النار مطهرة؛ لأنها هي السبب في الإحراق، فكان يلزم على هذا أن البول لو وقع في آنية الفخار وأُدخل النار أن يطهر من غير غسل وهذا لا قائل به؛ لأنه لم يتجدد فيه إلا الحرارة فيلزم على هذا أن يطهر بوضعه في الشمس وهو محال.
قلنا: هذا فاسد، فإنا لم نقل: إن النار مطهرة بنفسها فيلزم ما قلتموه، وإنما قلنا: إن العذرة تطهر بالاحتراق، والاحتراق حاصل عن النار، فالتطهير حاصل عن(1) النار لا بها فأين أحدهما عن الآخر؟ وأيضاً فإن التطهير حاصل بالاستحالة، وما ذكرتموه ليس من باب الاستحالة في شيء، وإنما هو جفاف، والبول لا يطهر بالجفاف، وكلامنا إنما هو في الاستحالة فافترقا.
قالوا: تطهير فلا يقع إلا بمائع كالوضوء والغسل.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فهذا منقوض بالتيمم والاستجمار؛ فإنهما يطهران وليسا بمائع، وإنما حصلا بجامد، وهو التراب والحجارة.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل إنما وجب(2) بالماء لما كان المقصود بهما(3) تأدية العبادة، بخلاف طهارة العذرة والميتة بالإحراق فإنهما لا تؤدى بهما عبادة فلهذا طهرا بالإحتراق من غير ماء فافترقا.
مسألة: الأرض إذا أصابتها نجاسة من بول أو عذرة أو غير ذلك من سائر النجاسات، هل تطهر بطلوع الشمس وهبوب الريح أم لا تطهر إلا بالغسل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بالغسل، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول الشافعي في الجديد، ومحكي عن مالك، وزفر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلْطَّائِفِيْنَ }[البقرة:125]. فظاهر الآية الأمر لإبراهيم بتطهير البيت، فلا بد من جهته من العناية، فلو كان يطهر بهبوب الريح وطلوع الشمس عليه لم يكن للأمر فائدة إذ لا عناية له بهبوب الريح وطلوع الشمس.
__________
(1) في الأصل: عند.
(2) يعني التطهير.
(3) الوضوء والغسل.
والحجة الثانية: قوله ً لما بال الأعرابي في ساحة المسجد: (( صبوا عليه ذنوباً من ماء ))(1). فلو كان الأمر كما زعموه من طهارتها بما قالوا من هبوب الريح وطلوع الشمس لما كان للأمر بالصب فائدة؛ لأن المقصود يحصل من دونه.
الحجة الثالثة: قياسية، وحاصلها: أنها بقعة لا يجوز التيمم منها فلا تجوز الصلاة فيها، كما إذا لم يذهب أثر النجاسة عنها.
المذهب الثاني: أنها تطهر بما ذكرناه من هبوب الريح وطلوع الشمس عليها، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي في القديم، وهذه المقالة إنما تكون إذا كانت أجزاء النجاسة قد ذهب ريحها وعينها ولونها، فأما مع بقاء شيء من ذلك فلا قائل به.
والحجة على ذلك: هو أن الأرض مع الريح والشمس تحيل الأشياء عن طباعها، فمن أجل ذلك كان تأثيرها في النجاسة وإذهابها أعظم من تأثير الماء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أن نجاستها لا تزول إلا بالماء.
__________
(1) عن أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللّه ً، جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللّه ً: مَهٍ مَهٍ. فقال رسول اللّه ً: ((لا تزرموه دعوه)). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللّه ً دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي للصلاة وذكر اللّه وقراءة القرآن)). أو كما قال. وأمر رجلاً فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
مَهٍ: اسم فعل. بمعنى: اكفف.
وزرم الشيء: قطعه. وأراد بها: (لا تقطعوا درة أخيكم). كما جاء في رواية أخرى.