والحجة على ما قلناه: وهو الأصح من قولي الشافعي، هو أن نجاستها إنما كانت لاتصالها بالخمر وكونها وعاءً لها، فإذا حكمنا بطهارة الخمر لمَّا استحالت خلاً وجب الحكم بطهارتها على جهة التبع، وهكذا حال المغرفة أيضاً.
ولا يجوز إمساك الخمر لغرض أنها تصير خلاً، لما روي (( أن الرسول ً، لعن عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)). ولا شك أن كل من أمسكها لغرض التخليل فإنه مندرج تحت هؤلاء الملعونين لكونه متلبساً بها، فإن أمسكها حتى تخللت بنفسها، فهل تطهر ويحل شربها أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في حكمها إذا تخللت من غير فعل آدمي.
مسألة: القيء مهموز. وفي الحديث: (( الراجع في هبتة كالراجع في قيئه ))(1). والذي ذهب إليه أئمة العترة: أن القيء الخارج من أقصى المعدة نجس، وهو قول فقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك وغيرهم من الفقهاء الصحابة والتابعين.
والحجة على ذلك: ما جاء في حديث عمار، حيث قال عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والمني والمذي))(2).
__________
(1) هذا الحديث نقله المنصور بالله القاسم بن محمد في الاعتصام عن الشفاء بلفظ: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)). ا.هـ ج4/406. وسيأتي في موضعه.
(2) هكذا في الأصل أسقط الدم وأضاف المذي، بينما في الروايات السالفة كلها في حديث عمار، ذكر الدم مع البول والغائط والقيء والمني دون المذي وقد سلف إثبات نجاسة المذي في حديث علي. ا.هـ.

والحجة الثانية: قياسية، وهو أنه طعام استحال في الجوف إلى نتن وفساد فأشبه الغائط، فأما نقضه للوضوء فسيأتي تقريره في باب الأحداث الناقضة للطهارة بمعونة اللّه تعالى، ولا يفترق الحال في كونه نجساً إذا كان من أقصى المعدة، لأن خبر عمار لم يفصل في ذلك بين جنس وجنس، ولأن المعدة هي موضع الحدث كما لا يفترق الحال فيما يخرج من الدبر لما كان موضعاً للحدث، وفيه تردد بين العلماء نفصله في التفريع.
ويتفرع على ما ذكرناه فروع نذكرها:
الفرع الأول: هل يكون قليله مثل كثيره في كونه نجساً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن قليله مثل كثيره في النجاسة لا يفترقان، وهذا هو رأي الإمام الشهيد زيد بن علي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: أن الظواهر الشرعية الدالة على نجاسة القيء، نحو حديث عمار، واردة على جهة العموم غير فاصلة بين قليله وكثيره، والتخصيص إنما يكون بدلالة منفصلة ولا دلالة هناك، فبقي على العموم وهو المطلوب.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أنا نقول: طعام استحال في المعدة إلى نتن وفساد فكان قليله مثل كثيره في النجاسة كالعذرة.
المذهب الثاني: أن قليله مخالف لكثيره، فالكثير منه نجس وقليله غير نجس، وحدُّ القليل ما كان دون ملء الفم وهي الدسعة الواحدة، فما كان دونها فهو طاهر وما جاوزها فهو نجس، وهذا هو الذي حصله السيدان: أبوالعباس وأبوطالب، لمذهب الهادي والقاسم، وهو الظاهر من مذهب المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من أعماق البدن، فوجب أن يكون قليله مخالفاً لكثيره كالدم.

الحجة الثانية: هي أن الدم والقيء متفقان في الحكم، من جهة أن كل من قال: إن كثير الدم ناقض للوضوء، قال: إن كثير القيء ناقض له، ومن قال: بأن كثير الدم غير ناقض، قال: إن كثير القيء غير ناقض، فإذا كانا مستويين فيما ذكرناه وجب استواؤهما في العفو عن قليل القيء كما عفي عن قليل الدم، وفي ذلك ما نريده من مخالفة قليله لكثيره.
والمختار: ما قاله الإمام زيد بن علي ومن وافقه من علماء الأمة، لما حكيناه من الاستدلال لهم ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: أن تعويلهم في التفرقة بين قليله وكثيره إنما هو على الأقيسة المعنوية من جهة القائس، وما ذكرناه من التسوية بينهما إنما هو تعويل على الظواهر الشرعية من جهة صاحب الشريعة، ولا شك أن ما كان من جهة الشارع، فإنه لا يساوي ما كان من جهة القائس، فإن الشارع معصوم عن الخطأ، والقائس ليس معصوماً عن الخطأ، فلا جرم كان التعويل على كلام الشارع أولى وأحق من غيره.
الحجة الثانية: هي أن ما ذكرناه من حديث عمار، إنما سيق بياناً لأعيان النجاسات حيث قال فيه عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والقيء والدم )). وغيره من الأحاديث المذكور فيها (( الدسعة)) و(( الذارع))، إنما سيقت من أجل بيان نواقض الوضوء لا من أجل بيان أعيان النجاسات، ولا شك أن كل ما سيق بياناً لمقصود معين، هو أقوى مما سيق لمقصود آخر، فلهذا كان حديث عمار أقوى في الدلالة من غيره، وهو لم يفرق بين القليل والكثير فلهذا كان التعويل عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: خارج من أعماق البدن فكان قليله مخالفاً لكثيره في التنجيس كالدم.
قلنا: عنه جوابان:

أما أولاً: فلأن مسلك النجاسات ضيق فلا يُضطرب فيه بالخطوات الوساع وإنما قاعدته التقريرات الشرعية والتحكمات النقلية، فأما مسالك القياس فتكاد تكون منسدة فيه لكونه متعلقاً بأمر غيبي استأثر اللّه بعلمه، ولا شك أن الشرع قد دل في الدم على مخالفة قليله لكثيره فقررناه حيث ورد، ولم تدل مثل تلك الدلالة على قليل القيء، فمن أجل ذلك قضينا فيه بنجاسته كله من غير تفرقة كسائر النجاسات كلها، فإن مبناها على موافقة قليلها لكثيرها في التنجيس، فوجب مثله في القيء من غير مخالفة لغير دلالة.
وأما ثانياً: فلأن عموم البلوى في الدماء كثيرة من أجل ملابستها في كل حيوان، بخلاف القيء فإنه مخصوص ببعض الحيوانات، فلما كان الأمر فيه كما قلناه لا جرم خفف الشرع فيه الحكم في التفرقة بين قليله وكثيره، وبقي القيء على أصل القياس في النجاسات فافترقا.
قالوا: سوَّت الأمة بين الدم والقيء في نقض الوضوء بهما وعدم النقض بهما على قولين: فمن قائل يقول: بأنهما ناقضان كلاهما، وقائل يقول: إنهما غير ناقضين كلاهما، فإذا كانا مستويين فيما ذكرناه، فيجب استواؤهما في مخالفة القليل منهما جميعاً للكثير.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا يلزم من استوائهما في حكمٍ استواؤهما في حكم آخر، فما ذكرتموه دعوى لا برهان عليها من جهة دلالة شرعية.

وأما ثانياً: فلأنه إنما وجب استواؤهما في النقض وعدمه لدلالة شرعية، أما في النقض فلقوله عليه السلام: (( الوضوء مما خرج ))(1) ولم يفصل، وأما في عدم النقض فلأنه عليه السلام احتجم وما زاد على غسل محاجمه ولم يعد وضوءاً، فهذان مستندان لمن نقض بالخارج ولمن منع من النقض به قد استويا، فلأجل هذا قضينا بالتسوية بينهما لمكان هذه الدلالة الشرعية، بخلاف ما نحن فيه فإن الدلالة الشرعية إنما دلت على الفصل بين قليل الدم وكثيره، ولم يحصل مثل ذلك في القيء، فلهذا افترقا في ذلك، فلا جرم حكمنا على كل شيء بموجب دليله الشرعي، فلأجل هذا قضينا بمفارقة الدم للقيء في القليل، والله أعلم بالصواب.
قالوا: أشار الشرع إلى كثير القيء، بقوله: (( أو دسعة تملأ الفم ))(2). فدل على أن ما نقص عن الدسعة فإنه في حكم القليل، كما أن ما نقص عن السفح في حق الدم، فإنه قليل، وفي ذلك ما نريده من التفرقة بين قليله وكثيره.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكره عليه السلام هاهنا، إنما ورد بياناً لحال نواقض الوضوء دون الطهارة والتنجيس، وكلامنا إنما هو فيما ينجس من القيء وما لا ينجس، فمن الجائز أن يكون غير ناقض وهو نجس، كما قاله الناصر والشافعي، ومن المحتمل أن يكون كما هو ناقض فهو نجس أيضاً، كما قالته القاسمية. فالنجاسة شيء، والنقض شيء آخر، فأحدهما مخالف للآخر.
__________
(1) حكاه في أصول الأحكام ونسبه في التلخيص إلى الدارقطني والبيهقي في حديث ابن عباس بلفظ: ((الوضوء مما خرج وليس مما يدخل)). ثم ضعف إسناده. ا.هـ ج2/86 (بحر، جواهر)
(2) أورده في الجواهر عن علي عليه السلام قال: قلت: يا رسول اللّه، الوضوء كتبه اللّه علينا من الحدث فقط؟ قال: ((لا بل من سبع: من حدث، وبول، ودم سائل، وقيء ذارع، ودسعة تملأ الفم، ونوم مضطجع، وقهقهة في الصلاة)). حكاه في أصول الأحكام والشفاء. ا.هـ. ج2/15.

وأما ثانياً: فلأنه إنما بين حكم الدسعة، و سكت عما دونها، فليس فيه دلالة على أن ما دونها مخالف لها، اللهم إلا أن يقال: ما علق الحكم بالدسعة إلا وما دونها مخالف لحكمها فيكون هذا تعلقاً بدليل الخطاب ومفهومه، وهو متمسك ضعيف المجرى في المسائل الفقهية، وقد قررنا حكمه فيما سبق فأغنى عن تكريره.
قالوا: روي عنه ً أنه قال: (( وقيء ذارع )). فدل على أن ما دون الذارع مخالف لحكمه في النقض والتنجيس. والذارع: هو السابق؛ لأنه يسبق الإنسان ولا يقف على إرادته، وسمي القيء: ذارعاً لخفة خروجه عند تحرك النفس وتجشيها أخذاً من قولهم: امرأة ذارع. إذا كانت خفيفة الغزل. فلما علق الحكم بالذارع، دل على أن ما عداه بخلافه في النجاسة.
قلنا: هذا من الطراز الأول، فإن الخبر إنما سيق من أجل نقضه للوضوء لا من أجل بيان حكم النجاسة، فأحدهما مخالف للآخر، فنحن نسلم أنه ناقض وما دونه ليس ناقضاً، لكنا لا نسلم أنه غير نجس، بل الذارع وما دونه نجسان، دليله، سائر النجاسات كلها من البول والعذرة وغيرهما.
قالوا: ما دون الدسعة قيء لم يملأ الفم فوجب أن لا يكون نجساً كالجشاء المتغير.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن القيء خارج من أعماق البدن، والجشاء ليس خارجاً من أعماقه، وإنما هو هواء يتردد في الحلق من المعدة إلى الفم.
وأما ثانياً: فلأن الأصل في الجشاء أن تكون رائحته طيبة؛ لأنه لا محالة ينفصل من الغذاء الطيب، وإنما تعرض له الرائحة الكريهة من أ جل تغير في المعدة من أجل الامتلاء، بخلاف القيء فإنه متغير بكل حال فلهذا افترقا.
قالوا: مائع من طبعه الانحدار فإذا علا صار مستخرجاً، فلهذا كان نجساً كثيره دون قليله كالدم.
قلنا: نقض الوضوء متعلق بكثيره دون قليله كما فصل بينهما الشرع، بخلاف النجاسة، فإن الشرع ما فصل بين قليله وكثيره فمن أجل ذلك قضينا بالتعميم في قليله وكثيره بالتنجيس.

الفرع الثاني: القَلَس وهو فَعَلٌ بتحريك اللام بالفتح كفرس، وهو بالقاف والسين بثلاث من أسفلها(1). قال الخليل بن أحمد ): والقلس ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء. وما يكون حكمه في النجاسة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا كان ملء الفم فما فوقه فهو نجس وإن كان دونه فهو طاهر، وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي والقاسم، وهو رأي الأخوين السيدين: المؤيد بالله وأبي طالب والسيد أبي العباس.
والحجة على ما قالوه: قد ذكرناها من قبل فأغنى عن الإعادة.
المذهب الثاني: أنه يكون نجساً قليله وكثيره، وهذا هو الذي حكيناه عن زيد بن علي، وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قد ذكرناها وهو المختار كما مر بيانه.
الفرع الثالث: ما انحدر من الرأس كالبصاق والمخاط والدمع فهو طاهر عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
__________
(1) كانت السين المهملة في مصطلح القدماء، تعجم بثلاث من تحت، مقابل تثليث الشين المعجمة من فوق كما مر في المقدمة.
(2) أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي، ويقال: الباهلي، صاحب العروض (بحور الشعر) وكتاب (العين) في اللغة (طبع في ثمانية مجلدات). وهو علم من أعلام اللغة العربية، وأول من وضع علم العروض وله مذهب معروف في اللغة. وروي: أنه كان يرى في الفقه رأي الإباضية حتى مَنَّ اللّه عليه بمجالسة أيوب بن المتوكل. قال عنه النضر بن شميل: ما رأيت أحداً يطلب إليه ما عنده أشد تواضعاً منه. ونقل الحافظ بن حجر عن إبراهيم بن إسحاق الحربي: أن علماء العربية بالبصرة كانو أصحاب أهواء إلا أربعة كانو أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل، ويونس بن حبيب، والأصمعي. وثقه ابن حبان، ووصفه بالزهد والتقشف، توفي سنة 175هـ على الأصح. (تهذيب التهذيب ج3/141).

والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا قام أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبصق في قبلته ولكن عن يساره وتحت قدمه)) ثم إنه أخذ طرف ردائه ثم بصق فيه ثم رد بعضه على بعضٍ، ثم قال: (( إذا فعل فليفعل هكذا))(1).
وهل يُكره ذلك أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة وهو قول علماء الأمة، أن ذلك لا يكره.
والحجة على ذلك: هو أن الرسول ً، قد فعل ذلك، وأدنى درجات فعله عليه السلام هو الحسن والإباحة، وأعلى درجات فعله هو الوجوب، فإذا فعل فعلاً دل ذلك على حسنه وعلى عدم الكراهة؛ لأنه معصوم فلا يجوز عليه فعل القبيح.
وحكي عن الحسن بن صالح: أنه يكره للرجل أن يبصق في ثوبه، وحكي عن الأوزاعي: أنه يكره للرجل أن يدخل سواكه في [ماء] وضوئه.
والحجة على ما قالا: هو أن ما هذا حاله ربما تعافه النفوس وتستقذره، فلهذا كان مكروهاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة، ويدل على ذلك ما روى أنس بن مالك ) (( أن رسول اللّه ً بصق في ثوبه ورد بعضه على بعض))، فلو كان مكروهاً لما فعله، وما ذكروه ليس معولاً عليه؛ لأن الغرض إنما هو الكراهة الشرعية، ولم تدل عليها دلالة، فأما الاستقذار فليس له وجه شرعي فلا يعول عليه.
الفرع الرابع: ذهب علماء العترة إلى أن البلغم المتصعد من المعدة نجس، وهذا هو قول الشافعي ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن الأخبار الواردة في نجاسة القيء كخبر عمار وغيره من الأخبار، لم تفصل بين أن يكون بلغماً أو غيره، فوجب أن يكون حكم النجاسة متعلقاً به.
__________
(1) سيأتي في باب الصلاة.
(2) أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر النجاري، الخزرجي، الأنصاري، صاحب رسول اللّه ً، وخادمه إلى أن قبض، ولد بالمدينة، وأسلم صغيراً، وروى أكثر من 120 حديثاً، رواها عنه كثيرون من عدة طرق. رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة حيث مات بها.

والحجة الثانية: قياسية، وهو أنه قيء خارج من المعدة، فوجب أن يكون نجساً كالمرة الصفراء والسوداء.
وحكي عن أبي حنيفة ومحمد: أنه طاهر.
والحجة لهما على ذلك: هو أنه جنس من البلغم فأشبه ما ينزل من الرأس.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: هو أنه قيء خارج من المعدة فأشبه القلس، ولأنه طعام استحال في المعدة فكان نجساً كالعذرة.
الانتصار: قالوا: جنس من البلغم فأشبه ما ينحدر من الرأس.
قلنا: المعنى في الأصل أنه لم يتصل بالمعدة فلهذا كان طاهراً، بخلاف البلغم فإنه متصل بالمعدة وهي محل للنجاسة فلهذا كان نجساً.
قال السيد المؤيد بالله: البلغم يكون طاهراً في نفسه، خلا أنه لما كان خارجاً من المعدة فإنه لا ينفك عن اتصاله بالنجاسة فلهذا وجب الحكم بتنجيسه؛ لأجل الاتصال بالنجس كما لو خرج من الدبر، وكما لو شرب ماءً ثم قاءه فإنه ينجس لما ذكرناه من الاتصال، وهكذا حال الطعام إذا خرج بعينه فإنه يصير نجساً للمجاورة للنجاسة.
قالوا: البلغم فيه صقالة ولزوجة فلا يقبل النجاسة، فلهذا كان طاهراً.
قلنا: إن صقالته ولزوجته لا تمنع من أن يكون متصلاً بالنجاسة التي هي السبب في نجاسته فإذا اتصل بها كان نجساً.
الفرع الخامس: البلغم المتصعد من أقصى الحلق، طاهر عند أئمة العترة وهو رأي الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يحكى الخلاف فيه إلا عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أنه مائع غير متصل بالمعدة فوجب القضاء بطهارته كالدمع والبصاق، ولأن العلة في نجاسة البلغم ليس إلا اتصاله بالمعدة التي هي محل النجاسة، وما هذا حاله غير متصل بها، فلهذا لم يكن نجساً، ويؤيد ما ذكرناه هو أن ما يقع في المعدة من الطعام فإنه يتغير على القرب لأجل الحرارة التي فيها فتطبخه فيتغير في لونه إلى الحمرة كحب الرمان وإلى الصفرة وفي طعمه إلى الحموضة، بخلاف ما لا يكون متصلاً بها فإنه لا يكون متغيراً.

قال السيد المؤيد بالله: والأقرب عندي أن الماء الخارج من الفم في حال النوم أنه طاهر، والأظهر أنه غير خارج من المعدة؛ لأن الخارج منها لا بد أن يكون متغيراً كماء حب الرمان وشبهه، ويتعذر خروجه إلا بقذف وتقيؤ، وهذا يؤيد ما قلناه من ذلك ويوضحه.
الفرع السادس: من انكسرت يده فجبر بعظم نجس فانجبرت اليد والتحم عليها العصب واللحم، فهل يجب كسره وإخراجه أم لا؟ فالذي عليه علماء العترة أنه لا يجب كسره ولا يتوجه إخراجه، وهذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هي أن النجاسة إذا حصلت في باطن الإنسان سقط حكمها كما لو شرب خمراً أو أكل ميتة لخشية التلف.
وحكي عن الشافعي: أن السلطان يجبره على إخراجه إذا لم يخف التلف.
والحجة على ما قاله: هو أن ما هذا حاله لا يجوز استعماله من أجل نجاسته، فإذا انجبر عليه اللحم لم يسقط حكم الإخراج.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. ولا حرج أعظم من تقطيع الإنسان وكسر يده ورجله. وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. ولا يسر مع ما ذكرناه.
الانتصار: قال: لا يحل استعمال النجس إلا لضرورة ولا ضرورة هاهنا.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن اللّه تعالى قد خفف حكم النجاسات في مواضع كثيرة، نحو أكل الميتة للمضطر في مخمصة، ونحو إساغة الطعام بالخمر عند الضرورة لفقدان الماء وإعوازه.

52 / 279
ع
En
A+
A-