والحجة لهم على ذلك: ما حكيناه عن الشافعي في طهارة المني؛ لأنهما متقاربان، وقد قال عليه السلام: (( المذي رائد المني)) فإذا كان المني طاهراً فهكذا حال المذي من غير تفرقة بينهما.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من نجاسته؛ لما ذكرناه [من الردِّ] عليهم(1) في نجاسة المني فهو وارد هاهنا، ولأنه ناقض للوضوء والصلاة فأشبه البول.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في طهارته، وقد ذكرنا نجاسة المني وهو أصلهم فيه، فالمذي يكون كذلك فلا حاجة بنا إلى تكريره.
الفرع السادس: الودي وهو بالدال المهملة والياء تشدد وتخفف، وهو ماء أبيض يخرج بعد البول، وهو نجس عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة، ولا يحكى الخلاف في نجاسته وكونه ناقضاً للطهارة.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من مخرج معتاد فوجب كونه نجساً كالبول.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن الخمر نجسة، وصفة الخمر ومواضع الخلاف والإجماع فيما يحل شربه ويحرم، يجيء مفصلاً في كتاب الأشربة بمعونة اللّه تعالى، وما قلناه من نجاستها هو قول عامة العلماء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ}[المائدة:90]. فقد حصل من الآية دليلان:
أحدهما: قوله: {رِجْسٌ}. والرجس: هو النجس.
وثانيهما: قوله: {فَاجْتَنِبُوْهُ}. فلو كانت طاهرة لم يأمر باجتنابها.
__________
(1) على القائلين بطهارة المني.

الحجة الثانية: ما روى أبو طلحة، (( أن الرسول ً لما نزل تحريمها أمر بإراقتها ))، فلو كانت طاهرة لما أمر بإراقتها(1).
الحجة الثالثة: قياسية. وهي أنها مائع محرم شربه، فأشبه البول في نجاسته، ومن جهة أن العقد عليها محرم فكانت نجسة كالميتة.
وحكي عن ربيعة )، وداود، والحسن البصري، وفريق من الإمامية: أنها طاهرة.
__________
(1) هذا الاستنتاج يبدو غير مقنع إذ معناه أن النبي ً أمر بإراقتها لنجاستها فقط، ولو لم تكن نجسة لأبقى عليها، وهذا غير وارد؛ لأن التحريم هو العلة أو السبب الأول لإراقتها، وهو الحكم القطعي بإجماع الأمة. بينما الاستدلال على نجاستها من التحريم فرعي وظني وهو لا يزال موضع الخلاف. وكذلك القول بأنها لو لم تكن نجسة لم يأمر باجتنابها. إذ إن الحكم هنا معكوس. بمعنى أن الدلالة في الآية الكريمة هي واردة في الأصل على نجاسة الخمرة، وأنه يستفاد من الحكم أو يترتب عليه أو يتفرع عنه تحريمها. وهذا ما لم يقصده المؤلف وإن كان يفهم من كلامه، وإلا فلربما لزم أن تكون علة الأمر في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور}. هي نجاسة الأوثان وقول الزور، وكذا حال الميسر والأنصاب والأزلام، في آية الخمر، وغيرها مما ورد فيها الأمر بالاجتناب أو النهي عن الاقتراب. مثل: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيم} {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا}. وهو موضوع يحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث.
(2) ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ التيمي، المدني، مولى آل المنكدر، إمام، فقيه، مجتهد، بصير بالرأي، ولذلك عرف بربيعة الرأي، مفتي المدينة، سمع السائب، وأنساً، وغيرهما (واسم أبيه فروخ). وهو شيخ مالك، قال ابن حجر: ثقة، فقيه، مشهور، من الطبقة الخامسة. توفي سنة 136هـ بالمدينة. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).

والحجة لهم على ذلك: هو أن هذه الأدلة الذي ذكرتموها إنما دلت على تحريم شربها وعلى النهي عنه، وأما طهارتها ونجاستها فليس في الآية والأخبار ما يُشعر بذلك.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها شراب يؤخذ من العنب والتمر فأشبه النقيع، وغير ذلك مما يكون مأخوذاً من هاتين الشجرتين.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة من نجاستها، ودليله ما سبق تقريره، ونزيد هاهنا، وهو أن الرسول ً، أُتي له بنقيع تمر وقد طلع نشيشه، فقال لصاحبه: (( اضرب به هذا الحائط )). فكسر الإناء وأراقه. وفي هذا دلالة على تحريم رطوبتها، وأنها نجسة كما قررناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: إن الأدلة إنما دلت على تحريم شربها دون نجاستها.
قلنا: هذا فاسد، فإن الخطابات كلها مطلقة على وجوب إراقتها والاجتناب منها، وهذا عام في جميع التصرفات فيها، ومن جملة ذلك أنه لا تجوز رطوبتها ومباشرتها، وهذا هو الذي نريده بكونها نجسة.
قالوا: معنى كونها محرمة، هو أنه لا يجوز شربها، وهذا مسلَّم، ومعنى كونها نجسة، هو أنه لا تجوز مصاحبتها للصلاة، ومن أين أنه إذا حرم شربها لم تجز مباشرتها للمصلي؟ فأحدهما مخالف للآخر.
قلنا: هذا فاسد، فإن قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوْهُ}. دال على المنع من المباشرة في جميع الأحوال فلا يجوز تخصيصه من غير دلالة، وهكذا فإن قوله تعالى: {رِجْسٌ} دال على التصريح بالنجاسة وهذا هو مرادنا.
قالوا: حكي عن مالك أن من صلى وعلى ثوبه خمر لم يعلمها، فإنه يعيد في الوقت ولا يعيد بعده، وعن الليث: أنه يعيد في رواية، وفي رواية أخرى: أنه لا يعيد، وفي هذا دلالة على مخالفة الخمر لسائر المائعات النجسة.

قلنا: إن كان قد سبق من جهة الصدر الأول وهم الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعون، إجماع على نجاستها، فهم محجوجون به وتحرم مخالفة الإجماع لكونه قاطعاً، ولا تجوز مخالفته. وإن لم يكن هناك إجماع من جهة الصدر الأول، فالمسألة اجتهادية لا محالة لا ختلاف العلماء فيها، وهذه هي أمارة كون المسألة اجتهادية، فلهذا قال مالك: إنه يعيد في الوقت؛ لأن الخطاب عليه متجدد في تأدية الصلاة من غير نجاسة، وإن كان الوقت فائتاً لم تلزمه إعادة الصلاة؛ لأن الوقت قد فات. وقد قال عليه السلام: (( لا ظهرانِ في يوم )). وسيأتي لهذا مزيد تقرير في كيفية الاجتهاد وحكمه في المسائل الخلافية، فما قاله مالك، تقرير كونها نجسة، لكن نجاستها عنده مختلف فيها، فلهذا قال فيها ما قال، وهكذا حكم من خالف من علماء الأمة في طهارتها.
قالوا: مائع شراب يؤخذ من العنب فأشبه النقيع.
قلنا: هذا خطأ، فإن قياسنا أرجح من جهة مطابقته للظواهر النقلية في تحريمها ونجاستها، وما قلتموه لا يعضده نقل ولا يرشد إليه، فلهذا كان باطلاً،. وأيضاً، فإن ما ذكرتموه من الأقيسة الطردية التي لا يُعول عليها محصل ولا يعتمد عليها محقق، وأمارة كونه طرداً مهجوراً، هو أن تعليق الحكم عليه ليس أولى من تعليق نقيضه، ولهذا نقول: مائع محرم بيعه فكان نجساً كالبول، على أن ما ذكرتموه من القياس معارض بما ذكرناه من الأقيسة، فيجب تساقط الأقيسة والعمل على الظواهر، النقلية التي حكيناها.
ويتفرع على هذه المسألة فروع خمسة:
[الفرع] الأول: النبيذ نجس عند أئمة العترة وهو المشهور عن الشافعي، وهو ما يتخذ من التمر والعنب مما يسكر كثيره دون قليله.
وحكي عن بعض أصحاب الشافعي طهارته، وهو قول أبي حنيفة.

والحجة على ما قلناه: قوله ً: (( ما أسكر كثيره فقليله حرام ))(1). وقوله عليه السلام: (( كل مسكر حرام)).
واحتج أبوحنيفة و بعض أصحاب الشافعي بحديث ابن مسعود ليلة الجن، حيث قال له [الرسول]: (( ما في أداوتك))؟ فقال: نبيذ تمر، فتوضأ به، فلو كان نجساً لما جاز التوضؤ به.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا، وهو أن هذه الأخبار قد دلت على تحريم جميع الأنبذة، والحرام هو ما كان ممنوعاً منه، والأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين شرب واستعمال، وهذا فيه دلالة على كونها نجسة لشمول التحريم، وما ذكرناه من النجاسة فهو عام في جميع الأنبذة كلها من العنب والتمر والزبيب والبر والشعير والذرة، فهي نجسة كلها لأجل شمول التحريم لها، وسنقرر الكلام في هذه الأصناف وما يحل وما يحرم في كتاب الأشربة.
الانتصار: قالوا: توضأ به رسول اللّه ً، ليلة الجن، فدل ذلك على طهارته.
قلنا: قد تكلمنا على هذه المسألة في المياه، وبينَّا أن المراد بذلك: هو ما نُبذ فيه تمرات لاجتذاب ملوحته، واسم الماء باق عليه في الإطلاق، فلو كان نبيداً كما زعمتم، لم يقل الرسول ً: (( ماء طهور)). فبطل ما توهموه.
الفرع الثاني: ذهب أئمة العترة إلى أنه لا يجوز تخليل الخمر، ونعني بالتخليل: هو علاجها حتى تزول عن كونها خمراً إما بطرح خل فيها أو ملح أو خردل أو غير ذلك من الأمور التي تفسد خمريَّتها، وهو قول الشافعي.
__________
(1) تتمة الحديث: ((.. اللهم إني لا أحل مسكراً)).. كما أورده في الاعتصام نقلاً عن الأحكام عن علي عليه السلام. أخرجه الستة.

والحجة على ذلك: ما رواه أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله ً، عن أيتام ورثوا خمراً فقال له: (( أهرقها )) . فقال: أَولا أجعلها لهم خلاً؟ قال: (( لا))(1).
وذهب أبوحنيفة إلى أن ذلك جائز.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( يطهر الدباغ الجلد كما يطهر الخل الخمر ))(2).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من تحريم تخليلها، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن النبي ً، (( أنه لعن عاصر الخمر ومعتصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه، إلى تمام عشرة أشخاص))(3)، وكل ذلك إنما كان لأجل تلبسهم وتعلقهم بها، ولا شك أن كل من عالجها وزاولها بالتخليل والعلاج لها، فقد لابسها، فيجب أن يكون داخلاً تحت لَعْنِهِ ً. فلو كان ذلك مباحاً لما لعنهم.
الحجة الثانية: قياسية. وحاصلها، أنا نقول: فعل محظور بحق اللّه تعالى، فلم يكن المقصود منه مباحاً لفاعله كما لو ذبح المُحْرِمُ صيداً لغيره.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روي عن الرسول ً، أنه قال: (( يطهر الدباغُ الجلدَ كما يطهر الخل الخمر)). فجعلهما سواء في الإباحة والصحة، وهذا هو مرادنا.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي. وفي حديث آخر عن أبي سعيد قال: كان عندنا خمر ليتيم، فلما نزلت المائدة سألت رسول اللّه ً عنه، فقلت: إنه ليتيم. فقال: ((أهرقه)). أخرجه الترمذي.
(2) راجع جواهر الأخبار وفتح الغفار.
(3) أخرجه الترمذي عن أنس، ولفظه كما جاء في الاعتصام ج4/391 قال: لعن رسول اللّه ً في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها. وأخرج أبو داود نحوه عن ابن عمر بلفظه، عدى أنه لم يذكر (وواهبها، وآكل ثمنها).

أما أولاً: فالمطالبة بصحة نقل هذا الحديث. فعلى ناقله تصحيحه ليصح الاحتجاج به.
وأما ثانياً: فلأن ظاهره متروك العمل عليه باتفاق من جهة أن ظاهره دال على أن الخل إذا خلط على الخمر، فإنه يطهرها، وهذا لا قائل به؛ لأن الخمر تنجس الخل، فكيف يكون مطهراً لها؟ فلا بد من تأويله.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: المراد إذا استحالت خلاً بنفسها، فأما أنها تُعَالَجُ بفعل فاعل، فما هذا حاله محظور من جهة الشرع لما أوضحناه.
قالوا: إنما أمر الرسول ً بإهراق خمر الأيتام ولم يأمر بتخليلها، من جهة أن ذلك كان واقعاً في أول الإسلام وكانوا قد ألفوها، فمنع من ذلك لأجل التشديد، ولهذا فإنه أمر بتمزيق الأزقاق وشقها من أجل ذلك، ثم لما استقر تحريمها نسخ.
قلنا: هذا فاسد، لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فإنا لا نسلم أن تحريمها لما ذكروه من الشدة والإعظام في النكير، بل جعل من أحكام الخمر كما جعل إيجاب الحد وتحريم البيع، ولَعْنُ البائع والمشتري والعاصر والمعتصر من أحكامها.
وأما ثانياً: فلأنه إن كان المنع من التخليل لما ذكروه من العلة، فلا شك في كونها باقية، فإنها مألوفة مطربة تدعو إليها الهزة والطرب، فوجب أن يبقى المنع كذلك.
وأما ثالثاً: فلأنها مختصة بلذة، ولها رائحة فائحة، وهزة مستلذة، فلا يأمن من أن يدعو تخليلها إلى شربها والمداومة عليه، فلا جرم كان ذلك محرماً كما حرمنا خطبة المعتدة في العدة مخافة الوقوع في المحظور.

ثم نقول: إنه وإن كان المنع من التخليل لما ذكروه، خلا أنه ممنوع بخطاب مطلق، فلا يجوز زوال حكمه بزوال العلة كما قلناه في الرمل والاضطباع في الطواف(1)، فإنه إنما شرع لإظهار الجَلَد للكفار، ثم إنه بقي مع زوال العلة، وكما شُرِعَ غُسلُ يوم الجمعة لزوال الروائح، ثم بقي وإن لم تكن هناك رائحة.
الفرع الثالث: إذا تقرر تحريم تخليلها، فلو أقدم مقدم على هذا المحظور فهل يكون حلالاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون حراماً، وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما في حديث أبي طلحة ) حيث قال له: يخللها؟ فقال ً: (( لا)). فلو كان التخليل لها يطهرها لأمره به، خاصة مع كونها مالاً لأيتامٍ يجب حفظه.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه مائع لا يرفع الحدث، فإذا تنجس لم تؤثر صنعة الآدمي في تطهيره كالخل، فإن الخل إذا تنجس لم يطهر بصنعة صانع فهكذا حال الخمر.
المذهب الثاني: أنها تكون حلالاً، وهذا هو الذي يحكى عن الناصر و المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) قال ابن منظور: واضطبع الشيء: أدخله تحت ضبعيه والاضطباع الذي يؤمر به الطائف بالبيت.. أن تدخل الرداء من تحت إبطك الأيمن وتغطي به الأيسر، كالرجل يريد أن يعالج أمراً فيتهيأ له. ا.هـ. لسان.
(2) هو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري، صحابي، من الشجعان الرماة، ولد في المدينة، ومات بها سنة 34هـ - 654م. عن سبعين سنة، وهو أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، شهد بدراً والمشاهد كلها، وكان ردف النبي ً يوم خيبر، روى عنه: ربيبه أنس بن مالك، وزيد الجهني، وابن عباس. ا.هـ. (در السحابة للشوكاني).

والحجة على ذلك: هو أنها إنما حرمت لمعنى وهو الشدة المطربة التي تختص بها، فإذا صارت خلاً فقد زال المعنى الموجب لتحريمها، كما لو لم تكن خمراً من قبل، ويؤيد ما ذكرناه، أن الماء إذا تنجس بنجاسة طارئة عليه، بأن غيرت أوصافه أو بعضها ثم زال ذلك التغير، فكما أنه يصير طاهراً مطهراً فهكذا ما نحن فيه.
والمختار: ما قاله الناصر والمؤيد بالله.
والحجة عليه: هو أنها خمر زالت شدتها من غير نجاسة وقعت فيها من غيرها، فوجب القضاء بطهارتها، وكونها حلالاً كما لو انقلبت خلاً بنفسها من غير تخليل.
ومن وجه آخر: وهو أن في تخليلها إصلاح فاسد وتطهير نجس، فكان مؤثراً في العلاج والتطهير كوضع البيض تحت الدجاجة، ومكاثرة الماء النجس بماء طاهر.
الانتصار: يكون ببطلان ما أوردوه.
قالوا: حديث أبي طلحة مانع من التخليل.
قلنا: قد تكلمنا عليه فأغنى عن الإعادة بما فيه كفاية.
قالوا: مائع لا يرفع الحدث، فإذا تنجس لم تؤثر صنعة الآدمي في تطهيره كالخل.
قلنا: الخمر إذا صارت خلاً طهرت بخروجها عن صفة الخمرية، بخلاف الخل فإنه لا يخرج عن كونه خلاً فلهذا لم يطهر بحال فافترقا.
الفرع الرابع: إذا صارت الخمر خلاً بنفسها من غير معالجة، فهل تطهر وتصير حلالاً يحل شربها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يحل شربها، وهذا هو الذي حكاه السيد أبوطالب عن كثير من أصحابنا.
والحجة على ذلك: هو أنها صارت خلاً بعد أن كانت خمراً فلا يحل شربها كما لو كان بالتخليل والمعالجة، وعلى منهاج هذه المقالة. قالوا: بأن العنب والتمر إذا صارا في هذه الجواني، فلا بد أن يعالج بالملح والخردل مخافة أن يصير خمراً، وأوجبوا ذلك؛ لأن العادة مطردة أن الخل لا يصير خلاً إلا بعد صيرورته خمراً، فلا جرم أوجبوا ما ذكرناه مخافة أن يكون خمراً فينجس ويحرم أكله.

المذهب الثاني: أنها تكون طاهرة ويحل شربها، وهذا هو الذي دل عليه كلام الهادي والقاسم، واختاره الأخوان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنها إذا صارت خلاً بنفسها، فقد استحالت عن الصفة التي أوجبت تحريمها وهي الخمرية، فجاز شربها كاللبن إذا استحال من الدم، وهو محكي عن الناصر.
والمختار: ما قاله الناصر والأخوان.
والحجة على ذلك: ما روى جابر بن عبدالله، أن الرسول ً، قال: (( نعم الإدام الخل ))(1). فأثنى عليه، وفي هذا دلالة على طهارته وعلى حل شربه، وقد عُرف في مطرد العادات واستمرارها، أنه يستحيل أن يكون خلاً من غير أن يكون خمراً، وفي هذه دلالة على أنها إذا صارت خلاً بنفسها من غير معالجة جاز وحل شربها وحُكم بطهارتها.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في تحريمها.
قالوا: صارت خلاً بعد أن كانت خمراً فأشبه ما لو عولجت بذلك، وقد قررنا أن علاجها لا يبيح ذلك.
قلنا: فرق بين أن يصير خلاً بنفسه وبين أن يصير بفعل الآدمي، فمتى صار خلاً بفعل الآدمي فهو نجس، وإن كان بنفسه طهر وحل شربه كما تقدم، كما يكون ذلك في الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه، ولا يحل إذا أخرجه آدمي.
الفرع الخامس: وهل يطهر الدَّنُّ الذي هي فيه أم لا؟ والأقرب: أنه يطهر، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يطهر إذا كان مما يقبل النجاسة كالدنان والقصاع والفخارات، وإن كان مما لا يقبل النجاسة طهر، كالزجاج وآنية البلور؛ لأنها إذا كانت مما يقبل النجاسة فإنه(2) لا يطهر إلا بالغسل، وإن كان مما لا يقبلها طهر بالحكم لأنه لا تنشب به.
__________
(1) أخرجه مسلم (1621/ 1622) ورواه أحمد في مسنده ج3/301، والبيهقي في السنن الكبرى ج7/280 . وروي بروايات متفرقة.
(2) لعل الصواب: فإنها.

51 / 279
ع
En
A+
A-