المذهب الأول: أنها طاهرة قبل الموت وبعده، وهذا هو رأي القاسم ويحيى وهو رأي أكثر أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثَاً وَمَتَاعَاً إِلَى حِيْنٍ }[النحل:80].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى أوردها على جهة الامتنان علينا بما جعل فيها من المنافع لنا في الرزق واللباس وجميع أنواع المنافع العظيمة فيها، ثم إنه لم يفصل في ذلك بين الميت منها والمذكى بحال، فلو كانت نجسة لكان لا وجه للامتنان بهذا الإنعام، بل يجب تجنبها كما في غيرها من سائر النجاسات التي ورد الشرع بالتنزه عنها وإبعادها.
الحجة الثانية: قول ً، فيما روت أم سلمة، قالت: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( لا بأس بشعر الميتة وصوفها إذا غسل بالماء ))(1). وهذا نَصٌّ في مرادنا.
وقوله: (( إذا غسل بالماء)). ليس شرطاً في طهارته، وإنما أراد أنه لا يكاد ينفك عن تلوثه بصديدها أو عرقها أو شيء من رطوباتها، فلهذا ندب إلى غسله، ويحتمل أن يكون واجباً لما ذكرناه، وقوله ً: (( إنما حَرُمَ من الميتة أكلها))(2). فيه دلالة على أن التحريم إنما يتناول ما يتأتى فيه الأكل، والشعر، والصوف، والقرن، والضلف لا يتأتى فيه الأكل، فلهذا لم يكن التحريم متناولاً له.
الحجة الثالثة: قياسية، وهي أن جواز الانتفاع غير موقوف على حصول الذكاة، فوجب أن يكون حكمه بعد الموت مثل حكمه قبله، دليله: البيض والولد.
__________
(1) روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: سمعت أم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه ً يقول: الحديث. حكاه في أصول الأحكام. ا.هـ. جواهر.
(2) عن ابن عباس أن رسول اللّه ً مر بشاة ميتة فقال: ((هلاَّ انتفعتم بإهابها))؟ قال: إنها ميتة؟ قال: ((إنما حرم أكلها)). قال في جواهر الأخبار: هذه إحدى روايات البخاري ومسلم. ولهما ولأبي داود والترمذي روايات أُخر.
المذهب الثاني: أنها نجسة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة له على ذلك: الآية والخبر الدالان على تحريم الميتة، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وقوله ً: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). فهذان دالان على المنع من استعمال الميتة و[على] نجاستها وهذا هو مقصودنا.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم من علماء الأمة لما حكيناه عنهم في الاستدلال؛ ونزيد هاهنا وهو أن الشعر والوبر والصوف لو كانت نجسة من الميتة لوجب الحكم عليها بالنجاسة ولو كان الحيوان حياً، لقوله ً: (( ما أبين من الحي فهو ميت )). فلما توافقنا على أنها طاهرة وإن قطعت من الحيوان في حال حياته، دل ذلك على طهارته وإن قطعت بعد موته. والجامع بينهما: هو أنه لا حياة فيها فلهذا كانت طاهرة.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الآية دالة على تحريم الميتة، ولم تفصل بين بعض وبعض منها، والصوف والشعر والظفر والقرن من أبعاضها فيجب أن تكون نجسة.
قلنا: ليس في ظاهر الآية ما يدل على النجاسة وإنما هي نَصٌّ في التحريم، وكم من المحرمات ما هو ممنوع حرام وليس نجساً كالأنصاب والأزلام - وهي قداح الميسر - فليس في ظاهر الآية إلا مطلق التحريم، وليس فيه دلالة على النجاسة، وكلامنا إنما هو في نجاستها دون تحريمها. على أنا نقول: المقصود هو تحريم أكلها، والأكل بمعزل عن النجاسة، فنحن نقول بأنه لا يجوز أكلها ويجوز استعمال ما كان طاهراً منها مما لا تحله الحياة كالصوف والشعر والقرن، ثم إنا وإن سلمنا العموم كما زعمتم، لكنا نخصها بما ذكرناه من الأدلة، فنستعمل العموم فيما عدا ما ذكرناه، ونستعمل الخصوص فيما تناولته أدلتنا، فيكون عملاً بالدليلين جيمعاً ولا حاجة إلى إبطال أحدهما، فيخرج ما لا تحله الحياة من صوف أو شعر أو قرن أو غير ذلك، ويبقى ما عداها.
قالوا: الخبر دال على منع الانتفاع من الميتة.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم اندارج هذه الأشياء تحت عموم الخبر؛ لأن الْمَيْتَةُ إنما تكون لِمَا فارق الحياة وكان ميتاً، وهذه الأشياء ليس فيها حياة قبل الموت ولا بعده فلا يطلق عليها اسم الميتة لما ذكرناه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا اندراجها تحت العموم لكنها خرجت بالأدلة التي ذكرناها من أجل الخصوص، فيكون الخبر معمولاً به في غير ما تناولته أدلتنا الخاصة، وفيه الوفاء على العمل بالدليلين كما أشرنا إليه.
قالوا: جزء متصل بذي روح ينمو بنمائه فوجب أن ينجس بالموت كالظهر والبطن.
فقولنا: جزء متصل، نحترز به عن الولد والجنين فانهما يكونان طاهرين عند الانفصال.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
وأما أولاً: فلأن المعنى في الأصل، أنه لا يجوز قطعها ولا يحل استعمالها في حال حياته فلهذا كانت نجسة بالموت، بخلاف ما نحن بصدده فإنه يجوز قطعها عن الحيوان في حال حياته، ويجوز الانتفاع بها فلا جرم لم تنجس بالموت.
وأما ثانياً: فهو أنها تحلها الحياة فلهذا تنجست بالموت، بخلاف مسألتنا فإنها لا تحلها الحياة فلم تكن نجسة بالموت، فإذا وقع الفرق من هذين الوجهين بطل الجمع بما ذكرتموه، والفرق أدخل ما يكون في إبطال ما ذكره القائس لكونه إبطالاً لفقه الجمع.
قالوا: جزء مضمون من الصيد بالجزاء، فوجب أن تكون فيه حياة كالعين والأذن.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن المضمون من الصيد هو نقصان ما فات منه، سواء كان فيه حياة كسائر أعضائه أو لم تكن فيه حياة كالبيض والريش.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه منقوض باللبن، فإنه مضمون من الصيد، وإن لم تكن فيه حياة فعدم الحياة لا يؤثر في جبران النقص من الصيد؛ لأن المقصود هو ضمان ما نقص بكل حال.
قالوا: قد أشار الرسول ً، إلى غسله إذا أريد استعماله، فلولا أن فيه حياة تنجس بالموت وإلا لما أمر بغسله.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن هذا يُبطل عليكم ما قلتموه من نجاستها؛ لأنه لو كان من جملة الميتة لم يأمر بغسله؛ لأنه لا يطهر بالغسل من جهة أن نجاسته عينية كنجاسة الكلب والخنزير، فالأمر بالغسل يُبطل كونه نجساً.
وأما ثانياً: فإنه إنما أمر بغسله لما كان طاهراً في ذاته كما قلناه، لكنه ربما سنح له النجاسة لأجل اتصاله بالميتة، فلا يؤمن هناك اتصاله برطوبتها من دم أو روث أو قيح أو صديد أو غير ذلك، فلهذا كان غسلها مأموراً به لما ذكرناه.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن مني بني آدم نجس، سواء كان خروجه على طهارة أو غير طهارة، لا يختلفون فيه، وهذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومحكي عن الأوزاعي ومالك، ومثله خَرَّج صاحب (التلخيص) على رأي الشافعي، ويدل على ذلك حُجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: خبر عمار، قال: مر بي رسول اللّه ً، وأنا أسقي راحلتي فتنخمت فأصابتني نخامتي فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه ً: (( ما نخامتك ودموع عينيك إلا كالماء في ركوتك )) ثم قال: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء والمني )). فأوجب غسل الثوب منه، فلولا أنه نجس لما أوجب غسل الثوب منه، ولأنه أدرجه في ضمن هذه النجاسات فكان نجساً مثلها.
الحجة الثانية: ما روي عن النبي ً، أنه سأله رجل عن المني يصيب الثوب فقال: (( أمطه عنك بإذخرة (1) فإنما هو كمخاط أو بصاق))(2). فأمره بإزالته فلو كان طاهراً لما أمره بإزالته ولأنه قال: (( أمطه بإذخرة)) دل ذلك على مبالغة في نجاسته، ولهذا فإنه زاد في إزالة أثره بالإذخرة، وإنما قال: (( فإنما هو كمخاط أو بصاق)). لما فيه من المشابهة لهما في الغلظ واللزوجة والبياض وليس الغرض مشابهته لهما في الطهارة، إذن لا فائدة في الإزالة.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنه مائع يجب الغُسل بخروجه، فوجب كونه نجساً كدم الحيض، أو نقول: خارج من الإحليل فوجب كونه نجساً كالبول والمذي. فهذه الأدلة كلها دالة على نجاسته.
وذهب الشافعي في قوله المشهور غير ما حكاه صاحب (التلخيص): إلى أنه طاهر ما لم تصبه نجاسة عارضة عليه. وإلى هذا ذهب ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة من الصحابة رضي اللّه عنهم.
والحجة لهم على ذلك: ما روته عائشة، أنه بلغها أن رجلاً غسل ثوبه من المني، فقالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً وهو يصلي.
قالوا: فلو كان نجساً لما انعقدت معه الصلاة، ولهم أدلة غير هذا نوردها عند ذكر الانتصار عليهم في هذه المقالة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم، في كونه نجساً لما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا حُججاً:
الحجة الأولى: ما روته عائشة (رضي اللّه عنها) قالت: (( كان رسول اللّه ً، يغسل المني من ثوبه ثم يخرج إلى الصلاة)).
__________
(1) جمعها: الإذخر، وهو حشيش طيب الريح. ا.هـ قاموس.
(2) جاء في جواهر الأخبار عن التلخيص: فائدة: روى الدار قطني والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال: سئل النبي ً عن المني يصيب الثوب، قال ً: ((إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق)) وقال: ((إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة)).ا.هـ. ملخصاً.
[الحجة الثانية]: وعن عمر رضي اللّه عنه: أنه غسل موضع الاحتلام من ثوبه. وعن عبدالله بن مسعود أنه قال: إذا وجدت المني فاغسله.
[الحجة الثالثة]: وعن ابن عمر أنه كان يغسله من ثوبه، فهؤلاء الجلة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) روي عنهم غسله، فلولا كونه نجساً لما واظبوا على غسله كسائر النجاسات.
ولأنه خارج من الإحليل لشهوة فوجب كونه نجساً كالمذي، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فوجب كونه نجساً كالبول والعذرة، فهذه المعاني كلها دالة على نجاسته.
الانتصار: يكون بإيراد ما جعلوه عمدة لهم وإبطاله.
احتجوا بقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالْتَّرَائِبِ}[الطارق:5 - 7].
ووجه الاحتجاج بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى إنما أوردها على جهة الامتنان وإظهار القدرة، وكمال الامتنان إنما يكون بأن يخلقه من الطاهر دون النجس، فلهذا حكمنا بطهارته.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الآية إنما سيقت لبيان افتقاره إلى الحفظ، لكونه مبنياً من حالة ضعيفة. ولهذا قال تعالى(1):{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }[الطارق:4].
والمعنى: وإنما كان مفتقراً إلى حافظ لكونه مخلوقاً من ماء رقيق، وأعظم ما يحتاج إلى الحفظ، الماء لرقته وتفرق أجزائه ولكونه أيضاً على صفة الدفق عن مقره ومكانه، يفتقر إلى الحفظ؛ لأن أحوج ما يحتاج إلى الحفظ ما فارق محله وزايله.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن الآية واردة على جهة الامتنان، فالغرض من الامتنان إنما هو بالخلق وتقويمه وتسوية السمع والبصر وجميع أنواع المنافع في الخلقة لا من أجل الطهارة، وكم بين الإمتنان بما ذكرناه وبين الإمتنان بطهارة الماء.
__________
(1) في الأصل: أعقبها بقوله.
وأما ثالثاً: فإنه ليس في ظاهر الآية ما يدل على نجاسة ولا طهارة، وإنما تعرض لذكر كونه ماءً دافقاً، فلا يكون فيه حجة على ما طلبوه، اللهم إلا أن يعضدوه بقوله ً: (( خلق الماء طهوراً)). وهو من جملة الأمواء، لكن هذه دلالة مستقلة على حيالها سنجيب عنها، فلا يخلطان دلالة واحدة.
قالوا: ورد قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}[الإسراء:70]. فلو كانوا مخلوقين من النجاسة لم تكن هناك كرامة، ثم إنها واردة على جهة الإمتنان، ولن يكون ذلك إلا بأن يكون محكوماً عليه بالطهارة.
قلنا: الكرامة إنما كانت بتسوية الخلقة وإكمال العقل، وتمكينه من المنافع كلها، وما لا يكون لشيء من الحيوانات المخلوقة غيرهم، وأيضاً، فكان من جملة الكرامة ألا يجري في مجرى الحيض، ويخرج من مخرج البول، ويوضع في الأرحام، وهي أسخف مكان، وهذا يبطل ما توهموه من الكرامة.
قالوا: روت عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً، في الصلاة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن هذا إنما هو كلام عائشة، وليس فيه عن رسول اللّه ً، شيء، والحجة إنما هي في كلام رسول اللّه ً، لا في كلام عائشة، ولم تَحْكِ عنه شيئاً في طهارته.
وأما ثانياً: فنهاية الأمر، أنه مذهب لعائشة وأنها تقول به، فالرد عليها كالرد على سائر المجتهدين في المسألة من غير تفرقة.
وأما ثالثاً: فلعل الرسول ً لم يشعر بكونه متصلاً بثوبه فيأمر بغسله أو يقرها عليه، فلا تكون فيه حجة.
ثم إنا نقول: لو كان طاهراً، فأي حاجة إلى الفرك كما لا يحتاج اللعاب إلى الفرك، فالفرك على نجاسته أدل منه على طهارته، ولهذا فإن أباحنيفة يذهب إلى نجاسته، لكنه يكتفي بالفرك في طهارته، كما سنقرره في كيفية إزالة النجاسات.
قالوا: مبتدأ خلق بشر، فكان طاهراً كالطين.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا منقوض بماء المرأة، فإنه مبتدأ خلق البشر، ثم إنه نجس باتفاق منا ومنكم.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونه غير خارج من مخرج الحدث، فلهذا كان طاهراً بخلاف المني فافترقا.
قالوا: خارج من حيوان طاهر تخَلَّق منه مثل أصله فوجب كونه طاهراً كالبيض.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه يبطل بالسرقين(1) فإنه خارج من حيوان طاهر مثل أصله في كونه حيواناً، فيلزم أن يكون طاهراً، وأنتم لا تقولون به.
فإن قيل: قد احترزنا بقولنا: تَخَلَّق منه مثل أصله والدود الخارج من السرقين ليس مثل ما خرج منه السرقين في الجنسية، فلا يلزم ما ذكرتموه.
فجوابه بالفرق، وهو أنا نقول: إن البيض يجوز أكله والانتفاع به، فلهذا قلنا بطهارته، بخلاف المني فإنه لا يجوز أكله ولا يحل الانتفاع به فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في البيض، أن له حجاباً يحجزه عن اتصال النجاسة به من مخرجه، بخلاف المني فإنه لا حجاب يحجبه عن اتصال النجاسة به في مخرجه.
قالوا: مائع يتعلق به التحريم، فكان طاهراً كاللبن.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن التحريم متعلق به، وإنما مستند التحريم هو وطؤ المرأة، والتقاء الختانين فلا يلزم ما ذكروه.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في اللبن أن ما وقع به التحريم من جهة جواز شربه وكونه غذاءً يُنبت اللحم وينشز العظم، فلأجل هذا كان مؤثراً في التحريم كالنسب، بخلاف المني فإنه لا يجوز شربه ولا ينبت لحماً ولا ينشز عظماً فافترقا.
قالوا: أصل لتكوين الخلقة الآدمية، فوجب كونه طاهراً كالتراب.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم كونه أصلاً للتكوين، وإنما الأصل هو التراب في الحقيقة، على أنما ذكروه منقوض بالعلقة والمضغة، فإنهما أصلان للتكوين، ومع ذلك فإنهما نجسان.
وأما ثانياً: فنقلب عليهم، ونقول: أصل للتكوين، فكان نجساً كماء المرأة، فبطل ما توهموه، ويتفرع على هذه المسألة فروع ستة:
__________
(1) السرجين والسرقين بكسرهما: الزِّبل (روث البهائم).ا.هـ قاموس.
الفرع الأول: ذهب علماء العترة إلى أن منيَّ الكلب والخنزير نجسان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من أحد السبيلين فكان نجساً في حقهما كالبول، والخلاف في ذلك مع من قال بطهارة الأبوال إلا بول بني آدم، كالذي حكيناه عن داود وقد مر فلا نعيده؛ لأنهم يجعلون منيه من جملة فضلاته فأشبه عرقهما وسؤرهما.
الفرع الثاني: منيُّ ما يؤكل لحمه كالبقر والغنم والإبل، طاهر عند أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وحكي عنه قول آخر: أنه نجس.
والحجة على ما قلناه: هو ما ذكرناه من الدليل على طهارة أبوالها وأرواثها، وقد تقدم الكلام عليه، وقد مر الاختيار والانتصار له فأغنى عن الإعادة.
الفرع الثالث: مني ما لا يؤكل، كالحمار والفرس وسائر السباع، نجس عند أئمة العترة، فأما الشافعي فله فيه أقوال ثلاثة:
أحدها: أنه نجس بكل حال.
وثانيها: أنه طاهر بكل حال.
وثالثها: التفرقة بين ما يؤكل لحمه وبين ما لا يؤكل لحمه مثل مذهبنا.
والحجة على ما قلناه: هو ما ذكرناه من الدليل على نجاسة أبوالها وأرواثها، فما دل على ذلك فهو دليل على نجاسة ما يظهر منها من المنيّ وقد مر فلا وجه لتكريره.
الفرع الرابع: المنيُّ مثقل الحشو، لا يجوز تخفيفه، واشتقاقه من منى الماء إذا صبه، قال اللّه تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى }[القيامة:37]. أي يُصب في الأرحام. وهل يجوز شربه أم لا؟ فالذي عليه علماء العترة، أنه لا يجوز شربه، وهو المشهور عن الشافعي، وحكى المروزي من أصحاب الشافعي: أنه يحل شربه.
والحجة على ما قلناه من تحريم شربه: هو أنا قد دللنا على نجاسته فلا يجوز شربه، ولأنه خارج من مخرج الحدث فلا يجوز شربه ولا الانتفاع به كالبول.
وبيض ما لا يؤكل لحمه، نحو سباع الطير والغراب والحدأة، ظاهرها نجس؛ لأنها خارجة من الدبر، فأشبهت الروث والزِّبْل(1) وقد قررنا نجاسة ذروقها، فإن غُسلت طهر ظاهرها، ولا يحل أكلها؛ لأنها بعض من أبعاضه فأشبهت سائر أعضائه.
الفرع الخامس: المَذْيُ، وهو بالتخفيف لا يجوز تثقيله(2)، وهو ماء رقيق يكون عند تحرك الشهوة، روي عن النبي ً أنه قال: (( المذي رائد المني )). وأراد: أنه لا يكون إلا لشهوة، كما أن المني كذلك، وهو نجس عند أئمة العترة وهو قول عامة الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي [عن] أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري، فذكرت ذلك لرسول اللّه ً فقال: (( لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك ))(3). وقوله ً: (( كل فحل يُمذي فإذا وجدت الماء(4) فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة)). وعن عبدالله بن مسعود قال: سألت رسول اللّه ً عن الماء يكون بعد الماء، فقال: (( ذلك المذي فاغسل فرجك وأنثييك)). فهذه الأخبار كلها دالة على نجاسته.
ومن جهة القياس: وهو أنه خارج من مخرج المني فكان نجساً كالبول، وحكي عن فريق من الإمامية، أنهم قالوا بطهارته.
__________
(1) الزِّبل بكسر الزاي وسكون الباء، السرقين، كما جاء في اللسان، هو: الروث أو السماد الذي يكون من الروث.(الروث: فضلات الحيوانات).
(2) التخفيف للمذي: بسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء.
(3) هذا الحديث مشهور، رواه جمهور المحدثين وأصحاب الصحاح عن علي عليه السلام، لما أمر المقداد أن يسأل النبي ً عن المذي؛ لأنه كان يغتسل منه. فقال رسول اللّه ً: ((إنما يكفيك أن تنضح فرجك وتتوضأ للصلاة)) وفي رواية: ((لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك)). الحديث وهو مروي بعدة ألفاظ وروايات، ومن طرق شتَّى. ا.هـ.
(4) الماء هنا: المذي.