قالوا: لو عاد طاهراً بالغسل لجاز أن يعود الكلب والخنزير طاهرين إذا غسلا ولا قائل بهذا القول، فبطل أن يكون غسله موجباً لطهارته.
قلنا: التفرقة بينهما ظاهرة، فإن نجاسة الكلب والخنزير لم يرد الشرع بأنها تزول بالغسل ولا ورد الشرع بغسلهما بحال، فدل ذلك على أن النجاسة باقية فيهما وأن الشرع لم يلحظ فيهما الطهارة أصلاً بخلاف المسلم إذا غُسل بعد موته، فإنه لما ورد الشرع بغسله بان لنا أن الطهارة في حقه ملحوظة بنظر الشرع وحكمه، وتحقق ما ذكرناه من كون الطهارة في حق المسلم ملحوظة شرعاً جواز الصلاة عليه، والصلاة من حكمها الطهارة فيما يصلى فيه وعليه وطهارة الجسم والمكان والأثواب كما سنوضحه، فسقط ما قالوه، والله أعلم.
الفرع الثاني: إذا انفصل من جسم ابن آدم عضو من أعضائه في حال حياته فهل يكون طاهراً أو نجساً؟ فالذي عليه علماء العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك، وأحد قولي الشافعي أنه نجس.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( ما أبين من الحي فهو ميت) ). وحكي عن الشافعي قول آخر: أنه يكون طاهراً، عملاً على أنه لا ينجس بالموت فتصير ميتته طاهرة كانفصال ما ينفصل من السمك والجراد في حال حياته.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن وافقهم، وهو الأصح من قولي الشافعي لما قررناه من أنه ينجس بالموت، ثم إنا لو سلمنا ما زعموه من طهارته عند الموت فالحكم بالطهارة إنما تثبت لجملته دون أبعاضه.
الفرع الثالث: ذهب علماء العترة إلى أن لبن الميتة نجس، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه مائع غير الماء لاقى نجاسة فوجب الحكم عليه بالنجاسة، كما لو حُلب في إناء لُطخ بالبول والعذرة، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه طاهر.

والحجة لهم على ما قالوه: وهو أنه إنما يتصل بوعاء اللبن الحاصل في الضرع وليس فيه حياة فينجس بملاقاة ما انفصلت عنه الحياة وإنما ينجس وعاء اللبن بملاقاة الميتة فهو حائل بين الميتة واللبن فلهذا كان طاهراً.
والمختار في ذلك تفصيل: وهو أنه إن صح أن اللبن حاصل في إناء غير الضرع الميت فهو طاهر كما قاله السيد أبو طالب؛ لأنه غير مجاور للميتة، وإنما جاور ما جاور الميتة، وإن كان حاصلا في الضرع نفسه كما قال المؤيد بالله بالمجاورة وهو رأي الشافعي وإذا كان الأمر كما قلناه، ارتفع النزاع في المسألة وصارت وفاقية.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: مائع لاقى النجاسة فكان نجساً.
قلنا: إذا كان وعاء اللبن أمراً مخالفا للضرع فلا شك في طهارته، فلا نسلم الملاقاة للنجس، وإن كان الملاقي هو الضرع نفسه من غير وعاء فهو نجس لا محالة، فإذن الخلاف في المسألة ربما كان لفظياً على التفصيل الذي ذكرناه.
الفرع الرابع: إنفحة الميتة نجس عند أئمة العترة وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء بنقطة من أعلاها وحاء مهملة: هو شيء أصفر يكون في كرش الجدي مالم يأكل الشجر واتصاله بالنجاسة ظاهر، فلهذا كان نجساً، دليله سائر رطوبات الميتة من دمها وفرثها، يؤخذ فَيُفَتُّ على الجبن فينعقد به، فما كان مأخوذاً من الميتة فهو نجس لما ذكرناه من الاتصال بها، وذهب أبو حنيفة إلى طهارته.

والحجة له على ذلك: هو أن الرسول ً خرج إلى غزوة الطائف فأتوه بالجبن، فقال عليه السلام: (( أين يصنع هذا))؟ فقالوا له: بأرض فارس، فقال عليه السلام: (( اذكروا اسم اللّه عليه ثم كلوا ))(1). ولا شك أن ذبائح المجوس نجسة؛ لأنها ميتة، فظاهر الخبر دال على طهارة الإنفحة؛ لأن جبنهم لا ينعقد جبناً إلا بها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم على ذلك.
والحجة على ذلك: ما قدمناه؛ ونزيد ههنا وهو أن الإنفحة نازلة منزلة أعضاء الميتة في كونها متصلة بالميتة، فلهذا حكمنا بنجاستها كنجاسة أعضاء الميتة.
الانتصار: قالوا: الحديث دال على طهارة الإنفحة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوْا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ }[الأنعام:121]. ولا شك أن المجوس ليسوا أهل كتاب عندنا، فذبائحهم تكون ميتة لا محالة فلهذا كان منسوخاً.
وأما ثانياً: فلأن المجوس قد قيل: إنهم لا يذبحون لأنفسهم، بل كان يذبح لهم اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، ومن منع من ذبائح المجوس لم يمنع من ذبائح أهل الذمة، وهي مسألة خلاف بين أهل القبلة، كما سنوضحه في الذبائح بمعونة اللّه تعالى.
قالوا: ما جاز أن يؤخذ من الحيوانات في حال حياته، فإنه لا ينجس بالموت كالبيض.
قلنا: [هذا] فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الإنفحة لا يمكن أخذها إلا بالذبح فهو مخالف للبيض؛ لأنها من كرش الجدي.
وأما ثانياً: فالتفرقة بينهما ظاهرة، وهو أن للبيض قشراً يمنع من وصول النجاسة إليه بخلاف الإنفحة فإنها متصلة برطوبة كرش الجدي فلهذا لم تفارقه في النجاسة.
__________
(1) رواه في جواهر الأخبار عن الانتصار. وأخرج أبو داود عن ابن عمر نحوه. والجبن: بضم الجيم وتسكين الباء الموحدة وبضمها وتضعيف النون، مفرده جُبُنَّه وهو الذي يؤكل. ا.هـ لسان.

الفرع الخامس: ألبان ما يؤكل لحمه طاهرة كالبقر والغنم والإبل؛ لأنها متاع للخلق وفيها قوام لهم كاللحم والشحم عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، وألبان الآدميات المسلمات طاهرة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة؛ لأنها قوام الأطفال ومتاع لهم، ولو كانت نجساً لما جاز إطعامهم إياها، وإذا حل اللبن فالزبد والجبن والسمن من ذلك طاهر حلال؛ لأن أصلها لبن، فإذا كان طاهراً فهذه طاهرة، وألبان السباع والخيل والحمير نجسة عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة، وحكي عن الحقيني أنها طاهرة.
والحجة على ذلك: هو أنها رطوبة منفصلة من حيوان لا يؤكل لحمه فكانت طاهرة كالدمع والعرق.
والمختار: أنها نجسة؛ لأنها فضلة مستحيلة من الدم، فكانت نجسة كالمني منه.
الانتصار: قالوا: فضلة تشبه العرق.
قلنا: إنها بالمني أشبه؛ لأنهما جميعاً يستحيلان من الدم، فلهذا كان إلحاقها بالمني أقرب، ولأنها ألبان ما لا يوكل لحمه فأشبه لبن الكلاب والخنازير، وما كان لبنه نجساً كهذه الحيوانات، فالزَّبْد والسمن والجبن نجس من جميع ذلك كله.
الفرع السادس: شعر الكلب، وفيه مذاهب ثلاثة:
أولها: أن شعره نجس، وهذا هو مذهب الهادي وأجازه الأخوان السيدان، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن عبدالله بن المُغَفَّل ) أن الرسول ً قال: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب)). وإنما وجب ذلك فيه لنجاسته، فإذا تقررت نجاستة بما ذكرناه فشعره يجب أن يكون نجساً؛ لأنه شعر حيوان نجس فأشبه شعر الخنزير.
__________
(1) عبدالله بن مغفل بن عبد نهم المزني، أبو سعيد، صحابي جليل، من أهل بيعة الرضوان، سكن المدينة، وكان أحد العشرة الذين أرسلهم عمر إلى البصره ليفقهوا الناس بها، وهناك مات سنة 57هـ، وقيل: 61هـ. وله أحاديث عن النبي ً، وعن أبي بكر، وعثمان، وعبدالله بن سالم. (تراجم در السحابة 792 د.العمري).

وثانيها: أنه طاهر، وهذا شيء يُحكى عن الباقر )، والصادق، والناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه شعر نابت على أصل نجس فكان طاهراً كشعر الميتة وصوفها، أو نقول: شعر لا تحله الحياة، فكان محكوماً عليه بالطهارة، دليله: شعر الميتة.
وثالثها: التفرقة بين شعر الكلب والخنزير، وهذا هو رأي أبي حنيفة، فإنه قال بطهارة شعر الكلب، وقال: إن شعر الخنزير نجس.
والحجة له في التفرقة بينهما: هو أن الخنزير لا جلد له وإنما شعره نابت على لحمه فكأنه بعضه فلهذا كان نجساً، بخلاف الكلب فإن له جلداً وشعره نابت على جلده فلهذا كان طاهراً مثل شعر الميتة وصوفها.
والمختار: ما قاله الأخوان من نجاسته لكونه نابتاً على محل نجس، فلهذا كان نجساً كجلده ولحمه، ولما روي أن الرسول ً دعي إلى دار فلم يجب ودعي إلى دار فأجاب، فقيل له في ذلك، فقال: (( إن في دار فلان كلباً)). فقيل له: وفي دار فلان هرة. فقال: (( إن الهرة ليست بنجس ))(2). فدل ذلك على أن الكلب نجس، ولم يفصل بين شعره ولحمه وعظمه.
الانتصار: قالوا: شعر نبت على محل نجس، أو لا حياة فيه فكان طاهراً كشعر الميتة.
__________
(1) أبو جعفر الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين السبط، الثبت، الثقة، أحد أعلام عصره، علماً، وعبادة، واجتهاداً، وجهاداً في الله، لقب بالباقر لأنه بقر العلم بمعنى شقه، وكشف حقائقه، وأبان خفاياه، كونه من الرواد في علمي الأصول، ولد سنة56هـ، وتوفي سنة 114هـ. عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين في المدينة.
(2) رواه في المهذب والشفاء وجواهر الأخبار.

قلنا: المعنى في الأصل: أن النجاسة في الميتة طارئة بخلاف نجاسة الكلب فإنها أصلية، ثم إنا نعلم أن أحداً من المسلمين لم يستعمل شعر الكلب في حالة من الحالات، وفي هذه دلالة على استقذاره، وأنهم إنما تركوه من أجل نجاستة وقذره، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن)).
الفرع السابع: شعر الخنزير، وفيه مذهبان:
أحدهما: أنه نجس لا يجوز الانتفاع به في الحرز ولا في غيره، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
وحُكي عن مالك: طهارة الخنزير كله، وحكي عنه: نجاسته.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }[الأنعام:145]. والرجس: هو النجس، فالضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ}. يرجع إلى الخنزير؛ لأنه أقرب المذكورين ومن حق الكناية أن تكون راجعة إلى أقرب المذكورين، ولم يفصل بين شعره ولحمه وجلده.
وثانيهما: أنه طاهر، وهذا هو المحكي عن الصادق والباقر والناصر.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم في الاستدلال على طهارة شعر الكلب فلا وجه لتكريره.
والمختار: هو القول بنجاسة شعره؛ لأنه في نظر الشرع كالكلب فهو أدخل في النجاسة والتقذير من الكلب، من جهة أن الكلب يُقتنى للصيد والزرع والماشية ويؤنس به، بخلاف الخنزير فإنه لا يُراد لواحد من هذه المنافع، ولا يكاد يوجد في اليمن، وإنما يوجد في بلاد الروم والصين والديار المصرية، وأكثر من يأكل أولاده المغل(1) ومن لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وما قررناه في الانتصار عليهم في نجاسة الكلب فهو بعينه هاهنا وارد في الخنزير.
وإذا قلنا بنجاسة شعره فهل يجوز الانتفاع به أم لا؟ فالذي عليه أكثر أئمة العترة أنه لا يجوز الانتفاع به في الحرز ولا في غيره.
__________
(1) قال في القاموس: وبنو مغالة: قوم.. ا.هـ.

والحجة على ذلك: هو أنا قد قررنا نجاسته وتحريم ملابسته ولم تفصل الأدلة، في ذلك، هذا هو رأي الشافعي، وأبي يوسف، وحكي عن الناصر، والباقر، والصادق جواز الانتفاع به؛ لأنه على مذهبهم طاهر، كما قررناه من قبل، وحُكي عن أبي حنيفة جواز الانتفاع بشعر الخنزير للأساكفة، وحُكي عن محمد طهارة شعره كما حكيناه عن الباقر، والصادق، والناصر، وحكي عن القاسم أن ترك الانتفاع بشعره أفضل، وفي هذا تنبيه من مذهبه على الجواز، وعلى كونه غير محرم الاستعمال.
والمختار: هو التنزه عنه؛ لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين شعر وعظم ولحم، ولأن شعره جزء من أجزائه فلم يجز الانتفاع به كغيره من أجزائه المتصلة به، والله أعلم.
الفرع الثامن: في شعور بني آدم وأظافرهم، و فيها مذهبان:
أحدهما: أنها طاهرة كلها سواء أُخِذَت في حال الحياة أو في حال الموت، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه شعر طاهر نابت على محل طاهر فوجب الحكم عليه بالطهارة كما إذا كان ذلك قبل الموت، وطُرُوُّ الموت لا يوجب تنجيسه؛ لأن الحياة غير حالة فيه فلهذا استوى حالاه قبل الموت وبعده.
وثانيهما: ما حكي عن الشافعي: أنه طاهر في حال الحياة ونجس بعد الموت، وحكي ذلك عن محمد بن يحيى ) وخطأه السيد أبوطالب في ذلك. وقال: إن مذهب القاسم، ويحيى [ابن الحسين]: أنه طاهر؛ لكونه نابتاً على محل طاهر.
__________
(1) الإمام المرتضى محمد بن الهادي يحيى بن الحسين الهادي بن القاسم بن إبراهيم. ولد سنة 278هـ، وأخذ عن والده الهادي إلى الحق مؤلفاته وغيرهما، وكان عالماً بالفقه وأصول الدين، وله من المؤلفات: كتاب (الإيضاح)، وكتاب (النوازل) في الفقه، وغيرها في علم الكلام وغيره. وكان زاهداً، ورعاً، قام بالإمامة بعد أبيه، ثم تنحى عنها لأخيه الناصر بعد ستة أشهر، واشتغل بالعلم والعبادة حتى توفي في شهر المحرم سنة 310هـ. (مقدمة الأزهار).

والحجة لهم على ذلك: هو أن الأدلة الشرعيةلم تفصل في حق الميتة بين شعر ولحم ودم، فلهذا قضينا بنجاسة ما كان متصلاً بها.
والمختار: ما عليه أكثر أئمة العترة من طهارتها في الحياة والموت.
والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد ههنا، وهو أن هذه الشعور ليست من جملة الحي، ولهذا فإنه لا يتألم بقطعها ولا تؤذيه مفارقتها، فوجب أن لا تكون من جملة الميتة؛ لأن ما لا يلحقه حكم الحياة فلا يلحقه حكم الموت كالثوب والقميص.
وقد حُكي عن الشافعي قول ثانٍ: أنه نجس على الإطلاق، وقول ثالث: أنه طاهر على الإطلاق، وحُكي عنه: أنه يتبع الجلد، فإن كان الجلد طاهراً فهو طاهر، وإن كان نجساً فهو نجس.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الأدلة الشرعية دالة على تحريم الميتة على جهة العموم، فلا وجه لإخراج شعرها وظفرها من غير دلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم اندراج ما ذكرناه تحت العموم، فإن المقصود في تحريم الميتة إنما هو أكلها، فما ذكرتموه دعوى غير مسلَّمة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا العموم كما زعمتم لكنا نخرج ما ذكرناه بدلالة القياس، والتخصيص بالقياس يكون عملاً بالقياس والظاهر جميعاً، فبقي الظاهر على عمومه ويخرج بالقياس ما تناوله وفيه عمل بالدليلين جميعاً، وما ذكرتموه تعويل على الظواهر وإهمال للقياس وإلغاء، فلا يكون مقبولاً.
الفرع التاسع: عظم الميتة وعصبها، ذهب علماء العترة إلى [أن] عظم الميتة وعصبها نجسة كلها، وهو قول مالك والشافعي.

والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. ولا شك أن العظم والعصب من جملة الميتة، وهو تعالى لم يفصل بين جزء منها وجزء، فيجب أن تكون محرمة كلها إلا ما خصته دلالة كما سنقرره في الشعور والأصواف والأوبار، وقد حكينا عن محمد بن يحيى ما قاله في نجاسة الأصواف وتخطئة أبي طالب له، وهذا لا وجه له، فإنه لا وجه لإطلاق الخطأ في المسائل الاجتهادية؛ لأنها كلها حق وصواب، وما هذا حاله فلا ينبغي إطلاق الخطأ فيه؛ لأنه يُوهم أن هناك حقاً مطلوباً لله تعالى يخطئه بعض المجتهدين ويصيبه آخرون، وهذا لا معنى له في المسائل الخلافية، وقد حققناه في صدر الكتاب فأغنى عن الإعادة، اللهم إلا أن يريد السيد أبوطالب بالخطأ: هو أن ما قاله محمد بن يحيى ليس مذهباً للقاسم ويحيى، فهذا يمكن أن يقال: أخطأ من نسب هذه المقالة إليهما، فأما أن يقال: إن كل من ظن أن شعر الميتة وصوفها نجس فهو مخطئ، فإنه لا وجه لهذه المقالة.
الحجة الثانية: قوله ً: (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )). وفي حديث آخر: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). وهذا عام فلا وجه لمخالفته.
الحجة الثالثة: هو أن العظام فيها حياة بدليل قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ }[يس:78]. وكل ما كان من الميتة حي فإنه ينجس بالموت لا محالة كالكبد والطحال واللحم وغيرها.
وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنها كلها طاهرة.
والحجة لهم على ذلك: هو أن العظام فيها صلابة تمنع من وجود الحياة فيها، وما لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت؛ لأن بِنْيَة الحياة لا بد من حصولها على كيفية مخصوصة من الرطوبة والاعتدال في البنية، والعظم والعصب فيهما، قساوة فلا يجوز وجود الحياة فيهما. وإذا كان لا حياة فيهما فإنها لا تنجس بالموت.

والمختار: ما عول عليه علماء العترة، من القول بنجاستها لما ذكروه. ونزيد هاهنا ونقول: إن كان فيها حياة فهي نجسة بالموت، كالميتة وإن لم يكن فيها حياة فإنها تنجس أيضاً بالمجاورة لما يحتوي عليها من اللحم والدم والبشر وغير ذلك، فلهذا وجب القضاء بنجاستها فإنها لا تنفك من الأمرين جميعاً، ومتى انفصلت وجب القضاء بنجاستها لكونها بعضاً من أبعاض الميتة كاللحم والعروق.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: العظام فيها صلابة تبطل حلول الحياة فيها.
قلنا: قد دل الشرع على كونها حية بما تلوناه من ظاهر الآية، وإذا كان ظاهر الآية يقضي بالحياة وجب العمل عليها؛ لأن الشرع يجب التعويل عليه في كل المسائل الاجتهادية من غير تعويل على ما يدل عليه العقل ويقتضيه، فإن تحكيم الشرع أحق في المسائل الاجتهادية الخلافية.
الفرع العاشر: في عظم الفيل: ذهب علماء العترة إلى أن عظام الفيل لا يجوز استعمالها وعاء للأدهان الرطبة.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فلا تلحقه الذكاة الشرعية، وعظم الميتة نجس فلأجل ما ذكرناه يكون عظمه نجساً لا محالة، وهو قول الشافعي.
وحكي عن أبي حنيفة جوازه؛ لما سبق تقريره من أن عظم الميتة طاهر، ولأن من أصله أن الذكاة تطهر اللحم والجلد فيما لا يؤكل لحمه، فلأجل هذين الأصلين جاز استعمال عظمه في الأشياء الرطبة، وكان طاهراً لا محالة.
والمختار: ما قاله علماء العترة.
والحجة على ذلك: ما مهدنا من الأصول من كون الفيل غير مأكول اللحم، وأن الذكاة لا تكون مطهرة لما لا يؤكل لحمه، وأن العظام مما تحلها الحياة بالأدلة الشرعية، وكل هذه الأصول قد مهدناها وقررنا قواعدها بالأدلة النقلية فأغنى عن الإعادة، وما ذكرناه من الانتصار على عظام الميتة فهو وارد ههنا. والله الموفق للصواب.
مسألة: في شعور الميتات وأصوافها وأوبارها والقرن والظفر والسن منها مما لا تحله الحياة، وفيه مذهبان:

49 / 279
ع
En
A+
A-