الانتصار: قالوا: نتلوا الآية وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وهذا عام في كل ميتة فيجب أن يكون نجساً في نفسه منجساً لما وقع فيه.
قلنا: ليس في الآية إلا أنه يحرم أكلها ونحن نساعدكم على ذلك وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في أنه لا ينجس في نفسه، ولا ينجس ما وقع فيه من المائعات، وما هذا حاله لانسلم تناول الآية له.
قالوا: حيوان محرم اللحم فموته في الماء مفسد له كالكلب والخنزير.
قلنا: قولكم محرم اللحم، وصف عديم التأثير؛ لأن الشاة لو ذبحت في الماء لأفسدته بدمها ومع ذلك فإنه لايحرم أكلها فبطل جعله وصفاً من أوصافها، ثم إن التفرقة بينهما ظاهرة، فإن المعنى في الأصل هو أن لها دماً مسفوحاً بخلاف ما نحن فيه فافترقا.
ثم إنا نقلب عليهم إذا قالوا: حيوان له دم سائل، فوجب أن لا يختلف حلاله وحرامه في أن موته في الماء يفسده.
فنقول: حيوان لا دم له سائل فيجب أن لا يختلف حاله في كونه غير مفسد للماء كالسمك والجراد، وكذلك ما حرم أكله مما لا دم له سائل لا يفسده أيضاً كالذباب والزنبور، وهذا من باب قلب التسوية، وهو مفسد للعلة؛ لأن أصلهم الشاة والبقرة في استواء الحلال والحرام لهما في إفساد الماء،، وأصلنا السمك والجراد فيما يؤكل لحمه والذباب والزنبور فيما لا يؤكل لحمه في كونها غير مفسدة للماء.
قالوا: حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فيجب كونه منجساً للماء كما لا يؤكل لحمه.
قلنا: قولكم: لا يؤكل بعد موته، تحترزون به عن السمك والجراد فإنهما يؤكلان بعد موتهما وهذا جيد، ولكن قولكم: لا يؤكل لا لحرمته، وصف عديم التأثير؛ لأنكم إنما ذكرتموه تحترزون به عن الآدمى فإنه لا يؤكل لحرمته ومع ذلك فإن وقوعه في الماء لاينجسه إذا مات فيه، لأن من مذهبكم أن الآدمي لا ينجس بالموت فلأجل هذا قلنا: إن قولكم لا لحرمته عديم التأثير لا معنى له فإن ذكره يفسد العلة ويبطلها، ثم إنا نقول: إن ما ذكره الشافعي في تعليل تنجيس ماليس له دم سائل، قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه مخالف للإجماع، فإن ما هذا حاله من الأقيسة فإنه لا يعول عليه لفساد وصفه واعتباره. قال ابن المنذر ): ولا أعلم أحداً قال: إنه ينجس الماء بموته فيه إلا الشافعي، وعن أبي بكر الرازي ) أنه قال: إن الشافعي قد خالف الإجماع في تنجيس الماء بموت ما لا دم له سائل، وما هذا حاله من الأقيسة يكون باطلاً لا جريان له في الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية. قال العمراني في (البيان): وإذا قلنا: لا ينجس الماء بموت ما لا دم له سائل فإنه قول عامة الفقهاء، وحُكي عن أكثر أصحاب الشافعي أنهم
__________
(1) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أحد فقهاء خراسان في القرن الثالث الهجري، قيل عنه: إنه صنف كتباً في اختلاف العلماء وتعدد مذاهبهم لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إليها الموافق والمخالف، مات بمكة سنة 310هـ. (طبقات الفقهاء).
(2) أبو بكر أحمد بن علي الرازي، الحنفي، قال المنصور بالله (عبدالله بن حمزة): لم يكن قبله ولا بعده في الفقهاء مثله، ورعاً وتصنيفاً، وزهداً، وحُمل على أن يتولى فأبى من ذلك وتُهدد فأبى. وله مصنفات كثيرة، وشرح كتب محمد بن الحسن (الشيباني)، وكان يأمر غيره بكَتْب كتب الفقه، ويكتب كتب الكلام (أصول الدين)، بخطه، ويقول: أتقرب إلى اللّه بذلك. ذكره المنصور بالله في طبقات المعتزلة، توفي سنة 370هـ (مقدمة الأزهار).
قالوا: إنه الأصلح للناس.
مسألة: تشتمل على فروع على هذه القاعدة التي تقدمت وجملتها خمسة:
الفرع الأول منها: الحيوان الطاهر غير الكلب والخنزير إذا مات فإنه ينظر فيه، فإن كان مما ليس له نفس سائلة فإنه طاهر كما مر بيانه لحديث سلمان: (( كل طعام وشراب ماتت فيه دابة ليس لها نفس سائلة )).. الخبر، وقد قدمناه.
وإن كان له نفس سائلة كالحوت على اختلاف أنواعه فهو طاهر، لقوله عليه السلام: (( أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال)). فإن قطع من السمك قطعة وبقيت السمكة حية فهل يحكم بطهارة تلك القطعة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون نجسة لقوله عليه السلام: (( ما أبين من الحي فهو ميت ))(1). ولم يفصل.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة؛ لأن ميتة السمك طاهرة، وهكذا حال الجراد إذا قطع يكون فيه الوجهان.
والمختار: هو الحكم بطهارة تلك القطعة المبانة، لأن المحذور أن تكون ميتة، وقد دل الشرع على جواز أكل ميتة هذين النوعين بجملته فضلاً عن قطعة من أبعاضه، فلهذا فارق غيره من سائر الحيوانات عند الإبانة، لما ذكرناه.
وإن كان غير الحوت فهو نجس كسائر الحيوانات التي لها دم سائل، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3].
__________
(1) روي عن أبي واقد بلفظ: لما قدم رسول اللّه ً المدينة وهم يَجُبُّون أسنمة الإبل ويقطعون إليات الغنم يأكلون ذلك، فقال رسول اللّه ً: ((ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة لا يؤكل)). أخرجه الترمذي وله روايات أخر.
الفرع الثاني: القيح والصديد والمِدَّة(1)، نجسة؛ لأنها دماء استحالت إلى نتن وفساد، فإذا كان الدم نجساً كما مر بيانه فهذه تكون أَوْلى، وأما المكو(2) وهو الذي يلحق الأيدي والأرجل عند شدة الاحتراك والاعتمال فتظهر نفخات منها بماء غير متغير، فهل يكون ماؤها نجساً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها نجسة؛ لأنها تلحق الجسم عن فساد وتغير فأشبهت القيح.
وثانيهما: أنها طاهرة؛ لأن ما فيها ماء غير متغير فأشبه العرق والدمع، وهذا هو المختار، وهو الذي ذكره الإمام الحقيني وأبو مضر، والأول ذكره من أصحابنا: الشيخ علي خليل، والقاضي أبو إسحاق.
والحجة على ما اخترناه: أن ماءها رقيق صاف حصل من فضلات الجسم، فهي بالعرق أشبه.
وذرق الحوت والجراد طاهران عندنا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي؛ لأن ميتتهما طاهرة ولحمهما طاهر، فيجب أن يكون الذرق طاهراً إلحاقاً له باللحم من غير فرق.
__________
(1) بكسر الميم: القيح. ا.هـ. قاموس ج1/636.
(2) هي من: مكا يمكا. قال في القاموس : ومكيت بدن تمكى مكا: مجلت من العمل.
الفرع الثالث: البِلَّة التي تكون في فروج النساء، ينظر فيها فإن كانت مختصة بلون أبيض فهي نجسة، ويقال له: القذا، وفي الحديث: (( كل فحل يمذي، وكل أنثى تقذي ))(1). أي: يخرج منها القذا، وإن لم يكن له لون نظرت، فإن كان مختصاً بريح خبيث فهو نجس أيضاً على المذهب، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه طاهر.
والمختار: هو الأول؛ لأنه صار متغير الريح فأشبه القيح، وإن كان لا لون له ولا ريح فهل يكون طاهراً أو نجساً؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون نجسة؛ لأنها رطوبة خارجة من مخرج الحدث فأشبهت البول.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة؛ لأنها بلة لا ريح لها فأشبهت العرق.
والمختار: طهارتها من أجل رقتها وصفائها وعدم تغيرها فهي بالريق والعرق أشبه، ولأنها من فضلات البدن لا يلحقها تغير فأشبهت الدمع.
الفرع الرابع: العلقة والمضغة هل يكونان طاهرين أم لا؟ فيهما وجهان:
أحدهما: أنهما طاهران؛ لأنهما دمان غير مسفوحين فأشبها الكبد والطحال.
وثانيهما: أنهما دم خارج من الرحم فهما كالحيض والاستحاضة.
والمختار: هو الأول، لأنهما قد خرجا عن صفة الدم، ولأنهما أحد أطوار الخلقة الآدمية فصارا كالعظم واللحم.
والمشيمة، وهي التي تكون وعاء للولد في بطن أمه، نجسة إذا انفصلت لقوله عليه السلام: (( ما أبين من الحي فهو ميت)).
__________
(1) جاء الحديث في سؤال علي عليه السلام المقداد أن يسأل رسول اللّه ً عن المذي، فقال ً: ((إن كل فحل يمذي فإذا كان المني ففيه الغسل، وإن كان المذي ففيه الوضوء)). ذكره في شرح التجريد والاعتصام وأصول الأحكام، وجاء الحديث في مسند أحمد ومجمع الزوائد للهيثمي بلفظ: ((كل فحل يمذي فتغسل فرجك وأنثييك)). وأخرج أبو داود عن عبدالله بن سعد الأنصاري قال: سألت رسول اللّه ً عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال ً: ((ذلك المني وكل فحل...إلخ)).
والدم الذي ينعقد على رأس الجرح طاهر؛ لأنه قد صار لتصلبه من جملة الجلد، ولو قطع لتألم الحي؛ لأنه لاتصاله به أجري مجراه.
والدم الذي يبقى في العروق بعد ذبح البهائم طاهر يؤكل مع اللحم والمرق لاتصاله به، فعفي عنه لما تعذر الاحتراز منه.
والماء الأصفر الخارج من الأنف طاهر؛ لأنه ليس دماً فلهذا لم يكن نجساً كالدم.
الفرع الخامس: لما كان الدم معظم البلوى فيه لكثرة معالجته وعلاجه في بني آدم والبهائم وسائر الحشرات، لا جرم خفف الشرع حكمه، وعُفِيَ عن قليله، وكان يجري الرخصة فيه لما ذكرناه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78].
ومن هذه القاعدة نعلم أن مبنى الشرع وقاعدته على التساهل في الطهارات وخفة الأمر فيها، وأن خلاف ذلك مجانب لأمر الشريعة وحكمها، ومن قرع سمعه ما كان من ممارسة الرسول ً لأهل الشرك في الآنية والطعامات واللباس، وعرف سيرة الصحابة (رضي اللّه عنهم) وغيرهم من التابعين وتابعيهم في حال من يعاشرون من الأطفال والعبيد والنسوان وعوام الخلق، تحقق ما قلناه من سهولة أمر الطهارة.
واختلف(1) في مقدار ما يعفى من الدم، فمرة قال: مثل رؤوس الإبر وحب الخردل، وتارة قدر الدرهم.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب إضافة جملة: (رأي المؤيد بالله). التي يدل عليها الكلام ولعلها سقطت من الناسخ.ا.هـ.
وأما الهادي فقد جعل العفو منه ما كان دون القطرة وهو الذي لا يسفح فإنه طاهر، وهو المختار كما مر تقريره، وليس في الحقيقة عفو؛ لأنه طاهر عنده بخلاف المؤيد بالله، فإن العفو متحقق فيه؛ لأنه نجس عنده فعفي عن ما ذكره، فإن وقع الشك في هذا القدر وجب غلسله؛ لأن الأصل هو الحظر، والإباحة والرخصة إنما تعلقا بهذا القدر لا غير، وإن وقع الشك في كونه قطرة لم يجب الغسل؛ لأن الأصل هو الطهارة على رأيه. والحظر إنما وقع فيما تحقق حاله من القطرة.
وأما الشافعي فقد حُكي عنه أقوال ثلاثة:
أما أولاً: فيعفى عن دم القمل والبراغيث.
وأما ثانياً: فقال في القديم: يعفى عنه إذا كان دون ملء الكف.
وأما ثالثاً: فحُكي عنه: مثل الدراهم والدنانير.
فكله نجس عنده إلا ما ذكرناه من هذه المقادير، وجميع ما ذكرناه من العفو في الدماء على اختلاف هذه المذاهب، فهو جارٍ في القيح والصديد والمدة وما جرى مجراها لاستوائها جميعاً في عظم البلوى بها، وشدة علاجها في جميع الحيوانات كلها.
والمختار من ذلك: ما قررناه من قبل، من أن تعليق النجاسة إنما هو بالسفح كما أشار إليه الشرع بقوله: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فأما ما عداه فهو باق على حكم الطهارة كما هو رأي الهادي، فأما ما يعفى عنه من النجاسات فسنذكره في آخر الباب.
مسألة: الآدمي غير الكافر، طاهر في حال الحياة؛ عرقه وسؤره ولعابه، وهل ينجس في حال موته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي القاسم بن إبراهيم والهادي وأولادهما، ومحكي عن السيدين الأخوين: المؤيد بالله وأبي طالب وغيرهم من أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومالك، وأحد قولي الشافعي، ولهم على ذلك حجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. ولم يفصل في ذلك بين ميتة وميتة، في ترك الاستعمال والملابسة لها إلا ما قام عليه دليل، والتحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الأعيان.
الحجة الثانية: ما روي أن حبشياً وقع في بئر زمزم فأمر ابن عباس وابن الزبير بنزح مائها، فلولا أنه نجس وإلا لكان الأمر بالنزح لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه ميتة غير مذكى له دم سائل، فوجب كونه نجساً كسائر الميتات.
المذهب الثاني: أنه طاهر، وهذا شيء يحكى عن الشافعي في أحد قوليه، له قول آخر مثل مذهب أصحابنا.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ }[الإسراء:70]. ومن الكرامة أن لا يكون نجساً بعد موته.
الحجة الثانية: قوله ً: (( المؤمن ليس ينجس حياً ولا ميتاً )).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم على ذلك.
والحجة لهم: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد ههنا: وهو أن حيوان فارقته الحياة على جهة الابتداء من غير سبب، وله دم سائل فوجب كونه نجساً كسائر الميتين.
قولنا: فارقته الحياة ابتداء، نحترز به عن الشهيد فإنه طاهر محكوم عليه بالطهارة ولهذا لم يحتج إلى غسل والشهادة في حقه قائمة مقام غسله.
وقولنا: وله دم سائل، نحترز به عما ليس له دم سائل فإنه طاهر كما مر بيانه، ومن وجه آخر وهو أن الموت مؤثر في النجاسة، فلا يجوز رفع هذه القاعدة إلا بدلالة، وما تذكرونه في طهارته معرض للاحتمال فلا ترفع به القواعد المعلومة.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في طهارته.
قالوا: قد كرم اللّه بني آدم كما أخبر ومن الكرامة طهارتهم بعد الموت وأن لا يكونوا أنجاساً.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه ليس في الآية لفظ عموم فيكون حجة لكم على ما ذكرتموه، وإنما أخبر بأنه قد كرمهم، ومتى حصلت خصلة واحدة في الإكرام صدق عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا}. فمن أين أن ما ذكرتموه هو المراد من الآية؟
وأما ثانياً: فلأنا نقول: الكرامة إنما هي في الحقيقة بالعقل والتكليف وإرسال الرسل، وحفظ الملائكة، والإجلال والتعظيم بالحمل في البر والبحر والرزق كما أشار إليه في الآية، فأين هذه الخصال الكريمة عما ذكرتموه من النجاسة بالموت؟
وأما ثالثاً: فلأن الغرض بالإكرام ما يكون في حال الحياة من تلك الإكرامات؛ لأنها لا تكون إلا متعلقة بالحياة دون الموت، والإكرام بالطهارة إنما يكون بعد الموت فلا يكون مراداً بالآية فبطل ما توهموه.
قالوا: روى ابن عباس: (( لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس ينجس حياً ولا ميتاً)). وهذا نص فيما نريده.
قلنا: قد ذكرنا أن الموت مؤثر في النجاسة، وهذه قاعدة معلومة لا سبيل إلى رفعها، فإذا ورد ما يعارضها من الظواهر الشرعية وجب تأويله، وخبر ابن عباس رضي اللّه عنه له تأويلان:
أحدهما: أن يكون المراد منه، لا تعرضوا موتاكم لمباشرة النجاسات، والتضمخ بها، والتلبس بمخالطتها، فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً نجاسة لا تطهر بالغسل، بل إذا غسلت عنه النجاسة المتصلة به كان طاهراً كما كان في حال الحياة.
وثانيهما: أن يكون المراد من الخبر تفاوت حاله لحال الكافر، وتميزه عنه بإن الكافر نجس في حال الحياة وحال الموت، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. بخلاف المؤمنين فإنهم ليسوا أنجاساً، في حال الحياة وحال الموت على مثل نجاسة الكفار، بل إذا غسلوا بعد الموت طهروا، بخلاف الكافر فإن غسله لا يزيده إلا نجاسة بعد الموت؛ لأنه لا يصلى عليه، فأورد الحديث تفرقة بين حال المؤمن وحال الكفار؛ لأن الغرض هو الحكم بطهارته بعد موته فسقط ما قالوه.
قالوا: آدمي فارقت جسمه الحياة فلا يكون نجساً كالشهيد.
قلنا: المعنى في الأصل هو مفارقة روحه لجسمه بسببٍ هو القتل شهيداً، فلهذا كانت الشهادة قائمة مقام الغسل ففارق حاله حال الموت.
مسألة: مشتملة على فروع عشرة:
الفرع الأول: إذا غُسل الميت فهل يطهر بالغسل أم لا؟ فالذي أشار إليه السيد أبو طالب أنه يكون طاهراً، وهذا هو رأي أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحكي عن مالك، والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه لا فائدة في التعبد بغسله إلا أنه يصير في حكم الطاهر، ولهذا فإنه يُصَلَّى عليه، فلو كانت النجاسة بالموت باقية فيه لما جازت الصلاة عليه. وذهب سائر العترة إلى أنه لا يعود طاهراً بالغسل.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة إنما حصلت فيه بالموت فهي أمر غير مفارق، وليس يطهر بالغسل إلا ما يصح مزايلته كالنجاسة المنفصلة، فأما ما كانت نجاسته ذاتية فلا تطهر بالغسل كالكلب والخنزير وغيرهما مما نجاسته عينية.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب، ويدل عليه ما ذكرناه عنه، ونزيد وهو أن الطهارة والنجاسة إنما هما حكمان شرعيان متلقيان من جهة خطاب الشرع، ويجب الاحتكام لما قاله في موارد الشرع ومصادره.
فنقول: قد دل الشرع على نجاسة الميتة فلهذا قضينا بنجاسة الميت لأجل الموت، فإذا ورد الشرع بوجوب غسله دل ذلك على أنه يعود طاهراً بالغسل، وإلا فلا فائدة في الأمر به وإيجابه، فيكون في حكمنا بطهارته بالغسل عملاً بموجب الدليلين معاً، وتوفيراً عليهما ما يقتضيه حكمهما من ذلك، فلأجل ذلك حكمنا بطهارته بالغسل بعد الحكم بنجاسته بالموت.
الانتصار: قالوا: النجاسة فيه عينية فلا يعود طاهراً بالغسل كالكلب والخنزير.
قلنا: ما تعنون بكون نجاسته عينية؟ تريدون أنه لا يطهر من غير غسل؟ فهذا مسلم ولا نزاع فيه، أو تريدون أنه لا يطهر وإن غسل فهذا لا نسلمه وفيه وقع النزاع، فلم لا يجوز أن يعود طاهراً بعد غسله؟