الانتصار: يكون على من قال: إنه طاهر على الإطلاق، وعلى من قال: إنه نجس على الإطلاق، فهذان فريقان:
الفريق الأول: من قال: بطهارته مطلقاً، كالسيدين: أبي العباس وأبي طالب، وأبي حنيفة.
قالوا: دم غير مسفوح فأشبه الكبد والطحال في طهارتهما.
قلنا: هذا هو الذي نرتضيه مذهباً، أعني اشتراط السفح لنجاسته كما مر تقريره، وهو يرد إبطالاً لما ذهب إليه الشافعي من نجاسته وإن لم يكن سافحاً.
قالوا: حيوان لا ينجس الماء بموته فكان دمه طاهراً كالسمك.
قلنا: إن عنيتم أنه طاهر وإن سفح فهذا لا نسلمه، وقد قررنا الكلام في نجاسة دم السمك لما كان سافحاً، وإن عنيتم أنه إذا كان غير سافح فهو طاهر، فهذا هو مرادنا ولا ننكره.
قالوا: حيوان تعظم البلوى به فرفع الشرع حكمه في النجاسة كالهر.
قلنا: إنما تعظم البلوى بوقوعه في الطعام والشراب، فأما قصع دمه فى الثوب فلا يرفع الشرع حكمه إذا كان سائلاً، فحصل من ذلك أنه إذا كان سافحاً وجب غسله من الثوب؛ لأنه يكون نجساً، ولا يرفع الشرع حكمه، وإن كان غير سافح فقد رفع الشرع حكمه بالقلة فبطل الحكم على دمه بالطهارة بالإطلاق كما أردناه، والله أعلم.
الفريق الثاني: الذين قالوا: بنجاسته على الإطلاق كما [هو] محكي عن الشافعي وأصحابه.
قالوا: حيوان فكان دمه نجساً كالشاة والبقرة.

قلنا: تعنون بكونه نجساً إذا لم يسل أو إذا كان سائلاً؟ فالأول: ممنوع لانسلمه: لأنه إذا كان غير سائل فهو غير سافح، والتنجيس إنما يتعلق بنص الشرع بالسافح، والثاني: مُسَلَّم ولا يضرنا؛ لأن ما دون السفح فهو طاهر عندنا، وأيضاً فإنه لا فرج لكم في التعلق بالشاة والبقرة، فإن دمهما سافح باتفاق بيننا وبينكم وهو نجس باتفاق، وإنما كلامنا إنما هو في غير السافح كالبق والبراغيث، فإذن الخلاف يرتد في كونها عند قصعها دماؤها سافحة أو غير سافحة، فإن كانت سافحة فهي نجس بلا مرية ولا تردد منا ومنكم، وإن كانت غير سافحة فهي طاهرة، لكنا نقول: إن دماء هذه الحيوانات غير سافحة فهي طاهرة، وأنتم تزعمون أنها سافحة وأنها نجس، فإذن الخلاف مردود إلى ماذكرناه. والله أعلم.
قالوا: دم فوجب أن يكون نجساً كما لو كان سائلاً.
قلنا : المعنى في الأصل كونه سائلاً، فالسيلان وصف في العلة التي للنجاسة فلا ينبغي إهمالها وهو الأصل في التنجيس كما سبق تقريره. فأما السيد الامام المؤيد بالله، فلم يختلف قوله في نجاسة دم البق لما كان سافحاً، وإنما اختلف كلامه في البراغيث، فمرة قال: بأنها طاهرة، ومرة قال: بأنها نجسة، وكلامه في تردد نظره إنما تعويله على السفح وعدمه، فحيث كان السفح حاصلاً فالنجاسة متحققة، وحيث عدم السفح فالطهارة متيقنة، وحيث جاز عدمها ووجودها فالتردد واقع، فعلى قدر ما يغلب من الظن عن الأمارة الشرعية يكون الحكم فيها كما في غيرها من المسائل الخلافية والأنظار الفقهية.
مسألة: ودم الأوزاغ والحَلَم وما يكون في معناها في الخلقة والصورة، نجس عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.

والحجة على ذلك: هو أن هذه الحيوانات كلها دماؤها سافحة والسافح نجس. وإنما قلنا: إن ما هذا حاله من الحيوانات فدماؤها سافحة فهذا ظاهر، فإنا لا نعني بالسفح إلا ماكان سائلاً ودماؤها سائلة عند قتلها وجرحها، وإنما قلنا: إن كل ماكان سائلا فهو نجس، فهذا هو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك، أعني أن كل ماكان سائلاً سافحاً من الدماء فهو نجس، ويدل على ذلك حجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. وأقل السفح هو السيلان كما مر تقريره. وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة:3].
الحجة الثانية: حديث عمار وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والدم )).
والحجة الثالثة: القياس على دم الحيض بجامع كونه دماً سائلاً فوجب القضاء بنجاسته كدم الحيض فإنه لا خلاف يؤثر في نجاسة دم الحيض وإنما يؤثر الخلاف في غيره من الدماء مما يكون سائلاً منها، هل يكون طاهراً أو نجساً؟

وحكي عن الحسن بن صالح: أن جميع الدماء السافحة كلها طاهرة إلا دم الحيض، فلم يستثن من الدماء إلا ماذكرناه من دم الحيض لاغير، والحسن هذا كان له تقدم وفهم وإليه تنسب فرقة من الزيدية يقال لها: الصالحية، وهم مخالفون للجارودية من جهة أن الجارودية لا يحسنون الظن في أبي بكر وعمر، والصالحية يتولو نهما ويقولون بإمامتهما، والحسن هذا هو صهر عيسى بن زيد ). هربا من المهدي ) وطلبهما فلم يقدر عليهما وماتا بالكوفة (رحمهما الله تعالى).
والحجة له على ما قاله، هو أن الدم خارج أعماق البدن، فلم يكن نجساً كالريق والدمع والعرق، وغيرها من الفضلات.
والمختار: ماعول عليه أئمة العترة، وفقهاء الأمة من الصحابة والتابعين.
والحجة لهم: ما أوردناه لهم على نجاسته، ونزيده ههنا، وهو أن الاجماع منعقد من جهة الصدر الأول ومن بعدهم من التابعين إلى زمن الحسن بن صالح، أن ما كان من الدماء سائلاً فإنه يكون نجساً لا محالة، فما خالف هذا الإجماع وجب القضاء ببطلانه وفساده.
__________
(1) الإمام عيسى بن زيدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو يحيى، كان وصي إبراهيم قتيل باخمراء، وطلبه أبو جعفر المنصور، فاختفى إلى أن مات، وسُمي: مؤتم الأشبال؛ لأنه قتل أسداً وأيتم أشباله. خرج مع محمد بن عبدالله النفس الزكية، ومع أخيه إبراهيم، وكان حامل رايته، واستتر أيام المنصور والمهدي والهادي، ومات في أيامه، وهو والد الإمام أحمد بن عيسى بن زيد صاحب الهادي. قال أبو فرج الأصبهاني: كان عيسى أفضل من بقي من أهل بيته ديناً، وعلماً، وورعاً، ويقيناً، وأشدهم في مذهبه، مع علم كثير، ورواية للحديث وطلبه في صغره وكبره، ولد سنة 109هـ. (انظر طبقات الزيدية (خ) ج2/190).
(2) المهدي العباسي، محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، ثالث خلفاء العباسيين، توفي سنة 169هـ.

الانتصار: قالوا: الدماء رطوبات حاصلة في البدن، فكانت طاهرة كالدمع والبصاق وغيرهما.
قلنا: هذا فاسد، فإن المعنى في تلك الرطوبات أنها إنما كانت طاهرة من أجل أنها غير مستحيلة، بخلاف الدماء فإنها رطوبات مستحيلة، فأشبهت في الاستحالة البول والغائط، وغيرهما مما يكون مستحيلاً.
قالوا: الآيات الدالة على تحريم الدماء إنما هي دالة على تحريم أكلها لا أنها دالة على نجاستها، وأحدهما بمعزل عن الآخر، ولهذا عقب ذكر الدم بالأشياء المأكولة كما في قوله [تعالى]: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. وقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمَاً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145].
فنقول: إنه يحرم أكله، ولكنه طاهر؛ فإن المعنى بكونه نجساً هو أنه لا يلابس الصلاة، وتحريم الأكل مخالف لهذا المعنى.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن لفظ الدم في الآيتين عام في جميع وجوه الاستعمال من أكل وملابسة، فلا يجوز تخصيصه من غير دلالة تدل على ذلك.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا ماذكروه في الآية؛ لكن الأخبار دالة على كونها نجسة كخبر عمار، وهو قوله: (( إنما تغسل ثوبك من البول والدم)). وهذا نص في مقصودنا وغرضنا.
قالوا: دم سائل فكان طاهراً كدم السمك.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا نمنع الأصل، ونقول: إن دم السمك السائل نجس وقد مر ولا نعيده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا طهارة دم السمك كما هو مذهب بعض الأئمة والفقهاء، فالتفرقة بينهما ظاهرة؛ فإنه يؤكل بدمه ولا ينجس الماء بموته، بخلاف ما سال من الدماء من الحيوانات، فإنه لا يكون له هذا الحكم بحال، فافترقا، فتنخل من مجموع ما ذكرناه نجاسة كل ماسفح وسال من الدماء كلها.
مسألة: إذا تقرر هذا فهل يكون ما دون السافح طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:

المذهب الأول: أنه يكون طاهراً، وهذا هو رأى القاسم والهادي، ومحكي عن السيدين: أبي العباس وأبي طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فشرط الله في تحريم أكله أن يكون مسفوحاً، فدل على أن ماكان السفح [فيه] فهو مخالف له في الحكم، وإذا لم يحرم أكله فهو طاهر لا محالة.
الحجة الثانية: حديث زيد بن علي (( أن الرسول ً أدخل يده في أنفه فأخرج عليها دماً ثم أعادها مرة أخرى فلم ير شيئاً فمسح يده بالأرض ولم يعد وضوءاً ولم يغسل يده)). وفي هذا دلالة على كونه طاهراً؛ لأنه لو كان نجساً لغسل يده ولتوضأ، وإنما لم يكن نجساً لما كان غير سائل.
الحجة الثالثة: هو أن ما هذا حاله لما كان الاحتراز منه متعذراً وتلحق المشقة في قليله، فلأجل هذا حفف الشرع الأمر في نجاسته لعظم البلوى به كما خفف الشرع حكم النجاسة في موضع النجو على رأي الفقهاء وكما رفع حكم النجاسات في صور كثيرة، فتقرر بما ذكرناه كونه طاهراً.
المذهب الثاني: أنه نجس معفو عنه وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة [الأولى]: الآيتان اللتان ذكرناهما في التحريم حيث قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}[النحل:115]. ولم يفصل هاهنا بين قليله وكثيره، وخروج القليل بدليل خاص لا يمنع من اندراجه تحت العموم لكنه خرج بدليل، وهذا هو مرادنا بكونه نجساً لكنه عفي عنه.
الحجة الثانية: خبر عمار، وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من الدم والبول)). ولم يفصل بين قليله وكثيره، فدل ذلك على (أن) قليله موصوف بالنجاسة كما كان في الكثير.

الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أن كل ما كان كثيره نجساً فقليله مثله في النجاسة كالبول والغائط والخمر وسائر النجاسات، ولأنه دم فوجب القضاء بكونه نجساً كالكثير منه وهذا تقرير الدلالة على المذهبين جميعاً. والله الموفق.
والمختار: ماقاله المؤيد بالله ومن تابعه عليه من العلماء.
والحجة على ذلك: ما أوردناه في الاستدلال لهم ونزيد ههنا، وهو أن الأدلة الدالة على نجاسة الكثير منه مسترسلة على جميع الأجزاء وما خرج منه فإنما خرج بدلالة منفصلة وليس يكون مندرجاً تحت العموم إلا والنجاسة شاملة لجميع أجزائه كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوْا الْمُشْرِكِيْنَ }[التوبة:5]. ثم قال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اْسْتَجَارَكَ }[التوبة:6]. فهو وإن خرج بدلالة فالشرك شامل له، ولأنه مائع خرج من البدن يتعلق به نقض الطهارة فوجب أن يستوي فيه حكم قليله وكثيره في النجاسة، دليله: البول. أو نقول: يجب غسل الثوب منه للصلاة، فاستوى فيه القليل والكثير كدم الحيض والاستحاضة حيث قال عليه السلام: (( حتيه ثم اقرصيه ولا يضرك بعد ذلك أثره )). ولم يفصل بين قليله وكثيره فهذه الأدلة قاضية باستواء القليل والكثير فيه، والله أعلم.
الانتصار: قالوا: شرط الله في تنجيسه السفح، فقال: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فإذا لم يكن مسفوحاً فلا نجاسة لعدم الصفة، وهذا هو مرادنا بطهارة ما قل منه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه استدلال بمفهوم الصفة، ومفهوم الصفة كمفهوم اللقب في عدم الدلالة، فإذا قلت: جاء زيد لم يدل هذا الكلام على عدم مجيء عمرو، وهكذا إذا قلت: جاءني زيد الكريم، فليس دلالة على عدم مجيء البخيل، وعلى ذلك يكون قوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فإذا أطلق النجاسة على السفح لم يكن دالاً على التطهير عند عدم السفح، فما قالوه ليس فيه دلالة على ماتوهموه.

وأما ثانياً: فلأن الآية من أولها إنما سيقت من (أجل) بيان المأكولات لا من أجل بيان التطهير والتنجيس، ولهذا قال الله تعالى في أولها: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمَاً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}[الأنعام:145]. وكلامنا إنما هو في ما يكون طاهراً من الدماء وما يكون منها نجساً فأحدهما بمعزل عن الآخر. فكونها مسوقة من أجل بيان المأكولات يضعف الاستدلال الذي ذكرتموه.
قالوا: فعلُ الرسول في إدخال يده أنفه وإخراج الدم عليها ولم يُعِدْ لها غسلاً ولا وضوءًا، فيه دلالة على طهارته.
قلنا: ليس في هذا الحديث إلا أنه لم يغسل يده ولا أعاد وضوء اً، وهذا لا يدل على كطهارة مالم يسفح من الدم؛ لأن ما هذا حاله معفو عنه لقلته ، فلهذا لم يغسل يده ولم يعد وضوء اً فهو نجس خلا أنه قليل معفو عنه، وهذا مسلم لا ننكره، وأيضاً فإنه لم يصرح بطهارته فيكون فيه دلالة لكم على ما تزعمون من طهارة القليل، ثم إنا نقول: إن رَدَّ يده إلى أنفه مرة ثانية فيه دلالة لنا على نجاسته؛ لأنه لو أعادها فخرج عليها دم كثير كان الكل سواء في التنجيس ونقض الطهارة، وفي هذا دلالة على ما قلناه من نجاسة ما لم يسل منه لكنه عفي عنه.
قالوا: إن ما هذا حاله، لما كان تعظم البلوى به، خفف الشرع فجعله طاهراً لتعذر الاحتراز منه.
قلنا: تخفيف الشرع فيه هو أنه أسقط حكمه في الغسل ونقض الطهارة به لا في كونه نجساً، فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، فد لوا عليه لتصح دعواكم فيه.

واعلم أن التفرقة بين مذهب الإمامين: الهادي والمؤيد بالله في ذلك ظاهرة، وهو أن الهادي لا يفتقر إلى تقدير مايعفى عنه من ذلك؛ لأنه طاهر عنده، ولا عفو فيما كان طاهراً، وأما المؤيد بالله فإنه يفتقر إلى تقدير ما يعفى عنه لما كان نجساً عنده فلابد من التفرقة بين مايعفى عنه منه وما لا يعفى، فهذه هي ثمرة الخلاف بينهما في ذلك وهما متفقان على كونه غير ناقض للطهارة ولا يجب غسله إذا لم يكن سائلاً.
مسألة: الحيوان الذي له نفس سائلة، هو الذي إذا ذبح سال دمه عن موضع الذبح كالشاة، والبقرة، والحمامة، والدجاجة، وما أشبهها، لأن النفس هي الدم، والحيوان الذي لا نفس له سائلة هو الذي إذا ذبح لم يسل دمه عن موضع ذبحه كالذباب والزنبور والجراد وغير ذلك من الحيوانات التي لا نفوس لها، فهذا هو مراد الفقهاء بقولهم في الحيوان: له نفس أو لا نفس له.
فإذا عرفت هذا فالذي ذهب إليه أئمة العترة، وأكثر الفقهاء: أبوحنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي في أحد قوليه أن جميع هذه الحيوانات التى لا نفوس لها سائلة لا تنجس بالموت ولا تكون منجسة للطعام بموتها فيه.
والحجة على ذلك: ماروى زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) أن الرسول ً، أتي بجفنة قد أدمت فوجد فيها خنفساء وذباباً فأمر بهما فطرحا ثم قال: (( سموا وكلوا فإن هذا لا يحرم شيئاً ))(1). وهذا عام في جميع الحيوانات كلها التى وصفناها، في كل المائعات.
الحجة الثانية: قوله ً: (( إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء، وإنه ليقدم الداء علىالشفاء )). ولم يفصل هناك بين مقل متلف ومقل غير متلف فلو كان ينجس المائع بموتة لفصل بينهما.
الحجة الثالثة: من جهة القيا س، وهو أنه حيوان ليس له دم سائل ولا نفس سائلة فلا ينجس الماء بموته فيه كدود الخل وكدود التفاح والسمك والجراد.
__________
(1) حكاه في البحر وأصول الأحكام.

وحكي عن الشافعي أنه ينجس بالموت، قولاً واحدا، وهل يكون منجساً للطعام؟ فيه قولان.
والحجة له على ماقاله: هو أنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته، فيجب أن يكون نجساً بالموت كما لو كانت له نفس سائلة.
وقولنا: لا لحرمته. نحترز به عن ابن آدم فإن عنده أنه لا ينجس بالموت.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من علماء الأمة، ويدل على ذلك ماحكيناه عنهم ونزيد ههنا، وهو مارواه سلمان الفارسي ) عن الرسول ً أنه سئل عن إناء فيه طعام أو شراب فيموت فيه ماليس له نفس سائلة، فقال: ((هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه))(2) ولأن ما هذا حاله تعظم به البلوى ويشتد به الحرج لوكان ينجس الطعام بموته، فيجب أن يكون حكمه مرفوعاً في التنجيس لقوله تعالى: {وَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]. وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. واليسر ورفع الحرج لا يكونان إلا بطهارته فيجب القضاء بها.
__________
(1) أبو عبدالله سلمان الفارسي، صحابي جليل، اشتهر بهذا الاسم. قال عنه الشوكاني: كان نبيلاً، حازماً لبيباً، عاقلاً، عابداً. توفي في المدائن، وهو أمير عليها سنة 35هـ. وأصله من فارس من أصبهان، استعبده ركب من كليب وباعوه لرجل من بني قريضة فجاء به إلى المدينة فأسلم عندما قدم النبي ً إليها، وكان أول مشاهده الخندق، وهو الذي نصح رسول اللّه ً بحفر الخندق. قال عنه النبي ً: ((سلمان منا أهل البيت)). ليزيل ما قد يكون علق بنفسه عندما سمع البعض يتفاخرون بقبائلهم وأنسابهم، صحب النبي ً وخدمه، وحدَّث عنه.
(2) وفي رواية: ((إن كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه)). حكاه في أصول الأحكام وجواهر الأخبار.

47 / 279
ع
En
A+
A-