والمختار: الحكم بنجاسة بولها؛ لأنها ليست سمكاً لمخالفتها له في الهيئة والصورة، وبولها وإن كان نجساً، فلاينجس به الماء إذا كان قليلاً؛ لأنه مما يتعذر الاحتراز منه فعفي عنه. هذا على رأي من ينجس القليل من غير تغيير، فأما على ما اخترناه من عدم نجاسة الماء القليل بالنجاسة إذا لم تغيره فهو غير مغير له، فلا ينجسه بحال.
مسألة: ما لا يؤكل لحمه إما لحرمته كابن آدم، وإما لنجاسته كالكلب والخنزير، وإما لمنع الشرع منه كالسباع، فأما أرواث بني آدم فقد قدمنا الحجة على نجاستها فلا وجه للاعادة، وأما غيرهم ممن ذكرنا فهي نجسة عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ماروى عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) أن الرسول ً التمس منه أحجاراً ليستجمر بها، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الرسول ً الروثة، وقال: (( إنها ركس ))(1). والركس: النجس.
الحجه الثانية: من جهة القياس، وهو أنه روث ما لا يؤكل لحمه فكان نجساً كروث بني آدم. أو نقول: هو أن كل ما خرج من الآدمى وجب القضاء بنجاسته؛ فإنه اذا خرج من البهائم التي لا يؤكل لحمها فهو نجس كالدم، أو لأنه خارج من مسلك معتاد في سبيل ما لا يؤكل لحمه فكان نجساً كالآدمى.
فأما إبراهيم النخعي فلم يعرف له قول في طهارة أرواث ما لا يؤكل لحمه، وإنما يحكى الخلاف في طهارتها عن داود، وقد قدمنا الكلام جميعاً في طهارة الأبوال والأرواث فأغنى عن تكريره.
والمختار: ماقاله علماء العترة ومن تابعهم من الفقهاء.
__________
(1) أخرجه البخاري والترمذي والنسائي. وجاء في حاشية جواهر الأخبار (للعلامة محمد بن يحيى بهران) ما لفظه: قال في النهاية: إنها ركس، هو تشبيه المعنى بالرجيع، يقال: ركست الشيء وأركسته، إذا رددته وأرجعته.ا.هـ.
والحجة على ذلك: هو ما تضمن من الاستقذار والنتن فأشبه رجيع بني آدم، وقد قررنا كل ما بهما في الانتصار في المسألة الأولى، فأغنى عن الإعادة.
وهل يكون ذرق الدجاج، والبط، والأوز، طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه نجس، وهذا هو الذي عول عليه أكثر علماء العترة: الناصر، والهادى، والمؤيد بالله، وإحدى الروايتين عن القاسم، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه طعام أحالته الطبيعه والمعدة، فيجب القضاء بنجاسته كالذي يخرج من بني آدم، أو نقول: متغير اللون والرائحه، فيكون نجساً كالعذرة.
المذهب الثاني: أنه يكون طاهراً في نفسه، إلا أن يكون مختلطاً بشيء، فانه يكون نجساً لما خالطه لا من جهة نفسه.
والحجة على ذلك: هو أن لحمه مأكول، فكان ما يخرج منه طاهراً كالبقر والغنم؛ لأن الخارج معتبر باللحم كما أشار اليه الشرع بقوله: (( ما أكل لحمه فسؤره وبوله حلال )).
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العتره من القول بنجاسته لما في الخارج من الديكة، والدجاج، والبط، والطاووس، والأوز من القذر المشبه في لونه وريحه ورقته، لما يخرج من أدبار بني آدم، فلهذا قضينا بنجاسته.
الانتصار: قالوا: قد تقرر في قواعد الشرع وتمهد في مطالبه، أن الخارج معتبر باللحم، فاذا كان اللحم حلالاً فالخارج طاهر لا محالة كما في الحيوانات المأكولة كلها، فإن جميع مايخرج منها طاهر، فلهذا وجب أن تكون هذه الحيوانات مردودة إلى هذه القاعدة في طهارة ما يخرج منها.
قلنا: هذه القاعدة لا ننكرها، لكنه عرض ماهو أخص منها، وهي المشابهة لما يخرج من هذا الحيوان لما يخرج من بني آدم في تلك الخصال التي ذكرناها، فلاجرم كان العمل على حكم المشابهه، أخص وأولى لا محالة.
ومن وجه آخر: وهو أن العمل على نجاستها هو الأحوط في الطهارة، وأبعد عن التلوث بالقاذورات مع ما أشار إليه الشرع من البعد عن ذلك حيث قال عليه السلام: (( إن الله نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال ))(1).
قالوا: لو كان نجساً لَنُزه منه المسجد الحرام وسائر الجوامع العظام، فإن ذرق الحمام وغيرها من الطيور المأكولة حاصلة في المساجد، ولم يحكم بنجاستها، وفي ذلك دلالة على ما قلناه من كونها طاهرة.
قلنا: إنما لم تنزه منه المساجد والجوامع العظام لتعذر الاحتراز منها، وما تعذرالاحتراز منه رفع حكمه فى النجاسة كالأفواه، وغبار السرقين(2) في الطرقات وغير ذلك، وأيضاً فإن لم تكن المساجد منزهة لما ذكرناه من التعذر، وجب تنزيه اللباس والأبدان عن ذرقها؛ لكونه ممكناً، وفي هذا دلالة على كونه نجساً.
قالوا: كل ما استحال إلى غير نتن وقذر وجب الحكم بطهارته كالذي يخرج من النحل من العسل.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لانسلم قياسهم على النحل فإنه قد قيل: إنها تعسل من أفواهها، وقيل: إن الأمر في أمرها مبهم من الله تعالى فلا ندري كنه حالها في ذلك ولانعرف حقيقتة، ولهذا روي أن سليمان بن داود عليه السلام أراد أن يعرف حقيقة أمرها في العسل هل يخرج من أفواهها أو من أدبارها، فاتخذ آنية من زجاج، وجعلها فيها لرقتها فيعرف حقيقة الأمر فيها، فلطخت وجه الآنية بطين حتى أنه لم يعرف كيف تعسل العسل، فلا يصح الرد إليها.
__________
(1) حكاه في الدرر للسيوطي، والمشهور: ((إن اللّه جميل يحب الجمال)). رواه أحمد بن حنبل، والطبراني، والهيثمي.
(2) الأرواث اليابسة.
وأما ثانياً: فلا نسلم أن ما يخرج منها لا يستحيل إلى غير نتن، بل القذر والنتن ملازم لما يخرج منها، ويعرف ذلك من خبر حالها في أبراج الحمام وأماكن الدجاج التي تبيت فيها، فإن القذر فيها مستحكم في الرائحة الخبيثة والنتن الظاهر، وتقذيرها للأماكن الطاهرة مما لا يخفى حاله، فحصل من مجموع ماذكرناه: أن قياسها على النحل غير صحيح لما ذكرناه من جهة أن العسل طيب خروجه من أفواهها فهو كالريق في طهارته وطيبه، وهذه الذروق كلها خارجة من الأدبار، فأشبهت رجيع بني آدم، فبطل ماتوهموه.
مسألة: ذرق سباع الطير كالبازي والشَّاهين والصقر وغير ذلك، نجس عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنها حيوانات لا يؤكل لحمها، فوجب أن تكون ذروقها نجسة كالآدمي، أو نقول: حيوان يستحيل ذرقه الى قذر ونتن فكان نجساً كالرجيع، أو خارج من سبيل ما لا يؤكل لحمه، فكان نجساً كالغائط، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة.
وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنها لاتفسد شيئاً، ولو كان فاحشاً كثيراً، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: من صلى وعلى ثوبه ذرق من سباع الطير التي لا يؤكل لحمها وهو أكبر من قدر الدرهم فإنها تجزئه ولاتلزمه إعادتها.
والحجه على ذلك: ما يُعلم من مطرد العادة من حصول ذرقها في الأماكن الطاهرة كالجوامع والمساجد، ولم يعلم أن أحداً من العلماء في الأمصار والأقاليم أمر بتطهير المساجد والجوامع من ذرقها ولا أنكره، وفي هذا دلالة على أنها طاهرة، وقد قال عليه السلام: (( مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )). وهذا كاف في كونها طاهرة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، ومن وافقهم من فقهاء الأمة من القول بنجاسته.
والحجة على ذلك: هو أنها ذروق أحالتها الطبيعة في البطون، فوجب القضاء بنجاستها، دليله: العذرة، أو نقول: ذروق خبيثة في اللون والرائحة فكانت نجسة كالغائط الذي يخرج من بني آدم.
الانتصار: قالوا: اطَّرد في العادة أن العلماء لم يأمروا بغسل المساجد من ذرقها مع علمهم بوقوعها فيها.
قلنا: إنما لم يأمروا فيها بالغسل ليس من أجل ظنهم بطهارتها، ولكن من جهة عموم البلوى بها؛ فإنها لا يمكن الاحتراز منها، فلما تعذر الاحتراز منها اغتفر الشرع نجاستها، فهذا هو السبب المانع من أمرهم بغسلها لا من جهة الحكم بكونها طاهرة، ثم نقول: إنا لا نُسَلِّم أيضاً أنهم ساكتون عن غسل ما تفاحش من ذلك، وإنما السكوت عما كان قليلاً يتعذر الاحتراز منه، فأما ماكان كثيراً فلا يسقط الشرع حكمه ويجب غسله فافترقا، والسيد أبوطالب وإن كان قد قال في ذرق الدجاج والبط ما قال من طهارته إذا لم يكن مخالطاً للنجاسة، فإنه لا يخالف هاهنا في نجاسة ذرق سباع الطير، وهكذا إحدى الروايتين عن القاسم في ذرق الحمام وغيرها، فإنه لا يخالف هاهنا أيضاً في النجاسة؛ لأن لحومها غير مأكولة عنده، فهما لا يخالفان في نجاسة ما يخرج منها.
والانتصار عليهم فيما يوردون من الكلمات الدالة على ذرق الدجاج، يعود هاهنا، وقد أبطلناه فلا حاجة إلى تكريره، والله أعلم بالصواب.
مسألة: والدماء الخارجة من الكلب والخنزير والميتة والكافر، كلها نجسة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وغيرهم من العلماء قليله وكثيره، ولا يعرف فيه خلاف من جهة الصدر الأول من الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) وإنما يحكى الخلاف عن بعض الفقهاء سنذكر مقالته، ونظهر فسادها بمعونة الله تعالى.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. فهذا عام، وقوله ً في حديث عمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم))، ولم يفصل بين دم ودم، فيجب القضاء بنجاسة كل دم إلا ما خصته دلالة على حياله، ولأن الدم كاف في كونه نجساً؛ فكيف إذا كان متصلاً بهذه النجاسات، أعني: كونه كلباً وخنزيراً وميتة وكفراً، فهذه كلها مزيدة قوة في النجاسة لامحالة.
وهل يكون دم السمك طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هوا المحكي عن السيدين أبي العباس وأبي طالب وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
والحجة على ذلك: هو أنه يؤكل بدمه، فوجب الحكم عليه بالطهارة كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح؛ فإنها لما كانت تؤكل بدمائها دل على طهارتها.
الحجة الثانية: أنه لاينجس الماء بموته فلو كان دمه نجساً لكان ينجس الماء بموته كالشاة وغيرها.
المذهب الثاني: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأى المؤيد بالله وهو قول (ف) وأحد قولي الشافعي وقوله الآخر: أنه طاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ }[المائدة:3]. وحديث عمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم)). فهاتان دلالتان على العموم لا يخرج عنهما خارج إلاَّ بدلالة.
والمختار: ماقاله المؤيد بالله ومن وافقه في كونه نجساً ويدل عليه ماقدمنا ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله تعالى:{أَوْ دَمَاً مَس ْفُوْحَاً }[الأنعام:145]. وهذا من جملة الدماء المسفوحة؛ لأنا لا نريد بالمسفوح إلا ما كان سائلاً، وهذا مختص بالسيلان لا محالة فيجب الحكم بتنجيسه.
الحجة الثانية: أنا نقول حيوان له دم سائل، فوجب كونه نجساً كسائر الحيوانات كلها، أو نقول: دم سائل، فأشبه ما يسيل من الدماء.
الانتصار: قالوا: يؤكل بدمه، فكان طاهراً كالعروق الباقية(1).
قلنا: هذا فاسد، فإنا لا نسلم أن فيه دماً عند موته، فيقال: إنه يؤكل بدمه، ولكنه يذهب، ولو كان فيه دم لكان نجساً كدم الميتة من الحيوانات، ولكن لما دل الشرع على أنه لاذكاة له فلهذا حكمنا بطهارته، وإن كان ميتاً لأجل نص الشرع عليه، ولكن كلامنا في الدماء اذا كان سافحاً منه، ما يكون حكمه؟
قالوا: لا ينجس الماء بموته.
قلنا: إنما لم ينجس الماء بموته لما كان لا ذكاة له؛ فلهذا لم يكن ميتة بخلاف غيره من الحيوانات فإن له ذكاة في الحلق والنحر، فاذا لم يحصل واحد منهما فهو ميتة، فلا جرم نجس الماء بموته فافترقا.
قالوا: جزء من أجزاء السمك فكان طاهراً كاللحم.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما يحكم بطهارته من السمك فهو مأكول بدليل قوله ً: (( أحل لنا ميتتان ودمان ))(2). فالميتتان: السمك والجراد، والذى يؤكل هو لحمه دون دمه، فلهذا لم يكن طاهراً.
وأما ثانياً: فبالفرق، وهو أن المعنى في الأصل، هو كونه مما يُدخر ويُقتات بخلاف الدم فإنه لا يدخر ولا يقتات فلا يكون طاهراً.
قالوا: لو كان دمه نجساً لم يحل حتى يسفحه سافح كالشاة، فلما لم يحتج في حل أكله إلى سافح دل على طهارته.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن حاجة الشاة إلى ذبحها ليسفح دمها من أجل نجاستة فيلزم ما قالوه، وإنما كان ذلك لأجل الاستعجال لإزهاق الروح، والسمك يموت بإخراجه من الماء، فلهذا لم يكن محتاجاً إلى سفح سافح.
__________
(1) أي: كالدم الباقي في العروق بعد الذبح.
(2) رواه ابن حبان بلفظ: ((أحل لكم ميتتان ودمان)) وفي سنن الدار قطني بلفظ: ((أحل لنا من الدم دمان...إلخ)). وعزاه في أطراف الحديث إلى تاريخ بغداد للخطيب، والضعفاء للعقيلي بلفظ: ((أحل لنا من الميتة ميتتان...إلخ)).
وأما ثانياً: فلو كان طهارتها من أجل سفح الدم، لكان يلزم أنه لو ذبحها من غير منحرها أن تكون حلالاً، والأمر على خلاف ذلك، فسقط ماتعلقوا به، وصح أن دم السمك نجس؛ لكونه سافحاً سواء كان سائلاً قبل موته أو بعده.
مسألة: البق والبراغيث والكتان، حيوانات لَدَّاغة للجسم تقع على الأجسام فتمص الدم بمناقيرها وتمتلي أكراشها منه، فأما ما يخرج من أدبارها، فلا يقع خلاف بين العلماء في طهارته؛ لكونه ذرقاً خارجاً عن صفة الدم في لونه وغلظه، وإنما تردد الفقهاء وخلافهم إذا قصعت بعد مصها [للدم]، فهل يكون ما يخرج منها من الدم طاهراً أو نجساً فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هو المحكي عن السيدين أبي العباس وأبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: من جهة القياس، وهو أنه ليس بدم سائل فوجب الحكم بطهارته كالدم الذى يبقى في العروق بعد الذبح، أو نقول: إنه غير سافح، فوجب أن لا يحكم بنجاسته كالكبد والطحال؛ فإنهما في الأصل دمان، بدليل قوله ً: (( أحل لنا ميتتان ودمان)). فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال، فسماهما دماً؛ لأن أصلهما من الدم، لكنه انعقد وصار جامداً على هذه الكيفية، أو نقول: قد إتفقنا على أن موته في الماء لاينجسه فلو كان دمه نجساً لنجسه كالشاه لما كان دمها سائلاً فإنها تنجس الماء بموتها فيه. فهذه حجج مناسبة تدل على طهارته.
المذهب الثاني: أنها نجسة. وهذا هو المحكي عن الشافعي، فأما المؤيد بالله فلم يختلف قوله في دم البق أنه نجس إذا كان سافحاً، وأما دم البراغيث فقال أولاً: إنه يكون نجساً. وقال آخراً: إنه يكون طاهراً.
والحجة للمؤيد بالله والشافعي في نجاسة البق قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. وهذا عام في جميع الدماء إلا ماخرج عنه بدلالة، ولأنه دم سائل فوجب أن يكون نجساً، دليله: دم سائر الحيوانات السافحة، أو نقول: حيوان له دم سائل فوجب القضاء بنجاسته، دليله: جميع الدماء السافحة. فأما تردد المؤيد بالله في البراغيث فوجه الحكم بنجاسته: هو أنه دم فأشبه سائر الدماء السائلة، ووجه كونه طاهراً: هو أنه قد خرج بكونه في أكراشها عن صفة الدم، فلهذا لم يكن نجساً.
فأما الكُتَان فلم يذكروه وأظنه غير واقع في ديارهم، وهو في معنى البق؛ لأنه يغرس منقارهُ في الجسم ويمص الدم حتى يملأ كرشه، وله لدغ شديد أشد من لدغ البق والبراغيث، وضرره أعظم في الإيلام والأذيَّة، فلهذا كان الخلاف فيها واحداً، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار هاهنا: تفصيل نشير إليه، وتقريره أنا نقول: إن الشرع قد ورد دالاً على نجاسة الدم على جهة العموم والإطلاق كقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ }[النحل:115]. إلى غير ذلك من الآيات المطلقة. وكالحديث الوارد من طريق عمار وهو قوله: (( إنما تغسل ثوبك من الدم )). إلى غير ذلك من الأخبار، وورد أيضاً نجاسته على جهة التقييد، كقوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فقيد نجاسته بالسفح ولم يطلقه، فإذا كان الأمر فيه كما قررناه وجب الجمع بين الأدلة، وحمل المطلق على المقيد، فلا ينجس من الدم إلا ما كان سافحاً، والسفح: الصب، من قولهم: سفح الماء إذا صبه، وسفح الدم إذا سفكه، وأقل السفح ما جاوز محله؛ لأنه يكون سافحاً لا محالة، فخرج من هذا ما كان على حد رؤوس الإبر وحب الخردل، ولا يحرم أكله إلا ماكان كذلك(1). فيخرج عن هذا الدم الذى يبقى في العروق بعد الذبح وعلى الحلقوم عند الذبح، وعلى هذا يكون المعيار الضابط في الطهارة والتنجيس وحل الأكل وتحريمه، إنما هو السيلان كما أشار إليه الشرع، وفيه وفاء بالجمع بين الأدلة والعمل بها، ويؤيد هذا الاختيار، ماروى زيد بن علي عن آبائه ٍ عن أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) أنه قال: خرجت مع رسول الله ً(( وقد تطهر للصلاة فأمس إبهامه أنفه فإذا هو قد رأى دماً فأعادها أخرى فلم يرَ شيئاً وجف في إبهامه، فأهوى بيده إلى الأرض فمسحها ولم يحدث وضوء اً ومضى إلى الصلاة))(2). فهذا فيه دلالة على أنه إذا كان غير سافح لم ينجس وأن ما دون السفح يكون يسيراً يعفى عنه، ولهذا فإنه ً لم يغسل يده ولا أنفه من ذلك الدم فدل على طهارته، ولأنه لما تعذر الاحتراز منه رفع الشرع حكمه كما رفع كثيراً من النجاسات لما تعذر الاحتراز منها.
__________
(1) أي: سافحا.
(2) في جواهر الأخبار ومجموع الإمام زيد والشفاء.