---
الباب الثاني: في بيان الأعيان النجسة وبيان كيفية إزالتها وحكم مجاري الاجتهاد فيها
يقال: نَجِس الشيء - بالكسر -. ينجَس.- بالفتح - مثل: علِم يعلم، والمصدر منه: نَجَساً، والاسم: النجاسة، ويقال: شيء نَجَس، مثل: حَسَن، ونَجِس مثل حَذِر، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. أي: ذوو نَجَس. فوصفهم بالمصدر مبالغة في وصفهم بالنجاسة، وجمعه: أنجاس.
واعلم أن هذا الباب قد اشتمل على بيان أعيان هذه النجاسات وإيضاحها بالدلالة، وعلى كيفية إزالتها عند وقوعها، وعلى التنبيه على حكم مجرى الاجتهاد فيها. فهذه فصول ثلاثة قد اشتمل عليها هذا الباب نفصلها بمعونة اللّه تعالى.
---
الفصل الأول: في بيان أعيان هذه النجاسات
مسألة: رجيع بني آدم نجس، وهو عبارة عما يخرج من أدبارهم. والرجيع: اسم لكل ما يكون متراجعاً، وسمي المطر: رجعاً لتراجعة مرة بعد أخرى، وسميت الجرَّة: رجيعاً؛ لأنها ترجع إلى فم البعير بعد نزولها عنه، والأصل في إطلاق الرجيع أن يكون حقيقة في كل ما كان يتردد كالجرة، لكنه أطلق على ما يخرج من أدبار بني آدم على جهة المجاز؛ لأنه غير متراجع، ثم غلب حتى صار حقيقة فيه؛ لكونه سابقاً الى الفهم عند إطلاقه، كما كان في الغائط فانه يطلق حقيقة على المكان المطمئن، وعلى قضاء الحاجة على جهة المجاز، ثم غلب في قضاء الحاجة حتى صار حقيقة لسبقه إلى الفهم عند إطلاقه.
ونجاسته معلومة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يعرف فيه خلاف بينهم.
والحجة على ذلك: قوله ً لعمار رضي الله عنه(1): (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط )).وسيأتي تقرير ما يعفى وما لا يعفى عنه في باب الاستنجاء نفصله هناك بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي، ثم المذحجي، القحطاني نسباً، المخزومي حلفاً وولاءً، كان هو وأبوه وأمه سمية من السابقين الأولين إلى الإسلام، المعذبين في اللّه حتى استشهد أبواه. شهد عمار جميع المشاهد مع رسول اللّه ً، وكان مخصوصاً بالبشارة والترحيب، وهو أحد الأربعة الذين تشتاق لهم الجنة. وفي الحديث الشريف: ((اهتدوا بهدي عمار)). وقال له رسول اللّه ً: ((تقتلك الفئة الباغية)). ولاَّه عمر على الكوفة. وشهد صفين مع أمير المؤمنين واستشهد بها. (مقدمة الأزهار).
مسألة: أبوال بني آدم كلها نجسة عند أئمة العترة، صغاراً كانوا أو كباراً، طعموا الطعام أو لم يطعموه، وهو قول الكافة من الفقهاء، إلا ما حُكي عن داود فإنه قال: إن بول الغلام الذي لم يطعم طاهر، وهذا القول قد حُكي عن الشافعي في أحد قوليه، وقد بحثت عنه في كتب أصحابه فما وجدت أحداً حكاه عنه، وغالب ظني أن خلافه إنما هو في كيفية التطهير منه، وهو أنه يُرَشُّ على بول الغلام ويُغسل بول الجارية، وأما طهارة البول فلم يؤثر عنه بحال .
والحجة على نجاسته: قوله ً: (( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ))(1). وقوله ً لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)).
والحجة لداود: هو ما رواه أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) عن النبي ً أنه قال: (( يُغسل الثوب من بول الصبية ويُنضح من بول الغلام ))(2). والنجاسة إنما تطهر بالغَسل دون النضح، فلما فرق بينهما دل ذلك على أن بول الغلام مخالف لبول الصبية، وليس ذلك إلا بكونه طاهراً؛ لأنه لوكان نجساً لفُعل به كما فُعل ببول الصبية، وفي ذلك صحة ماقاله من طهارته.
__________
(1) والحديث عن أنس، رواه الدار قطني، وراية أخرى عن ابن عباس مع تقديم وتأخير في اللفظ. رواه البزار والطبراني، وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أكثر عذاب القبر من البول)).
(2) حكاه في البحر وجاء في جواهر الأخبار عن أبي السمح قال: كنت أخدم رسول اللّه ً فأتي بحسنٍ أوحسينٍ فبال على صدره فجئت أغسله فقال: ((يُغسل من بول الجارية ويُرش من بول الغلام)). أخرجه أبو داود. ا.هـ. ونحوه عن لبابة بنت الحارث. وجاء في الروض النضير: وعند الأئمة ومالك و أبي حنيفة أنه لابد من الغسل دون فرق بين الصغير والكبير والذكر والأنثى قياساً على سائر النجاسات وأولوا الحديث بالغسل غير المبالغ فيه.ا.هـ ملخصاً.
والمختار: ماعول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من نجاسته، لما تقدم من الحجة، ونزيد هاهنا، وهو ماروي عن النبي ً أنه مر بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير ، كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لايستنزه من بوله))(1). ولأنه خارج من أحد سبيلي ابن آدم فكان نجساً كالسبيل الآخر.
الانتصار: قالوا: لو كان نجساً لأمر بغسله كما أمر بغسل بول الجارية.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلو كان طاهراً لكان لا حاجة إلى نضحه كما في سائر الأمور الطاهرة.
وأما ثانياً: فلأن النضح هو خفيف الغسل، فالتفرقة بينهما إنما هو في خفة النجاسة وثقلها لا في كونه طاهراً، ويجوز أن يكونا متفقين في التنجيس، وإن كان أحدهما أدخل في النجاسة من الآخر، فلاجرم نُضِحَ أحدهما وغُسل الآخر.
لا يقال: فهل يمكن أن يكون داود مخالفاً للإجماع أم لا؟
لأنا نقول: إن كان الصحابة (رضي الله عنهم) قد خاضوا في هذه المسألة، وأفتوا بعدم التفرقة بينهما، فلاشك في كونه مخالفاً للإجماع، وإن لم يكن من الصحابة ولا من جهة التابعين خوض فيها فلا وجه لكونه خارقاً للإجماع.
لا يقال: فهل يكون معدوداً من علماء الشريعة مع إنكاره للقياس، وجموده على الظواهر أو لا ينعقد إجماع من دونه؟
لأنا نقول: قد قال فريق من علماء الأمة بأن منكري القياس لايعدون من علماء الشريعة، وهم عوام بالإضافة إلى القائلين بالقياس الخائضين لغماره، المحرزين لأسراره، ولايعد خلافهم، وهذا فاسد، فإن الحق أنهم معدودون من جملة العلماء، ولاينعقد الإجماع ممن في عصرهم مع مخالفتهم، وكيف لا وقد بلغوا منصب الاجتهاد وأحرزوا علومه، ولم ينكروا إلا العمل على المعاني والأشباه في مواضع، وهذا لا يخرجهم من عدهم من جملة العلماء.
__________
(1) وهو مروي عن ابن عباس. أخرجه الستة بروايات متعددة.
مسألة: أبوال ما لا يؤكل لحمه نجسة عند عامة العلماء العترة، وهو محكي عن محمد بن الحسن وزفر والثوري، ومالك والأوزاعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: ماروي عن النبي ً أنه قال لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)). ولم يفصل بين بول وبول، وما خرج عن ذلك فإنما يخرج بدليل، وهكذا بول الفأرة وبول الأوزاغ، وبول الخفاش، وبول الهر، كلها نجسة؛ ولأنه بول خارج من أحد سبيلي مالا يؤكل لحمه، فكان نجساً كبول بني آدم.
وذهب إبراهيم النخعي إلى أن جميع الأبوال كلها طاهرة في حق البهائم، وحكي عن داوُد أنه قال: الأبوال كلها طاهرة إلا بول بني آدم.
والحجة لإبراهيم: أنه بول حيوان لعابه وعرقه طاهران فكان بوله طاهراً كالحيوان الذي يؤكل لحمه.
وأما الحجة لداود: فهو أن جميع الأبوال كلها هي الأمواء التي تشربها، ولم يعرض لها إلاحصولها في أجوافها، ولم تدل دلالة على تنجسها في أجوافها، فلهذا كانت باقية على الطهارة كما لوكانت موضوعة في الآنية، وبول بني آدم خرج بالدلالة، وبقي ما عداه على أصل هذا القياس الذي قررناه.
والمختار: ماقاله علماء العترة وفقهاء الأمة من الحكم بنجاسته.
والحجة عليه: ما ذكرناه من قبل، ونزيد هاهنا، وهو أنه بول مستحيل إلى نتن خارج من حيوان لا يؤكل لحمه كالكلب والخنزير، هذا رد على إبراهيم، أو نقول: إنه بول مالا يؤكل لحمه، فوجب الحكم بنجاسته كبول بني آدم، هذا على داود، ولأن أصلها جميعاً على التقذير، أعني بول ما يؤكل لحمه ومالا يؤكل لحمه، لكنا خصصنا بول مايؤكل لحمه بدلالة شرعية نذكرها بعد هذا، فبقي ماعداه على حكم التقذير والنجاسة.
الانتصار: ليس معتمدكم فيما قلتموه سوى القياس، وقياسنا معارض لقياسكم، وترجيح قياسنا من جهة كونه دالاً على الحظر، وقياسكم دال على الإباحة، فلا جرم كان قياسنا أحوط فوجب الاعتماد عليه، ثم إنا نؤيده بالفرق، وهو أن المعنى في الأصل: أنه حيوان يؤكل لحمه فافترقا، هذا على إبراهيم، وعلى داود قال: إن الأصل أنها أمواء ودخولها في بطونها لا تنجسها.
قلنا: هذا خطأ فإنها لا تكون أبوالاً إلا بدخولها في البطون، فما ذكرتموه يؤيد الحجة ويقررها، ثم إن هذا باطل بأبوال بني آدم؛ فإنها في الأصل طاهرة؛ لكونها أمواء فسقط ما قاله.
مسألة: أبوال ما يؤكل لحمه وأرواثها طاهرة عند أئمة العترة، ومحكي عن محمد بن الحسن، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والزهري، والنخعي.
والحجة على ذلك: ماروى زيد بن علي، عن آبائه عن النبي ً أنه قال: (( ولا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم ))(1). ولايريد بالتطهير له، إلا أنه لا حرج في استعماله وإصابة الأثواب له ولا معنى له سوى ذلك.
__________
(1) جاء في الروض: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام عن النبي ً قال: ((لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم وكل شيء يؤكل لحمه إذا أصاب ثوبك)). وهو مروي من عدة طرق. رواه في شرح التجريد وفي أمالي أحمد بن عيسى.
والحجة الثانية: ما روى البراء بن عازب ) عن رسول الله ً أنه قال: (( ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله ))(2).
الحجة الثالثة: ماروى عبدالله بن الحسن ) عن النبى ً أنه قال: (( كل شيء يجتر فلحمه حلال ولعابه وسؤره وبوله حلال))(4). ومعنى كونه حلالاً أنها طاهرة.
وحُكي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أنها نجسة، وهو محكي عن ابن عمر، فأما الشافعي فالظاهر من قوله أنها كلها نجسة، وحكى بعض أصحابه: طهارتها.
والحجة لهم على ماقالوه: قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيْكُمْ مِمَّا فِي بُطُوْنِهَا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنَاً خَالِصَاً سَائِغَاً لِلشَّارِبِيْنَ}[النحل:66].
ووجه الحجة: هو أن الله تعالى امتن علينا بأن أخرج لبناً طاهراً من بين نجسين، الفرث والدم.
__________
(1) أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري، صحابي جليل، لم يشهد بدراً لصغر سنه، روى كثيراً من الأحاديث، كان مع علي في الجمل وصفين والنهروان. مات بالكوفة عام 71هـ. (در السحابة 756).
(2) حكاه في البحر وأصول الأحكام والشفاء من حديث جابر ومن حديث البراء بن عازب، وقال في جواهر الأخبار: إنه عزاه في التلخيص إلى الدارقطني ثم قال: وإسناد كل منهما ضعيف جداً. ا.هـ. وزاد في الروض: لا تقوم بهما الحجة.
(3) يظهر أن المقصود هو عبدالله بن الحسن المعروف بالكامل، وهو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، من أشهر علماء أهل البيت في عصره، وعرف بلقب الكامل؛ لما اجتمع فيه من صفات الكمال من علم وعبادة وزهد وجود وعقل ورأي، حبسه أبو جعفر المنصور مع إخوته سنة 144هـ في سرداب تحت الأرض حتى توفي سنة 145هـ. راجع الفلك الدوار، وطبقات الزيدية، وتاريخ الإسلام، وتاريخ بغداد، ومقاتل الطالبيين. ا.هـ. فلك (بتصرف).
(4) حكاه في البحر والشفاء والاعتصام.
والمختار: ماقاله علماء العترة ومن وافقهم لما ذكروه من الحجج ونزيد ههنا حججاً [ثلاثاً]:
الحجة الأولى: ماروي عن النبي ً (( أنه طاف على جمل بالبيت)) ، فلولا أن بوله وروثه طاهران لما طاف عليه مخافة أن ينجس المسجد.
الحجة الثانية: ماروى أنس بن مالك أن أناساً من عرينة قدموا على الرسول ً فقال لهم: (( اخرجوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من أبوالها وألبانها ))(1). لأجل ما أصابهم من الوباء، فلو كان نجساً لما أمرهم بشربه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه مائع خارج على جهة الاعتياد من مخرج معتاد من حيوان يؤكل لحمه، فوجب الحكم بطهارته كاللبن، أو خارج من حيوان يؤكل لحمه فوجب أن يكون طاهراً كاللعاب والعرق.
الانتصار: قالوا: الآية دالة على ما نقوله.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه ليس في الآية ما يُشعر بالطهارة والتنجيس فضلاً عن أن يقال: إنها دالة على ما تَدَّعونه من النجاسة، وإنما هي دالة على مطلق الامتنان لا غير، فما برهانكم على ما تقولونه؟
وأما ثانياً: فلأن الامتنان حاصل بأن الله أخرج لنا لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين أمرين كل واحد منهما لايصلح أن يكون شراباً، وهما الفرث والدم.
__________
(1) أخرجه الستة إلا الموطأ. والرواية: أن أناساً من عرينة اجتووا المدينة بمعنى: استوخموها. وقال في الروض: بأن هذا الحديث مدفوع بأنه محمول على التداوي أو منسوخ بالنهي عن المثلة.
ثم نقول: لو استدللنا بهذه الآية على الطهارة لكنا أسعد حالاً منكم، وبيانه: أن الله تعالى وسَّط اللبن، بين الفرث والدم، وساق الآية على جهة الامتنان، وتعظيم القدرة الباهرة، بأن أخرج هذا اللبن الخالص من هذين الأمرين اللذين هما في غاية البعد من الغذاء وقوام الأجسام، فاقتران اللبن بهما فيه دلالة على طهارتهما؛ لأن الشيء إنما يقترن بمثله وجنسه، وهذه الطريقه لانرتضيها، خلا أن فيها غرضاً، وهو معارضة الركيك بمثله في الركة والضعف، وهذا مثل استدلال الشافعي على وجوب الترتيب في الوضوء، أن الله تعالى قد وَسَّطَ ممسوحاً بين مغسولين، فدل على مراعاة الترتيب، فهكذا نقول: وسّط اللبن بين الفرث والدم، فدل على كونهما مثله في الطهارة، ولم أعرف أحداً من أصحاب الشافعي استدل بهذه الآية على ما ذكرناه سوى العمراني صاحب (البيان)، فلهذا أوردناها.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( تنزهوا عن البول )). وقوله لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)). وقوله ً: (( أكثر عذاب القبر من البول )). فلفظة البول عامة لكونها جنساً فتكون مستغرقة لجميع الأبوال، وهذا هو مقصودنا.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن اللام هذه للجنس، وإنما هي منصرفة إلى العهد؛ لأن المعهود في هذه الأحاديث إنما هو بول بني آدم فيجب صرفه إليه لأن الواحد إذا قال: فلان لايستنزه من البول، فإنما يعني بول نفسه فهو السابق إلى الفهم فيجب حمله عليه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه جنساً لكنا نبني العام فيه على الخاص فيخرج بأحاديثنا بول ما يؤكل لحمه، وتبقى أبوال ما لا يؤكل لحمه داخلة تحت هذا العموم؛ فيكون عملاً بالعام في عمومه، والخاص في خصوصه، وهذه طريقة مرضية بين الفقهاء والأصوليين؛ لأن فيها عملاً بالدليلين جميعاً.
قالوا: أخبارنا حاظرة، وأخباركم مبيحة، فيجب العمل على أخبارنا لكونها أحوط في المنع.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه إنما يترجح الحاظر على المبيح إذا كانا مستويين في كونهما عامين أو خاصين، فإذا اختص أحدهما بالحظر كان راجحاً لا محالة، فإذا كان أحدهما عاماً، والآخر خاصاً فإن الحكم للمخصص لا محالة؛ لأن في ذلك عملاً عليهما جميعاً بهذه الطريقة، وفي العمل على الحاظر إسقاط المبيح بلا مزية، فلهذا كان العمل على المخصص أحق وأولى.
وأما ثانياً: فلأن في العمل على المبيح تخفيفاً وتيسيراً ورفع الجناح، وقد قال الله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
قالوا: بول مستحيل إلى نتن، وفساد وقذر فأشبه بول بني آدم.
قلنا: هذا فاسد لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فبالفرق وهو أن بول ما يؤكل لحمه إنما كان طاهراً من جهة أن لبنه طاهر، وبول ما لا يؤكل لحمه نجس لما كان لبنه نجساً فافترقا.
وأما ثانياً: فبالنقض على أبي حنيفة بذرق الحمام وسباع الطير، فإنها طاهرة مع كونها قذرة ومستحيلة إلى نتن وفساد، وعلى الشافعي بالمني، فإنه مستحيل إلى نتن وفساد ومع ذلك فإنه قضى بطهارته.
وأما ثالثاً: فمن جهة القلب للعلة، وهو أنا نقول: إذا قالوا: بول مستحيل فكان نجساً.
قلنا: حيوان فاستوى بوله ولبنه، وهذا من القلب المبهم، وهو مفسد للعلة فيبطل ماتوهموه.
فأما أبوال الضفادع ففيه ثلاثة أوجه:
أولها: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فكان بوله نجساً كبول بني آدم، وهذا رأي أكثر الفقهاء أبي حنيفة والشافعي.
وثانيها: أن بولها طاهر، وهذا هو الذي ذكره السيد أبوطالب.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لايعيش إلا في الماء فأشبه السمك في ذلك.
وثالثها: أنه مكروه، وهذا هو الذى حصله السيد المؤيد بالله من مذهب الهادي.
والحجة على ذلك: هو أن البول معتبر باللحم عنده، فإذا كان يُكره لحمه فبوله مكروه، حملاً لأحدهما على الآخر.