والحجة على ذلك: هو أنها ذكاة لا تبيح اللحم، فلا تكون مُطَهرة للجلد، دليله ذكاة المجوسي، ولأن(1) المقصود من الذكاة هو الأكل، والطهارة تابع لأنها هي التابع فإذا لم يكن المقصود حاصلاً فالتابع له أولى لعدم الحصول.
وذهب أبوحنيفة ومالك إلى أن الذكاة يطهر بها جلد جميع ما لا يؤكل لحمه ما خلا الخنزير والإنسان.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]. فظاهر الآية دال على أن كل ما حصلت في حقه [الذكاة] فهو طاهر وحلال أكله؛ لكن قام الدليل الشرعي على كون لحمه حراماً فبقي الدليل على طهارة جلده؛ لأن أحدهما منفصل عن الآخر.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
والحجة عليه: ما ذكرناه ونزيد ههنا وهو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فلم تكن الذكاة مؤثرة في تطهيره كالخنزير، ولا حل اللحم طهارة الجلد، لأنه قد يؤكل مع اللحم في المسموط(2)، فهو تابع له وقد اتفقنا على تحريم اللحم ونجاسته. فهكذا حال الجلد يكون نجساً لا محالة، فإذا عُمل من هذا الجلد النجس مطهرة أو حوض فإنه ينظر فيه(3)، فإن كان متغيراً بالجلد فهو نجس باتفاق، وإن لم يكن متغيراً فمن قال بأن القليل لا ينجس إلا مع التغير فإن ما هذا حاله يكون طاهراً كما هو رأي القاسم ومالك، وهو الذي اخترناه من قبل، ومن قال بأن القليل ينجس من غير تغير فإن كان دون القلتين فهو نجس على رأي الناصر والمنصور بالله والشافعي وإن كان فوقهما لم ينجس. فأما إذا كان كثيراً فهو لا ينجس بحال.
الانتصار: قالوا: الآية دالة على طهارته.
__________
(1) في الأصل: من المقصود.
(2) المسلوق ومنه المرق وكل ما طبخ من اللحوم. راجع القاموس ج2/540.
(3) أي: في الماء الذي يصب في تلك المطهرة أو الحوض.

قلنا: هذا فاسد، فإن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]. ورد عقيب ذكر الحيوانات التي يَحل أَكلها، وعرض الموت من غير ذكاة، فظاهر الآية دال على تحريمها إذا ماتت من أجل تلك الأسباب، الخنق والوقذ(1) والنطح والتردي، فهذا يكون حراماً إلا ما أُدرك بالذكاة الشرعية فلا حجة لكم فيه.
قالوا: الذكاة أقوى من الدباغ، من جهة أنها تفيد الطهارة في الجلد، ثم إن الجلد قد طَهُر بالدباغ فتكون طهارته بالذكاة أحق وأولى.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نقول بطهارة الجلد بالدبغ فلا يلزمنا ذلك وقد مر بيانه فأغنى عن الإعادة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا طهارته بالدباغ كما هو على رأي الشافعي، فله أن يقول: بل طهارة الدباغ أقوى؛ لأنه يزيل نجاسةً حالَّةً، والذكاة تدفع نجاسةً غير حالَّةٍ، فالتأثير في الموجود بدفعه أقوى من التأثير في دفع مالم يكن موجوداً، وأيضاً فإن الدباغ أوسع مجالاً وتصرفاً لعمومه، من جهة أنه لا يختلف حاله في كونه مطهراً باختلاف حال من يدبغه، فلهذا لم يختلف حاله فيما يؤكل وما لا يؤكل، بخلاف الذكاة فإنها تختلف حالها باختلاف حال المُذَكِّي من كفر وإسلام، فلا جرم اختلف حالها بالإضافة إلى ما يؤكل وما لا يؤكل.
قالوا: ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة كالشاة.
قلنا: هذا لا يلزمنا وإنما يلزم الشافعي، وله أن يجيب بأن الشاة صادفت الذكاة محلها فأثرت في طهارة الجلد كالذبح في المذبح، وفي هذا لم تصادف الذكاة محلها فلم تكن مؤثرة في طهارته كالذبح في غير المذبح فافترقا، ولأن ذبح الشاة يفيد المقصود وهو حل الأكل؛ فلهذا كان مفيداً للطهارة، وهذا الذبح لا يفيد المقصود فلا جرم لم يكن مفيداً للطهارة كذبح المجوسي.
__________
(1) شدة الضرب. ا.هـ. قاموس.

فأما جلد الكلب فهل يطهر بالدبغ أم لا؟ فالذي ذهب إليه علماء العترة: أنه لا يطهر كسائر الجلود. وقد قدمنا الكلام عليه وهو رأي الشافعي، وذهب أبوحنيفة إلى طهارته بالدبغ.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان نجس في حال حياته، فلم يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، أو نقول: حيوان يُغسل الإناء من ولوغه، فأشبه الخنزير، ولأنه ينجس الماء بولوغه فيه، فكيف نجعل جلده مطهرة يُتوضأ فيها؟ هذه مناقضة، وقد مضى الكلام على أهل الدباغ فلا نعيده.
مسألة: نهى رسول اللّه ً عن استعمال الآنية الذهبية والفضية في الوضوء والأكل والشرب وغير ذلك من الاستعمالات، واعتمد هذا الخبر أئمة العترة، وهو قول الفرق الثلاث: الحنفية، والشافعية، والمالكية.
والحجة على ذلك: ما روى حذيفة، قال سمعت رسول اللّه يقول: (( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة))(1). فنص على هذه الاستعمالات، ثم قسنا عليها ما عداها من سائر وجوه الاستعمالات.
وحكي عن داود: أنه لا يحرم إلا الشرب فيها، وهو إنما قال بهذه المقالة لإنكاره الأقيسة المعنوية المخيلة منها والشبهية، وعول على ظواهر الأحاديث وجمد عليها من غير تعرض لمعانيها الرائقة وأسرارها المفيدة الفائقة، ومنكرو القياس جهال لمحاسن الشريعة، عتاة عن(2) التطلع إلى دقائقها وأسرارها، قد جمدوا على ظواهر فما أحرزوها ولا وصلوا إلى غايتها، ولا رعوها حق رعايتها.
وقد حكي عن ابن سريج أنه ناظره يوماً وقال له: أنت لا تقول إلا بالظواهر.
فقال: نعم.
فقال: ما تقول في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَاً يَرَهُ }[الزلزلة:7،8]. فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟
__________
(1) رواه البخار ي في صحيحه، ومسلم وغيرهما بعدة روايات.
(2) في الأصل إلى.

فقال له: الذرتان ذرة وذرة، فقد اندرج تحت الظاهر.
فقال له ابن سريج: فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرة ونصف؟
فتبلَّد ولم يجب بحلوة ولا مرة، والذي أوقعه في ذلك هو إنكاره للقياس و[عدم] الاطلاع على دقائقه، والاحتواء على مكنون أسراره.
وهل يكون النهي عنها نهي تنزيه أو تحريم؟ والأقرب أنه نهي تحريم، وهو [القول] الجديد للشافعي، وقال في القديم: إنه نهي تنزيه.
والحجة على ما قلناه: ما روته أم سلمة )، عن الرسول ً أنه قال: (( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ))(2). ويُروى: يجرجَر، بفتح الجيم على فعل ما لم يسم فاعله، وبكسرها على ما سمي فاعله، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه، إذا جرعه جُرَعاً لها صوت، والجرجرة: حكاية ذلك الصوت، وجرجر الجمل في هديره: إذا رده في شقشقته، قال الشاعر:
وهو إذا جرجر بعد الهبّ ... جرجر في حنجرة كالجُبِّ(3)
والجب: هو دن الماء.
وهل كان تحريم استعمال الآنية الذهبية والفضية لأجل الزينة والفخر والخيلاء، أو لعين الذهب والفضة؟ فيه وجهان:
__________
(1) أم المؤمنين هند بنت حذيفة بن المغيرة المخزومية، تزوجها الرسول ً سنة 4هـ على الصحيح بعد استشهاد زوجها أبي سلمة بن عبدالأسود في أُحد، وهي من أشهر أمهات المؤمنين، وأوفرهن فضلاً وعلماً ورواية للحديث، توفيت في شوال سنة 59هـ، وصلى عليها أبو هريرة، كما نقل ابن حجر عن الواقدي. ( التهذيب ج12/483).
(2) رواه أحمد في مسنده، وجاء في سنن البيهقي وابن ماجة ومصنف عبدالرزاق بلفظ: ((إن الذي شرب)) وفي رواية البخاري ومسلم والموطأ: ((الذي يشرب...إلخ)). قال في حاشية البحر: والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف.
(3) أورده ابن منظور في مادة جر، ونسبه إلى الأغلب العجلي يصف هدير الفحل:
وهو إذا جرجر بعد الهب… جرجر في حنجرة كالجب
وهامةٍ كالمرجل المنكب
ا هـ. لسان ج4/131

أحدهما: أن ذلك من أجل العين، وهذا هو الذي تشير إليه الظواهر الشرعية.
وثانيهما: أنه من أجل الفخر والخيلاء؛ لأن استعمالها في الأكثر إنما هو من أجل ذلك، وفائدة التوجيه الذي ذكرناه أنه لو اتخذ إبريقاً، أو طاساً من ذهب أو فضة، ثم غشاه بالرصاص أو بالنحاس.
فإن قلنا: إنه للفخر والخيلاء جاز ذلك، إذ لا فخر هناك ولا خيلاء؛ لأن الذي يبدو منه هو الرصاص والنحاس.
وإن قلنا: إنه لأجل العين لم يجز استعمال ذلك؛ لأن العين حاصلة فيه.
وإن خالف النهي وتوضأ في الآنية الذهبية والفضية كان عاصياً، ولم يحرم المأكول ولا المشروب، وصح وضوؤه؛ لأن المنع إنما كان لمعنى يعود إلى الإناء لا إلى ما فيه، بخلاف ما إذا توضأ بماء نجس أو بماء مغصوب، فإن ذلك لا يصح من جهة أن النهي راجع إلى معنى في الماء.
وإذا كان استعمالها حراماً فهل يجوز اقتناؤها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: [أنه] يجوز، لأنه إحراز لمالٍ(1)، والشرع إنما ورد بتحريم الاستعمال، والقنية ليست استعمالاً.
وثانيهما: أنه لا يجوز، وهو المختار؛ لأن فيه نوعاً من الخيلاء والزينة، ولأن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه واقتناؤه، كالملاهي، كالطنبور والمزمار والربط(2).
فأما الآنية المتخذة من غير الذهب والفضة، كالياقوت والزمرد والفيروزج والبلّور، فهي نوعان: نفيس، وغير نفيس.
فالنفيس: ما ذكرناه من هذه الأحجار، فهل يجوز استعمالها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز؛ لأن فيه سرفاً وخيلاء فأشبهت الذهب والفضة.
وثانيهما: أنه يجوز؛ لأن السرف فيها غير ظاهر ولا يكاد يعرفها إلا الخواص من الناس، فلا يكون استعمالها مؤدياً إلى الفتنة والفخر.
فالأول: حكاه حرملة عن الشافعي.
والثاني: حكاه المزني. والأقرب هو الأول، لأنها في القيمة أغلى من الذهب والفضة، والفخر والخيلاء بها أكثر لا محالة.
__________
(1) في الأصل: المال.
(2) هكذا في الأصل، وفي هامش الأصل ما لفظه: هو عود الغناء.ا.هـ

وأما غير النفيس، فينظر فيه، فإن كانت صيغة نفيسة كالآنية المخروطة من الزجاج، والخشب، وأواني الصفر المنقوش، فهل يجوز استعمالها أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في الأحجار النفيسة.
وإن كانت صيغتها غير نفيسة، أو كان ذلك متخذاً من المدر جاز استعمالها واتخاذها إذا لا سرف فيها ولا خيلاء.
فأما الآنية المتخذة من العنبر والكافور والعود الرطب، ففيها الوجهان اللذان ذكرناهما في الياقوت والزمرد.
وإذا قلنا بتحريم استعمالها فهل يجوز اقتناؤها أم لا؟
والمختار: أنه لا يجوز لما فيها من الفخر والخيلاء والسرف، وكل هذه الأمور منهي عنها، فلهذا كان مكروهاً حراماً؛ لأن أصحابها والمقتنين لها ينسبون إلى التكبر والفخر والخيلاء فلهذا منع.
ويكره استعمال الآنية من النحاس والرصاص المطعمة بالذهب والفضة والمموهة بهما، والتوضؤ فيها كالإبريق، والطشت، والدواة، والمكحلة، وغير ذلك من الآلات، لما في استعمالها من الفخر والخيلاء، والتشبه بالأعاجم، والذهب أشد كراهة من الفضة، لما روي عن النبي ً أنه قال في الذهب والحرير: (( هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها ))(1). والتنزه عن جميع ذلك أفضل لقوله عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). ولأن أدنى ذلك الوقوع فيما كره اللّه ورسولُه، وأعلاه الوقوع فيما حرم اللّه ورسوله، فلا حاجة إلى ما هذا حاله، ولقوله عليه السلام: (( من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ))(2).
ويكره التوضؤ من الإناء المضبب بالذهب؛ لأن الضبة تكون على شُرَفِ الإناء وربما شرب منها فيكون شارباً في آنية الذهب، ويكره التوضؤ منه لما فيه من استعماله آنية الذهب.
__________
(1) رواه البيهقي في سننه، وفي جامع المسانيد لأبي حنيفة.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى.

فإن دعت الضرورة إلى استعماله جاز ذلك، لما روي أن عرفجة بن أسعد ) أصيب أنفه يوم الكُلاب، بضم الكاف مخففاً، يوم كان للعرب، وهو ما وقعت فيه حرب عظيمة، فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، (( فأمره الرسول ً أن يتخذ أنفاً من ذهب ))(2).
فأما التضبيب بالفضة فهو واقع على أربعة أوجه:
أولها: يكون مباحاً غير مكروه، وهو أن يكون قليلاً للحاجة تدعو إليه، وهذا نحو حلقة القدح والقصعة وضبة الشفرة، والضبة التي تكون في قائم السيف وقبيعته، وهي رأس القلة منه، لما روي أن حلقة قصعة رسول اللّه ً كانت من فضة، وقبيعة سيفه كانت من فضة.
ومعنى قولنا: لحاجة، أي أن الحاجة داعية إليها وإن كان غير الفضة يقوم مقامها من جهة أن الحاجة ربما تدعو إلى الفضة نفسها.
وثانيها: كثيرٌ للحاجة إليها، فيكون مكروهاً لكثرته، ولا يكون محرماً لأجل الحاجة إليه. وحَدُّ الكثير: أن يكون جزءاً من الإناء كاملاً من الفضة، نحو أن يكون كل أسفله أو جميع أطرافه من فضة، أو يكون جنبه من فضة، فإن كانت الفضة مستولية عليه كله فهو محرم لكونه استعمالاً لآنية الفضة فلا يجوز التوضؤ منه ولا استعماله بحال.
__________
(1) عرفجة بن أسعد بن كريب، وقيل: ابن صفوان التميمي، العطاردي، له صحبة، روى عنه ابنه طرفة، وابن ابنه عبدالرحمن بن طرفة، أنه أصيب أنفه يوم الكلاب، وفي إسناد حديثه خلاف. ا.هـ. (تهذيب ج7/159).
(2) في الاعتصام: في الشفاء خبر: وروي أن رجلاً ذهب أنفه فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره رسول اللّه ً أن يتخذ ذلك من ذهب. وروي أن اسم هذا الرجل عرفجة بن أسعد. قطع أنفه يوم الكُلاب. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عبدالرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكُلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره رسول اللّه فاتخذ أنفاً من ذهب. ا.هـ. ج4/412.

وثالثها: قليلٌ لغير حاجة، فلا يحرم لقلته ويكون مكروهاً لعدم الحاجة إليه، وهذا نحو ضبة القلم فإن ما هذا حاله قليل مستغنى عنه.
ورابعها: كثير لغير حاجة، وهذا يكون محرماً لعدم الحاجة إليه، وهذا نحو أن تكون الأعمدة التي على ظهر الدواة من فضة أو تكون الأقلام فضة، أو تكون الدواة ملبسة كلها من الفضة، فما هذا حاله يكون محرماً؛ لكونه كثيراً لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة.
وإن اتخذ سناً من ذهب أو فضة جاز ذلك، والذهب أولى من الفضة لما ذكرناه من حديث عرفجة، ولأنه لا يصدأ ولا يبلى، فإن قطعت أصبعه لم يجز أن يجعلها ذهباً ولا فضة لا تعمل عمل الأصبع من القبض والبسط فلم يكن فيها إلا مجرد الزينة لا غير بخلاف الأنف فإنه لا عمل لها في القبض والبسط فلهذا جاز اتخاذها، وإن قطعت أنملته جاز أن يعملها ذهباً أو فضة؛ لأنها تعمل عمل الأصبع في القبض والبسط، فافترقا.

ويستحب تغطية الآنية وإيكاء الأسقية، وإغلاق الأبواب، وتطفئة السراج عند النوم، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( خَمِّروا آنيتكم وأوكوا قِرَبِكُم )). والإيكاء: هو ربط أفواهها لئلا يهراق ما فيها من الماء أو يدخل فيه شيء من الحشرات. (( وأغلقوا أبوابكم لأن الشياطين لا تفتح باباً مغلقاً ، وأطفئوا سُرَجِكُم لأن الفُوَيْسِقَة(1). ربما جاءت فسحبت الذبالة فأحرقت البيت)). فإن وجد غطاء على الإناء وإلا عرض عليه عوداً لما روي عن النبي ً أنه قال: (( فإن لم تجد غطاء فلتعرض عليه عوداً ))(2). لأنه إذا كان كذلك هابت الحشرات أن تقربه.
__________
(1) الفأرة.
(2) عن جابر قال: قال رسول اللّه ً: ((إذا استجنح الليل (أو كان جنح الليل) فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم اللّه وأطفىء مصباحك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم اللّه، ولو أن تعرض عليه شيئاً، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئوا المصابيح فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)) أخرجه الستة إلا الموطأ. وعن جابر قال: قال رسول اللّه ً: ((غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء)) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. ا.هـ. جواهر.

دقيقة: اعلم أن جميع ما أوردناه في هذا الباب من الكلام في تنجيس الماء، وإن لم يكن متغيراً، وما يجوز الوضوء به من ذلك وما لا يجوز، والكلام في تحري الآنية عند الاشتباه فيها بين النجس منها والطاهر، والكلام في الآنية التي يحرم استعمالها من أجل تنجيسها للماء وإن لم تكن مغيرة له، إنما كان على رأي كثير من أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة في تنجيسهم للماء وإن لم يكن متغيراً إذا كان قليلاً، فأما ما حكيناه من ظاهر كلام القاسم بن إبراهبم وهو المحكي عن مالك، ورأي الشيخ أبي حامد الغزالي وهو الذي اخترناه كما مر تقريره، فلا وجه لهذه التفريعات من جهة أن المعيار الضابط لنجاسته إنما هو تغيره لا غير، كما هو الظاهر من نصوصات الشرع وعمومات الأخبار الواردة في الماء وأنه لا يكون نجساً إلا بغلبة النجاسة عليه واستيلائها على تغيير أوصافه أو بعضها، فأما اتصال المطهرات به فلا تؤثر في تطهيره إلا إذا أزالت عنه اسم الماء كالمرق، أو كان مزيلاً لمطلق الماء عنه، نحو ماء الورد وماء الشجر وغير ذلك مما يزيل مطلق الاسم عنه، وقد فصلنا من قبل وأتينا على جميع هذه المسائل كلها وفصلناها، والله الموفق للصواب.

44 / 279
ع
En
A+
A-