---
الفصل الرابع
في ذكر الآنية وما يجوز استعماله وما لا يجوز
وسبب ذكره في هذا الموضع لما له من التعلق بالطهارة في الوضوء والاغتسال.
مسألة: ولا يحل أكل الميتة ولا الانتفاع بها، وسيأتي تقريره في النجاسات. والذي نذكره هاهنا هو ما يتعلق بالكلام فيما يجوز التوضؤ فيه عند دباغها.
واعلم أن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء في جلود الميتة هل تطهر بالدباغ أم لا؟ وخلافهم فيها على ستة مذاهب:
المذهب الأول: أنها نجسة وأنها لا تطهر بالدباغ، وهذا هو قول علماء العترة لا يختلفون فيه، وهو محكي عن عُمَرَ وابن عُمَرَ وعائشة، وبه قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وإحدى الروايتين عن مالك، وراية أخرى أنه يطهر ظاهره دون باطنه، ويُصلى عليه ولا يصلى فيه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ}[المائدة:3].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى حرم الميتة، والسابق إلى الفهم من هذا الكلام من طريق العرف في اللغة، إنما هو الانتفاع بالأكل والوضوء وغير ذلك من سائر وجوه الإنتفاعات؛ لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق التحريم بأفعالنا والنهي عنها، وهي عامة بالإضافة إليها، فيجب القضاء بتحريمه إلا لدلالة خاصة تدل على حلها، وفيه حصول المقصود.
الحجة الثانية: ما رواه زيد بن علي عن آبائه ٍ عن الرسول ً أنه قال: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))(1). وهذا عام في جميعها لا يجوز تخصيصه إلا بدلالة. ورَوَى عبدالله بن عكيم ) قال: أتانا كتاب رسول اللّه ً قبل موته بشهر ونحن في أرض جهينة قال: (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ))(3). وهذا عام.
الحجة الثالثة: من جهة القياس فنقول: جزء من ميتة فلا يتطهر بالدباغ كاللحم، أو نقول: جلد ميتة فكان نجساً كما كان قبل الدباغ.
المذهب الثاني: أن جميع الجلود تطهر بالدباغ وجلد الكلب، فأما الخنزير ففيه ثلاث روايات:
__________
(1) روي عن جابر قال: بينما أنا عند رسول اللّه ً إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول اللّه إن لنا سفينة انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة، فأردنا أن ندهن بها سفينتنا، وإنما هي عود على الماء،. فقال رسول اللّه ً: ((لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). هكذا جاء في البحر وفي أصول الأحكام.
(2) أبو معبد عبدالله بن عكيم الجهني الكوفي، أدرك عهد رسول اللّه ً ولم يصحبه كما يفهم من ترجماته. من رواة الأحاديث، روى عن عدد من الصحابة، منهم: أبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعائشة. قال البخاري: أدرك زمن النبي ً ولا يُعرف له سماع صحيح، وقال نحو هذا أبو نعيم وابن حبان. قال ابن سعد: كان إمام مسجد جهينة، وأنه مات في ولاية الحجاج (مات الحجاج أميراً على العراق عام 95هـ) ولم يذكر الحافظ ابن حجر ولا صاحب الطبقات تاريخاً محدداً لوفاته. (تهذيب التهذيب 5/283).
(3) لفظه: عن عبدالله بن عكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه بأرض جهينة وأنا يومئذ غلام شاب، يقول فيه: ((لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). وفي رواية: أن رسول اللّه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر وفي نسخة بشهرين: ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). أخرجه أبو داود وللترمذي والنسائي نحوه. ا.هـ. جواهر ج2/14، هامش البحر.
الأولى منها: أنه يطهر بالدبغ.
والثانية: لا يطهر به.
والثالثة: بأنه لا جلد له، وإنما ينبت شعره على لحمه، وهذا هو رأي أبي حنيفة، وهكذا جلد الإنسان عنده لا يطهر بالدباغ.
والحجة على ما قاله: ما روي عن النبي ً أنه مر بشاة ميمونة (1) وهي ميتة فقال الرسول ً: (( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ))؟ فقالوا: يا رسول اللّه إنها ميتة. فقال: (( إنما حرم من الميتة أكلها ))(2).
الحجة الثانية: قوله ً: (( أيما إهاب دُبغ فقد طهر ))(3). وهذا عام في جميع الحيوانات كلها. وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) وروت عائشة (رضي اللّه عنها) عن النبي ً أنه قال: (( دباغ الميتة طهورها ))(4).
__________
(1) أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث العامرية، زوج النبي ً، تزوجها سنة سبع، روت عن النبي ً، وعنها: ابن اختها عبدالله بن العباس، وآخرون. وقيل: كان اسمها بَرَّة. فسماها رسول اللّه ً ميمونة. توفيت بسرف حيث بنى بها رسول اللّه ً، وهو مكان بين مكة والمدينة سنة 51هـ على ما صححه الحافظ ابن حجر، وصلى عليها عبدالله بن العباس. (تهذيب التهذيب ج12/480).
(2) عن ابن عباس أن رسول اللّه ً مر بشاة ميتة، فقال: ((هلاَّ انتفعتم بإهابها))؟ قالوا: إنها ميتة، قال: ((إنما حرم أكلها)). هذه إحدى روايات البخاري ومسلم وله روايات أخر بألفاظ مختلفة.
(3) أخرجه النسائي.
(4) قال في الاعتصام: هذا الحديث رده البعض؛ لأن في بعض طرقه عكرمة مولى ابن عباس، وروي عن ابن حنبل أن عكرمة روى أحاديث منكرة، وقال ابن سعد: ليس بحجة، وربما جاء بالشيء المنكر.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أن الدباغ فعل لا تصاحبه الحياة فكان مؤثراً في التطهير كالذكاة الشرعية، فأما الخنزير وجلد الإنسان فهما خارجان عن هذه العمومات التي أوردناها، وعلى رأيه: الكلب داخل فيها كما قلناه، وخروج جلد الخنزير عنده؛ لأنه لا جلد له، وخروج جلد الإنسان لأنه لا نفع فيه، والعمومات مشيرة إلى الانتفاع به.
المذهب الثالث: أن جلود الميتات كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير وما كان متولداً منهما أو من أحدهما، وهذا هو رأي الشافعي، وحكاه ابن الصباغ، والعمراني صاحب (البيان) عن أمير المؤمنين، وابن مسعود، فأما جلد الإنسان فلأصحاب الشافعي فيه وجهان.
والحجة على ذلك: ما رويناه من العمومات التي أوردناها حجة لأبي حنيفة، فإنها حجة لهما فلا حاجة إلى تكريرها، وخروج الكلب على رأيه بالقياس، وهو أنه حيوان نجس في حال حياته فأشبه الخنزير، أو لأنه حيوان مستقذر في نظر الشرع فلم يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، وأبوحنيفة يعارض هذا القياس بقوله: حيوان ينتفع به حال الحياة، فطهر جلده بالدباغ عند الموت كالشاة والبقرة.
المذهب الرابع: أن الجلود كلها تطهر بالدباغ إذا ماتت، وهذا هو المحكي عن داود من أهل الظاهر، ويروى عن أبي يوسف أيضاً.
والحجة على ذلك: ما رويناه من الأحاديث العامة في طهارة جلود الميتة؛ فإنها لم تخص شيئاً عن شيء، ولا شك أن العموم ظاهر فيما كان دالاً عليه ولا يُخص إلا بدلالة منفصلة.
المذهب الخامس: أنه يطهر بالدباغ جلود ما يؤكل لحمه، ولا يطهر جلود ما لا يؤكل لحمه، وهذا شيء يحكى عن الأوزاعي وأبي ثور.
والحجة على ذلك: هو أن حديث شاة ميمونة إنما كان فيما يؤكل لحمه دون مالا يؤكل لحمه، فلا جرم قصرناه عليه، ولأنها أكثر ما ينتفع بأُهُبِها في العادة.
المذهب السادس: أنه يطهر ظاهر الجلد بالدباغ دون باطنه، وعلى هذا تجوز الصلاة عليه ولا تجوز فيه، ويجوز الانتفاع به في الأشياء اليابسة دون الأشياء الرطبة. وهذا شيء يحكى عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أن باطن الجلد هو الملاقي للنجاسة والمباشر لها عند الموت، فلهذا لم يؤثر الدباغ في طهارته بخلاف ظاهر الجلد فإنه لم يلاق نجاسة الميتة، فلا جرم أثر فيه الدباغ.
وحكي عن الزهري: أنه أنكر الدباغ، وقال: بأنه يجوز الانتفاع بجلود الميتات على كل حال. فهذا تقرير المذاهب بأدلتها بحسب الوسع.
والحجة للزهري: حديث ابن عباس رضي اللّه عنه وهو أنه عليه السلام مر بشاة ميتة فقال: (( ما على أهل هذه لو أخذوا إهابها فانتفعوا به ))(1). ولم يذكر الدباغ ولا شرطه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعين، من نجاسة الجلود في الميتة دبغت أو لم تدبغ.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين:
__________
(1) روى زيد بن علي، عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه ً: ((لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب)). فلما كان من الغد خرجت أنا وهو فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال ً: ((ما كان على أهل هذه...إلخ)) فقلت: يا رسول اللّه أين قولك أمس؟ فقال: ((ينتفع منها بالشيء)). رواه في شرح التجريد من طريق محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان عن أبي خالد. وكذا في الاعتصام، وفي أصول الأحكام. وجاء في الاعتصام ما لفظه: قد قيل: إن المراد بالشيء الصوف، وقيل: إن المراد أن تذكى قبل أن تموت فينتفع بإهابها.ا.هـ. ولا يظهر من الحديث إلا أن المراد هو الإهاب كما جاء بنصه في ((..لو انتفعوا بإهابها)). وقد أورد المؤلف الحديث عن جابر بن عبدالله كما سيأتي.
الحجة الأولى: ما روى جابر بن عبدالله عن النبي ً أنه قال: (( لا يُنْتَفَعُ من الميتة بشيء )). فلما كان من الغد خرج فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال عليه السلام: (( ما كان على أهل هذه أن ينتفعوا بإهابها )). فقلت: يا رسول اللّه أين قولك بالأمس؟! فقال: (( ينتفع منها بيسير )). وأراد باليسير: ما لا تحله الحياة كالشعر والضلف والقرن، فإن ما هذا حاله يكون طاهراً كما سنوضحه بعد هذا بمشيئة اللّه تعالى. فظاهر هذه الأحاديث دالة على بطلان الانتفاع من الميتة بشيء لأجل عمومها؛ كالآية التي تلوناها في تحريم الميتة، وكالأخبار التي أوردناها.
الحجة الثانية: قياسية، وتقريرها أنا نقول: الميتة صارت نجسة لمعنى لا يرفعه الدباغ، فوجب أن لا يطهر كجلد الخنزير عند أبي حنيفة والشافعي، ونحو جلد الكلب على رأي الشافعي، ونحو جلد الإنسان على رأي أبي حنيفة.
وقولنا: لمعنى لا يرفعه الدباغ، تقرير لقاعدة القياس وهو: انتفاء الحياة عنه؛ لأن ذلك هو السبب في نجاسة الميتة، وهو ملازم لعينها، فلا يزال بأمر عارض وهو الدباغ، ومهما بقي الجلد فهو باق على النجاسة كالخمر فإنها لا تطهر مهما كانت خمراً، بخلاف ما إذا انقلبت خلاً، وكالنجاسة مهما بقيت عينها فإن نجاستها باقية حتى تزول العين، وعين الجلد باقية على النجاسة بالموت فلا تزول بما ذكروه من عارض الدبغ.
ويؤيد ما ذكرناه: هو أن الماء ورد مطهراً لجميع النجاسات كلها، والدباغ ليس له هذه المزية فإنه قاصر عنه ولا يكون مطهراً إلا للجلد لا غير(1) فإذا كان الماء لا يُطهر جلد الميتة مع استيلائه على التطهير لجميع الأقذار والنجاسات فالدباغ أحق وأولى بأن لا يكون مطهراً.
__________
(1) على رأي القائلين بأن الدباغ يطهر جلد الميتة.
ثم نقول: الذكاة في التطهير أقوى من الدباغ، ولهذا فإنها تؤثر في طهارة الجلد واللحم وتؤثر في محلها وغير محلها، والدباغ لا يؤثر إلا في طهارة الجلد لا غيره، ولا يؤثر في غير محله، ثم إن الذكاة في حق الميتة لا تُطَهر جلدها، فالدباغ أحق بأن لا يطهره لما قررناه، ولا جلد حيوان غير مذكى، فوجب تحريم الانتفاع به كما كان قبل التذكية. فهذه الأقيسة كلها متطابقة على نجاسة جلد الميتة وإن كان مدبوغاً وأن دباغه لا يؤثر في طهارته.
الانتصار على من خالفنا في هذه القاعدة إنما يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: والأخبار التي رويناها عن عائشة (رضي اللّه عنها) وعن ابن عباس وعن جابر، كلها دالة بعمومها على أن الدباغ مطهر، وهي ظاهرة في العموم، وهو أدنى متمسك في حق المجتهد حتى يدل دليل على خلافه.
قلنا: هذه الأخبار مُعَارَضَة بمثلها، ومهما كانت الأمارات الظنية متعارضة، فلابد من الرجوع إلى الترجيح؛ لأن الترجيح تغلب على الظن قوته، ويصير كأنه غير معارض، وأخبارنا قد ظهر ترجيحها من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن أخبارنا دالة على الحظر، وما أوردوه من أخبارهم فهو دال على الإباحة، ولا شك أن الحاظر أحق بالاتباع من المبيح من جهة ما في الحاظر من الاحتياط في الدين، وقد قال عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). وفي حديث آخر: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات)).
وأما ثانياً: فلأن أخبارنا مؤرخة؛ لأنه قال قبل موته بشهر أو شهرين: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). فهي دالة على التأخر وأخباركم مطلقة وظاهرها التقدم، فلهذا تطرق إليها ظن كونها منسوخة، وما يُظن كونه ناسخاً فهو أحق بالعمل عليه مما يكون منسوخاً.
وأما ثالثاً: فلأن أخبارنا لم يخرج من عمومها إلا ما كان لا ينجس بالموت كالقرن والضلف والشعر والصوف، فهو طاهر في حال الحياة والموت، فكان كالخارج عن الميتة بخلاف عمومات أخباركم، فإنه قد خرج منها جلد الكلب والخنزير والإنسان، وما هذا حاله فإنه يُضعف العموم؛ لأنه إذا خرج هذا الجنس من الجلود عن العموم بأدلة منفصلة، جاز إخراج جلد كل ميتة بأدلتنا ويبقى متناولاً لجلد ما ذكي، فإذا دبغ طهر عن الدم والفرث وسائر الأقذار التي تتعلق به.
قالوا: إن اللّه تعالى قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُوْدِ الأَنْعَامِ بُيُوْتَاً }[النحل:80]. فأورد هذه الآية على جهة الامتنان، ولم يفصل بين المذكى منها وغير المذكى، بل هي عامة في الأمرين جميعاً، وهذا هو مطلوبنا.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه كما لم يفصل بين المذكى منها وغير المذكى، فهكذا لم يفصل بين المدبوغ منها وغير المدبوغ، فيلزم جواز تطهير ما ليس مدبوغاً عملاً على عمومها وأنتم لا تقولون به، فالذي به خرج عن المدبوغ من العموم على زعمكم يخرج عن المذكى على مذهبنا.
وأما ثانياً: فلأن (مِنْ) هاهنا دالة على البعضية، وهذا مسلم في أن بعض الجلود يكون كِنَّاً لنا وهو ما كان مذكى فلا يكون فيه حجة لكم على ما زعمتم.
وأما ثالثاً: فهب أنا سلمنا عموم هذه الآية على ما ادعيتموه، لكن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3] خاصة، فتكون هذه حاكمة على تلك فيخرج ما تناولته هذه وهو تحريم الميتة، وتبقى الآية الأولى دالة على ما عدا هذه الخاصة، وفيه حصول غرضنا من تحريم الميتة كلها.
قالوا: روت عائشة عن النبي ً: (( دباغ الميتة طهورها)). وهذا ظاهره القضاء بأن الدبغ يُطهر الجلد فلا حاجة إلى تأويله.
قلنا: لو دبغ بالأشياء النجسة، أو دبغ بالطاهرة لكنها وقعت عليها نجاسة، أليس لابد من تأويله بأنه إنما يطهر إذا دبغ بالأشياء الطاهرة دون الأشياء النجسة؟ فقد خرجت هذه الصورة عما قالوه من العموم، فهكذا نقول: إنما يطهر بالدبغ ما كان ميتاً بالذكاة دون ما مات حتف أنفه، لأجل الدلالة كما أخرجتم الأول بالدلالة فلا تفرقة بينهما.
قالوا: روي عن النبي ً أنه قال: (( دباغ الأديم طهوره )). وفي رواية أخرى: (( يطهرها الماء والقرض )).
ووجه الدلالة: هو أنه لم يفصل بين أديم مذكى وغير مذكى.
قلنا: إن ادعيتم فيه العموم وجب أن يكون مخصوصاً بأدلتنا، وإن ادعيتم أنه لم يفصل بين مذكى وغير مذكى وجب تأويله على المذكى جمعاً بين الدلالتين، وهذه طريقة مستقيمة، أعني أنه إذا أمكن الجمع بينهما كان مستحباً من غير حاجة إلى الحكم بتعارضهما، وقد تناكد في قبولها أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب)، وزعم أنه لا حاجة إلى الجمع بينهما بل يحكم بتعارضهما إذا لم يكن هناك ترجيح، أو ترجيح أحدهما على الآخر من غير حاجة إلى الجمع بينهما.
والمختار: هو أنه إذا لم يكن الجمع بينهما وموضعه الكتب الأصولية.
قالوا: في الدباغ فعل لا تصاحبه الحياة، فيجب أن يكون مؤثراً في التطهير كالذكاة الشرعية.
قلنا: نفرق بينهما ونقول: التطهير حصل في المذكى بنفس التذكية الشرعية بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }[المائدة:3]. ولم تسبقه نجاسة، بخلاف الدباغ فإنه مسبوق بالنجاسة فلهذا لم يكن رافعاً لها فافترقا. وسيأتي بقية الكلام على ما يكون نجساً في أبواب النجاسات، وإنما ذكرنا ما يتعلق بالآنية في الوضوء لا غير.
فأما الزهري: فلا يبعد أن تكون مقالته هذه مخالفة للإجماع من جهة أن الأمة فيها على أقوال:
فمنهم من قال بنجاسة جلود الميتة على كل حال دبغت أم لم تدبغ.
ومنهم من قال بطهارتها إذا دبغت.
ومنهم من قال بطهارة بعضها دون بعض، كما فصلناه من الخلاف في ذلك.
ولم نعلم أن أحداً من الأمة ذهب إلى طهارتها أجمع على كل حال؛ لأن ما هذا حاله يؤدي إلى فوات الحق عن أيديهم وإلى ذهابهم عنه؛ لأن القول بطهارة جلود الميتات من دون دبغ لم يصر إليه صائر منهم، فلهذا كان مخالفاً للإجماع خارجاً عنه، لأن الصحابة (رضي اللّه عنهم) قد خاضوا في المسألة ولم يقل أحد منهم بهذه المقالة. فأما تردد الفقهاء في إخراج بعض الجلود عن العموم، وإدخال بعضها في العموم كإخراج الشافعي جلد الكلب، وإدخال أبي حنيفة له تحت عموم الطهارة بقوله: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر)). وإخراجهما جميعاً لجلد الخنزير، وإخراج من أخرج جلود ما لا يؤكل لحمه، وإدخال جلود مايؤكل لحمه، وكإخراج مالك لباطن الجلود دون ظاهرها، فإنها كلها تصرفات في العموم بالإدخال والإخراج بالأقيسة المعنوية والأمور العرفية، وهم إنما بنوها على صحة هذه الأحاديث العامة، وتصرفهم فيها بالإدخال والإخراج وقد أبطلناها، فلا وجه لتكرير الإبطال، فإن إبطالها قد اندرج تحت ما ذكرناه.
مسألة: الحيوان المأكول إذا ذبح على شرط الشرع في الذكاة فإنه يحل أكله ويطهر جلده، ويجوز جعله مطهرة للماء، سواء دبغ أو لم يدبغ، عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يُعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوْبُهَا فَكُلُوْا مِنْهَا وَأَطْعِمُوْا }[الحج:36]. ومعنى قوله تعالى: {وَجَبَتْ جُنُوْبُهَا}: سقوطها. وليس سقوطها إلا بالذبح والذكاة الشرعية.
فأما غير المأكول من الحيوانات، كالكلب والحمار وسائر السباع والخيل، فإن ذكاته لا تؤثر في طهارة جلده، وهي ميتة، وينجس عند أئمة العترة، ونص عليه الشافعي في (الأم).