وأما ثالثاً: فلأن الظنون الصادرة عن الأمارات يعول عليها في جميع التصرفات العرفية في جلب المنافع ودفع المضار، وعليه تبتني أكثر الأحكام الشرعية في العبادات والعادات والمعاملات، والشك لا يرد في هذه الموارد ولا يعول عليه في شيء من الأحكام بحال. فحصل من مجموع ما ذكرناه مخالفة الشك للظن في حكمه ولفظه، فكيف يقال: إنه من قبيل الظنون!.
الاستدراك الثاني: قولهما: إن الظنون منقسمة إلى ثلاثة. وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن من حق مورد التقسيم أن يكون شاملاً لجميع الأقسام ليصح تقسيمها عليه، ولهذا فإنه يقال: الحيوان ينقسم إلى إنسان وفرس، ولا يقال: الحيوان ينقسم إلى إنسان وحجر، لما كان مورد القسمة وهو قولنا: الحيوان، ليس شاملاً لقولنا: حجر ولا هي مندرجة تحته، فيبطل التقسيم لعدم اندراجها تحته، فلما كان الشك غير داخل في حقيقة الظن ولا يطلق عليه اسمه، بطل تقسيمه عليه لعدم اندراجه تحته، ونُزِّل ذلك منزلة من يقول: العلم منقسم إلى: نظري وظني، فلما كان هذا باطلاً فهكذا ما ذكراه من التقسيم، ولكن يقال: العلم منقسم إلى: نظري وضروري لا غير.
وأما ثانياً: فلأن الظن حقيقة مغايرة للشك ومخالفة له في لفظه ومعناه كما أشرنا إليه، وما هذا حاله فلا يقال بأنه أحد أنواع الظن وقسم من أقسامه. ومن العجب أنهما لقباه بالظن المطلق وجعلاه أول أقسام الظن الوارد على المكلف، وبينهما من المغايرة والمخالفة في الحقائق واللوازم والألفاظ ما لا يخفى، وفي ذلك ضعف ما قالاه وسقوطه.
الإستدراك الثالث: قولهما: فإذا كان التجويز الوارد على الشيء والاحتمال الواقع فيه يستوي طرفاه، فإن كل واحد من الاحتمالين ظن، إلا أنه ليس بظن غالب وإنما هو ظن مطلق، وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ظاهر كلامهما هذا يقتضي بأن التجويز هو الشك، وهذا فاسد، فإن حقيقة الشك مخالفة لحقيقة التجويز، فإن الشك كما ذكرناه تصور الحقائق والماهيات مع الكف عن اعتقاد شيء من أحكامها اللازمة لها.
وأما التجويز: فهو العلم بأن ليس في العقول ما يحيل هذا الحكم في الثبوت ولا نقيضه. فإذا علمنا العالم نفسه، وكففنا عن اعتقاد قدمه وحدوثه، فهذا هو الشك، وأما إذا علمنا بأنه ليس في العقول ما يحيل إثبات قدمه وإثبات حدوثه، فهذا هو التجويز. ثم إن التجويز هو مستند للشك فلا شك في الأمرين جميعاً: القدم والحدوث، إلا إذا كان مجوزاً وكانا ممكنين، فأما الأمور المستحيلة فلا يمكن تجويزها، وهو أيضاً مستند للظن فإنه لا يمكن ظن حكم من الأحكام في ثبوته ونفيه، إلا إذا كان مجوزاً له، فعرفت بما ذكرناه مغايرة حقيقة الشك للتجويز وأن الشك لا يكون تجويزاً بحال.
وأما ثانياً: فقولهما: إن كل واحد من الاحتمالين ظن.
فظاهر هذا الكلام دال على أن محتملي التجويز ظن، وهذا فاسد، فإن التجويز في نفسه ليس ظناً، فكيف يكون احتمالاه ظنين، وإنما التجويز لابد من مصاحبته للظان، كما أنه يصاحب الشاك؛ لأن قاعدة التجويز هو العلم بإمكان تلك الصفة في الثبوت والانتفاء، وإذا كان مصاحباً أعني التجويز للظن، فكيف يقال بأنه نفس حقيقته!.
الاستدراك الرابع: قولهما: فإذا وجد الرجحان في أحد الاحتمالين على الآخر، فإن أرجح الاحتمالين صار ظناً غالباً، والاحتمال الآخر شك، فإن قوي الرجحان في أحد الاحتمالين وضعف الاحتمال في الآخر فهو ظن غالب مقارب للعلم.
واعلم أن كلامهما دال هاهنا على أن الرجحان إذا كان حاصلاً في أحد الاحتمالين فإنه يكون ظناً غالباً، والاحتمال الآخر شك، فظاهر هذا الكلام يُشعر بأنه يطلق عليه اسم الشاك، مع كونه ظاناً وهذا فاسد، فإنه إذا قوي ظنه على أحد الاحتمالين فإنه بالظن يكون خارجاً عن حقيقة الشك بكل حال، ولا يُطلق عليه اسمه بعد كونه ظاناً، سواء كان ظنه غالباً أو مقارباً؛ لأن الشك كما ذكرناه خلو عن كل ترجيح، فلا يكون مصاحباً للرجحان أصلاً.
فأما التجويز: فإنه مخالف لما ذكرنا من الشك، فإنه يكون مصاحباً للرجحان، سواء كان ذلك الرجحان بعلم أو ظن أو اعتقاد؛ لأن حقيقتة لا تنافي هذه الأمور بل تكون باقية معها، فلا جرم صاحبتها، بخلاف الشك فإن حقيقته منافية للرجحان فلا تصاحبه، فَتَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه تباين هذه الأشياء في الحقائق والأحكام، أعني الشك والظن والتجويز، وأنه لا سبب للوقوع في مثل هذه المضائق إلا عدم الإحاطة بهذه الدقائق والميز بينها، وهو مسلك دقيق لا يدرك إلا بالفكرة الصافية، والقريحة المُتَّقِدَةِ، وما وقعا فيما وقعا فيه إلا لعدم الوطأة في المباحث الكلامية، والإحاطة بدقائقها، والغوص على أسرارها وغوامضها وحقائقها.
الاستدراك الخامس: قولهما: مثال الظن المطلق - الذي هو الشك على زعمهما وتوهمهما - ما نقلاه عن المؤيد بالله فيمن صلى في سراويل المجوسي، فإنه يحتمل أن يكون المجوسي قد نجسه لسبب من الأسباب، إما بترك الاستنجاء أو بغيره، ويجوز خلاف ذلك وهو أن لا يكون أصابه شيء من النجاسات، وليس لأحد الاحتمالين رجحان على الآخر، وكل واحد من الاحتمالين ظن.
واعلم أن ما ذكره المؤيد بالله إنما أورده لمقصدين:
المقصد الأول: لبيان أن الأصل في الأشياء كلها التطهير، ولا يُقدم على تنجيسها إلا بأمارة قوية تنقلها عن حكم أصلها، ومَثَّله بسراويل المجوسي فإنه باق على أصل الطهارة لا يُقدم على القول بتنجيسه إلا بأمارة.
المقصد الثاني: أن يكون غرضه بيان جواز الصلاة في سراويل المجوسي مع الكراهة لها؛ لأنها باقية على أصل الطهارة، وكونه مستحلاً للنجاسات متلوثاً بها في أكثر حالاته، لا تبطل الصلاة فيها ولكنه يكره لما ذكرناه، فهذا هو مقصد الإمام بما أورده من المثال. فأما إيراده مثالاً للشك وأن الشك من جملة الظنون، فالمؤيد بريء من عهدته وإنما هو من كيسهما، وحاشا لفكرته الصافية وذوقه المعتدل عن أن يلتبس عليه حكم الشك بالظن، والتجويز بالشك فلا يميز بين حقائقها، فقدرُهُ أجل وأعلا من ذلك. وقد قال المؤيد بالله: والأقرب أنه يحصل الظن بنجاسة سراويل المجوسي. ولكن لما لم يقارب العلم لم يحكم بنحاسته، وهذا يُصدّق ما ذكرناه من حمل كلامه على ما حملناه من إيراد المثال، لا على ما ظناه وتوهماه.
الاستدراك السادس: قولهما: إن الظن المطلق وهو الشك على زعمهما، يجوز العمل عليه بشرط أن تنضم إليه قرينة أخرى، وجعلا مثاله ما ذكره المؤيد بالله في المتاعات، وهو: أنه إذا كان الشيء في يد إنسان فقال: هو لفلان وكلني ببيعه أو رهنه، فإنه يجوز أن يُشترى منه لمجرد هذا القول، وفي مثل ذلك جاز العمل على مطلق الظن لأجل القرينة، وهي اليد القائمة، وهكذا حال المرأة إذا قدمت من الغيبة، وقالت: طلقني زوجي وانقضت عدتي. جاز أن يُؤخذ بقولها ويُعمل عليه.
واعلم أن ما ذكرناه [عنهما] هاهنا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الشك لا يجوز العمل عليه أصلاً، ولا يكون مستنداً لشيء من التكاليف العملية، ولا يعول عليه في أمر من الأمور الشرعية، والتعبد إنما وقع مع غلبات الظنون، بقوة الأمارات والاعتماد عليها، فأما الشك فهو خلي عما ذكرناه فلا تعويل عليه، ولهذا قالا في آخر المثال: فأما إذا لم تكن مع الظن المطلق هذه الأمارة والقرينة، فإنه لا يجوز العمل عليه؛ لأنه يكون شكاً صرفاً.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكره المؤيد بالله في المثالين إنما أوردهما مثالاً في حصول الظن والعمل عليه، ولم يوردهما مثالاً للشك كما زعماه وتوهماه، فالأمارة للظن هو حصول اليد واستيلاؤها على ملك الشيء، فلهذا جاز العمل عليها في كونه ملكاً لمن هو في يده ويجوز الشراء منه، وهكذا حال المرأة فإنها حاصلة في يد نفسها، فلهذا قُبل قولها فيما تقول من نكاح، وطلاق، وعدة، ووفاء العدة؛ لأنه لا مخاصم لها، فيجوز إنكاحها على هذه الأمارة، فإن قامت بينة على خلاف ذلك عُمل عليها. وقد عملنا أولاً على ظاهر الحال، وله مساغ من جهة الشرع، فما ذكره المؤيد بالله من المثال هو مطابق للممثول لكن الوهم جاء من جهتهما حيث جعلاه مثالاً للشك، وهو جَعَلَه مثالاً للظن بالقرينة. ومن العجب أنه قال: إنه يكون شكاً؛ لكنه يجوز العمل عليه للقرينية، فبطل ما توهماه.
الاستدراك السابع: حكيا عن الإمام المؤيد بالله التفرقة بين الظن الغالب وبين الظن المقارب، وهو أن انتقال الشيء عن حكم أصله لا يجوز العمل فيه إلا على الظن المقارب دون الظن الغالب، وأوردا ما ذكره المؤيد بالله في المثال لذلك، وهو أن كل من غلب على ظنه نجاسة الماء فإنه ينظر في ذلك الظن، فإن كان الظن مقارباً للعلم وجب العمل به، وإن كان الظن غالباً لم يجز العمل عليه؛ لأن الماء على الطهارة فلا ينتقل عن حكم هذا الأصل إلا بما يكون من الظنون مقارباً للعلم دون غيره، وكمن غلب على ظنه أنه طلق امرأته وأعتق عبده، فإنه لا يعمل فيه إلا بالظن المقارب؛ لأن الأصل هو استقرار عقد النكاح وثبوت الرق، فلا ينتقل عنهما إلا بما يكون مقارباً دون ما كان غالباً.
والحجة على ذلك: هو أن العمل على غلبة الظن قد تقرر كونه مُعَوَّلاً عليه في العمل على الشهادات والحكم بها، فلا وجه لدفعه وإنكاره، فإذا كان الشيء معلوم الأصل فلا يجوز الانتقال عنه إلا بما يكون مقارباً له في التحقق، وهذا إنما يكون في الظن المقارب للعلم لقوته، فلهذا وجب اشتراطه فيما يكون انتقالاً عن حكم الأصل.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إلى أسراره، وهو عدم التفرقة في الظنون بين ما يكون منها غالباً وبين ما يكون مقارباً، والعمل عليهما على جهة الإطلاق من غير تفرقة بينهما.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة الشرعية التي دلت على العمل على غلبات الظنون في المواضع التي لا سبيل فيها إلى القطع بالعلم، لم تفصل بين ما يكون غالباً، وبين ما يكون مقارباً، فلا وجه للتفرقة من غير دلالة عليها.
ومن وجه آخر: وهو أنه إذا جاز العمل على الظن الغالب في باب العبادات كلها وأحوال المعاملات الدينية والدنيوية، جاز أيضاً العمل عليه فيما يكون انتقالاً عن حكم الأصل إجراء للظن مجرى واحداً من غير تفرقة.
ومن وجه ثالث: وهو أنه لا حقيقة للظن المقارب للعلم إلا قوة أمارته، إما بتكرر المخبرين، وإما بغير ذلك من القرائن والأسباب المقوية له، والظن الغالب لابد فيه من مزيد قوة في أمارته، فإذا كان كل واحد منهما يفتقر إلى مزيد قوة في أمارته، فيجب استواؤهما في العمل من غير خصوصية المقارب على الغالب وفي ذلك ما نريده.
قالوا: إن حكم الأصل معلوم فلا يجوز الانتقال عنه إلا بما يكون مقارباً له في التحقق والقطع، وذلك لا يكون إلا في الظن المقارب.
قلنا: قد أقررتم بجواز الانتقال عن حكم الأصل بالأمور المظنونة لكنكم اشترطتم كونه مقارباً فلابد عليه من دلالة. فأما الانتقال بالظن فقد سلمتموه فلا نحتاج فيه إلى دلالة. فأما الهادي فقد جرى على القياس في أنه لا يجوز الانتقال عن حكم الأصل المعلوم إلا بدلالة علمية، ولم يراع في ذلك ظناً سواء كان غالباً أو مقارباً، وسيأتي تقرير الكلام على ذلك في نواقض الوضوء بمعونة اللّه تعالى.
الاستدراك الثامن: وقالا: الظن إذا كان غالباً فحكمه إذا وقع في تحريم أنه لا يجب الأخذ به ولكن يستحب الأخذ به، ومثاله في الماء، وهو أنه إذا حصل الظن الغالب بكونه نجساً ولم يكن مقارباً للعلم فإنه لا يجب التجنب له، ولكن يستحب تجنبه، وهكذا الحكم في نظائره، كالطلاق والعتاق مما يكون له أصل معلوم مستقر، فإن كان واقعاً في تحليل فإنه إذا لم يكن مقارباً للعلم لم يجز العمل عليه، ومثاله: أن يرد الظن على الصائم أنه قد دخل عليه الليل وحل له الإفطار فإنه إن كان الظن مقارباً للعلم جاز الأخذ به، وإن كان دون ذلك لم يجز الأخذ به.
قلنا:إن ما ذكرتموه فيه نظر من وجهين:
أما أولاً: فلأن التفرقة بينهما تحَكُّم من غير دلالة شرعية تشير إلى تفرقة بينهما، فإن الظن إذا كان غالباً فهو العذر عندالله تعالى في جواز العمل عليه سواء كان تحليلاً أو تحريماً.
وأما ثانياً: فلأن المراد باشتراط كون الظن مقارباً للعلم إنما [هو] مزيد قوة، فالظن الغالب لابد فيه من مزيد قوة.
وإن كان الغرض قوة مخصوصة تقارب العلم، قلنا: هذا رد إلى عماية، فإن تلك الغاية غير معلومة فلا يجوز اشتراطها في التكليف؛ لأن من حق ما كان مكلفاً به أن يكون ظاهراً متحققاً ممكناً تحصيله، واشتراط المقاربة لا وجه له، وإنما الغلبة للظنون هي المشترطة الشاملة لجميع أساليب الظنون في جميع الأفعال الشرعية.
الاستدراك التاسع: قال الشيخ علي بن الخليل: قد ينتقل الإنسان من اليقين إلى الشك في العقليات، ومثاله: إذا علم رجل بأن زيداً في الدار بطريق المشاهدة ثم غاب عنه وتخلل هناك وقت وزمان، فإنه لا يجوز الاعتقاد على القطع بأنه في الدار لجواز أن يكون قد غاب، ولا بأنه حي لجواز أن يكون قد مات، وكما لا يجوز الاعتقاد فلا يجوز الإخبار.
واعلم أن ما ذكره في هذا الفصل ليس وراءه كثير فائدة ولا تحته جدوى نافعة، فليس يخلو غرضه بما ذكره فيه، إما أن يريد أنه لا يجوز العمل على الشك والانتقال إليه فهذا فاسد لا قائل به، فإنه لا يجوز العمل على الشك في شيء من أحكام الشريعة مقطوعها ومظنونها، ولا ورد تعبد بالشك بحال، وإن كان غرضه أن كل من علم بأن زيداً في الدار بطريق المشاهدة والإدراك ثم غاب عنه ولم يشاهده فإنه لا يحصل العلم به من تلك الطريق فهذا صحيح، فإن كل من لم يدرك لم يحصل العلم بالإدراك، وكل من لم يعلم فإنه جاهل به، وليس وراء هذا مزيد فائدة، وإن كان الغرض أن الواحد لا يجوز له الاعتقاد لما لا يعلم حقيقة حاله ولا يجوز له الإخبار عما لا يأمن كونه كذباً، فهو ظاهر لا مرية فيه وليس مختصاً بهذا الموضع ذكره، وموضعه كتب الكلام.
الاستدراك العاشر: قوله: إنه يجوز الانتقال من اليقين إلى الشك في الشرعيات، ومثاله أنه لو كان معه إناء من ذهب موزون، ثم وقع فيه سبب يجوز أن يكون قد نقص وزنه نحو أن يقع على الأرض أو يسرقه سارق أو غير ذلك، فإنه إذا أراد أن يبيعه بدينار لم يجز له أن يبيعه إلا بأن يعيد وزنه، وقام هذا الشك الجائز مقام القطع بأنه قد نقص وزنه.
قلنا: إن كان الغرض من هذا الكلام هو أن الشك قد عمل به فهذا فاسد، فإن الشك لا يكون مستنداً لحكم من أحكام اللّه تعالى على خلقه بحال، وإن كان الغرض هو إبانة التعبد في الذهب بمثله والفضة بمثلها، أنه لا بد من اعتبار المساواة فيهما علماً فهذا مسلم، فمهما لم يحصل العلم لم تصح المعاوضة، فما هذا حاله ليس عملاً على الشك أصلاً، وهكذا حال المكيل بمثله والموزون بمثله، لا يجوز بيعه إلا بعد إعادة كيله أو وزنه للحديث الوارد، فهو تعبد لا يعقل معناه، فإذا كان العلم مشترطاً فيها وزال لم يجز العمل لبطلان الشرط، لا لأجل العمل على الشك والجواز المحتمل، وهكذا لو كان لرجل عشرون بنتاً فارتضعت منهن واحدة لبن من لا يجوز له نكاح بنتها حرمن عليه، لأن التعبد في حقه أن لا ينكح إلا من يعلم أنها تحل له، فإنما حرمن عليه لعدم العلم الذي ذكرناه وهو الشرط في النكاح، لا من أجل حصول الشك والجواز، ولأجل كونه وارداً على جهة التعبد لم يجز الإلحاق بها إلا ما يكون في معناها، سواء كانت العلة مظنونة أو مقطوعة، فإذا ورد في الذهب قسنا عليه الفضة، وإذا ورد في المكيل قسنا عليه الموزون، وإذا ورد في الحرائر قسنا عليه الإماء. ولا يقاس عليه ما يخالفه في جنسه إذ لا علة هناك تجمعهما، فحيث يكون مضطرب النظر هو طلب الجامع فإنه غير جار فيه، وحيث يكون مضطرب النظر فيه التعرض للفارق فإنه جار فيه.
فهذا ما أردنا من التنبية على كلام القاضي والشيخ، وليس الغرض نقصاً من فضلهما فهما الجَوَّابان لأسرار المسائل والخريتان(1) في دقيق الأنظار، ولكن الغرض التذرب في أساليب الأنظار الفقهية، وتكرير المحاورة في الأسرار الشرعية؛ فإنها لم تعدم فائدة يدريها الأذكياء، ويتقاعد عن فهمها الأغمار الأغبياء، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) الخِرِّيتُ، كسكيت: الدليل الحاذق. ا.هـ. قاموس.
فحصل من خلاصة هذا التقرير الذي أطلنا فيه بعض الإطالة، أن الشك لا يطلق عليه اسم الظن، وأنه لا يعمل على الشك، وأن الأمارتين إذا تعارضتا وجب الحكم عليهما بالسقوط، ولا يقال بأن ما هذا حاله ظن مطلق، إذ لا ظن بعد تساقط الأمارتين، وإن الظن الغالب والمقارب سواء في صحة العمل من غير تفرقة بينهما كما مر بيانه، والله الموفق.