والحجة على ما قلناه: قوله ً: (( إذا أُمرتم بأمر فأتوا به ما استطعت م ))(1) ووجه الاستدلال بما ذكرناه من الخبر هو أن الصلاة ثابتة على الذمة بيقين، فلابد من تأديتها بأمر متيقن فإذا تعذر أداؤها باليقين وجب العدول إلى غالب الظن؛ لأن الظن معمول به عند تعذر العلم القاطع لا محالة، فإذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالأواني النجسة والأثواب النجسة بالأثواب الطاهرة فلابد فيها من التحري ليحصل تغليب الظن بتأدية الصلاة، فيكون الظن غالباً عند التحري بكونه أدى الصلاة في ثوب طاهر بماء طاهر، وهذا هو مقصود الشرع ومطلوبه.
وحكي عن المزني من أصحاب الشافعي وأبي ثور، أنه لا معنى للتحري في الأواني ولا في الثياب كما [هو] رأي الناصر ولكن يُعدل إلى التيمم.
وحجتهما على ما قالاه: هو أنه قد وقع الاشتباه بين محظور ومباح فلم يجز التحري فيهما كما لو اختلطت منكوحة بأجنبية وكما لو اختلطت [ميتة] بمذكاة.
وحكي عن ابن الماجشون ): أنه يتوضأ بكل واحد من الإنائين ويصلي وكذلك الثياب يصلي في كل واحد منها.
وحجته على هذا: هو أنه إذا كان الفرض يمكنه أداؤه بيقين وجب عليه، ولن يكون إلا بما ذكرناه فلهذا وجب عليه.
والمختار: ما قاله علماء العترة وفقهاء الأمة من وجوب التحري وكونه مشروعاً في الأواني والثياب.
__________
(1) ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه ً: ((دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) أخرجه البخاري ومسلم. وهو من الأحاديث المشهورة.
(2) أبو مروان عبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون، أكثر ما يعرف ويذكر في كتب الفقه بابن الماجشون، من أعلام مدرسة مالك بن أنس، كان فقيهاً عالماً. قال عنه يحيى بن أكثم: عبدالملك بحر لا تكدره الدلاء.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا، وهو قوله عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى مالا يريبك ))(1). والشك(2) إذا اعترض فهو ما يريب ويؤلم النفس ولا سبيل إلى إزالته فيما ذكرناه إلا بالتحري وتحصيل غالب الظن، فلهذا كان واجباً لتحصيل العبادة على مطابقة الشرع ووفقه، وقوله ً: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات )). فإذا حصل التردد لأجل الشك فلا سبيل إلى إزالة الشبهة إلا بما يحصل من الترجيح وتغليب الظن، ولهذا كان مقصوداً للشرع، ولأن الغرض بالتحري إنما هو إسقاط لزوم الصلاة عن الذمة وبراءتها عنها، وهذا إنما يحصل على الكمال بالتحري والاجتهاد، فيجب أن يكون واجباً فيما ذكرناه كما وجب ذلك في استعمال الماء للوضوء إذا كان صريحاً.
الانتصار على ما قاله المزني: بأنا نقول: القياس جواز التحري فيما ذكره خلا أن الإجماع منع من ذلك، وإذا منع الإجماع في صورة فالقياس جار في غيرها من الصور إذ لا مانع هناك. وعلى(3) ابن الماجشون أنا نقول: قد روي عن النبي ً أنه قال: (( لا ظهران في يوم ))(4). وما قاله يؤدي إلى تكرير الصلاة مرتين في الثوبين وفي الإناءين وهو ممنوع بما ذكرناه.
فإذا تقررت هذه القاعدة فاعلم أن هذه فروع تنشأ عنها نذكرها:
__________
(1) رواه البيهقي والحاكم في المستدرك والطبراني والهيثمي في مجمع الزوائد.
(2) في الأصل: ولا شك.
(3) أي: والانتصار على ابن الماجشون.
(4) قال في حاشية البحر ما لفظه: حكاه في الشفاء، ولم أقف عليه في كتب الحديث لكن قد ورد فيها ((لا وتران في ليلة، ولا تصلوا صلاة في يوم مرتين)). ا.هـ. وأورد ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) في الروض النضير، وقال: رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث سليمان بن يسار عن ابن عمر مرفوعاً.
الفرع الأول منها: ذهب علماء العترة ومن تابعهم إلى أن التحري في الأواني والثياب عند الاشتباه في أحوالها نجسها بطاهرها، لا يكون إلا إذا [كان] عدد الطاهر أكثر من عدد النجس، وإلى هذا ذهب أبوحنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن الأواني إذا كان النجس والطاهر فيها مستويين في العدة فقد استوى جانب الحظر والإباحة كما لو كان أحدهما بولاً، وكما لو اختلطت منكوحة بأجنبية أو ميتة بمذكاة، فإذا كان هاهنا إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس، لم يجز التحري فيهما، ووجب العدول إلى التيمم لما ذكرناه من الاستواء وتغليب جانب الحظر.
وذهب الشافعي إلى أن التحري واقع عند الاشتباه فيما ذكرناه سواء كان عدد الطاهر أكثر أو عدد النجس أو كانا سواء.
والحجة على ذلك: هو أن كل ما دخله التحري، إذا [كان] عدد المباح أكثر جاز دخول التحري فيه وإن كانا مستويين، والجامع بينهما(1) وقوع الاشتباه فإنه الأصل في وجوب التحري.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة على ذلك: ما قدمناه، ونزيد هاهنا: وهو أن الطاهر إذا كان عدده زائداً على النجس كان حكمه أغلب، فهو كالشاهد إذا كانت محاسنه غالبة على مساوئه وحكم الحاكم بشهادته فهكذا هاهنا، ولأنه لما استوى جانب الحظر وجانب الإباحة فلو تحرينا مع استوائهما لكان ذلك خلاف الورع والتقوى، وقد قال ً: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )).
الانتصار: قالوا: قد ورد الأمر بالاعتبار في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوْا يَا أُوْلِيْ الأَبْصَارِ }[الحشر:2]. وهذه منه.
__________
(1) أي بين الحال التي يكون فيها عدد الطاهر أكثر، والتي يكونان فيها مستويين.
قلنا: تَدَّعون فيه عموماً فليس فيه لفظة تدل على عموم الاعتبار، وإنما هو أمر مطلق تدعون أنه أطلق ولم يفصل، فنحن نقول: لفظة الاعتبار إلى الإجمال أقرب، فلا يمكن الاستدلال بظاهره؛ إذ لا ظاهر للمجملات لاشتماله على الاعتبار الفاسد والصحيح، وما يجري فيه القياس وما تَنْسَدُّ فيه مجاري القياس كالعبادات فلا نسلم جري القياس فيما هذا حاله فلا بد من دلالة على جريه فيه وهو أول المسألة؛ لأن الكلام إنما هو فيه، فإذا كان مجملاً فلا حجة فيه إلا ببيانٍ لإجماله.
قالوا: شرط من شروط الصلاة فجاز دخول التحري عند دخول الاشتباه في اثنين منه كالثياب.
قلنا: الثياب جارية على القياس في التحري فلا جرم كانت باقية على الأصل، بخلاف الآنية فإنها خارجة على القياس بدليل خصها فلا يجري فيها التحري، إلا إذا كان الطاهر أغلب كما قررناه، وأيضاً فالثياب مفارقة للآنية، فإنه لو توضأ بالإثنين كليهما، كان متلوثاً بالنجاسة مستعملاً لها بخلاف ما لو صلى في الثوبين فإنه لا يكون مقدماً هناك على محظور، فإذا افترقا من هذا الوجه جاز افتراقهما في العدد كما أشرنا إليه.
قالوا: كلما دخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر فإنه يدخله التحري وإن كان عدد المحرم أكثر كالثياب.
قلنا: لا نسلم ما قالوه في الثياب، فإنه لو كان هاهنا خمسة أثواب، واحد منها نجس والباقي طاهر، فإنه تجب عليه الصلاة في اثنين منها ليكون الفرض ساقطاً بيقين، ثم ولو سلمنا فالفرق بين الأثواب والآنية ظاهر بما ذكرناه من جواز الاستعمال في الأثواب كلها دون الآنية فاقترقا.
الفرع الثاني: في كيفية التحري عند الاشتباه في الآنية والثياب.
حُكِي عن جماعة من أهل خراسان أن المتحري لا يحتاج إلى نوع استدلال كما يحتاج المجتهد في الأحكام، ولكن يكفيه أن يبني أمره على الطهارة لقوله ً: (( ظن المؤمن لا يخطئ ))(1).
وهذا فاسد، فإنه إذا كان لابد من إفادة الظن وتحصيله ليزول به الاشتباه، فلا بد من أمارة وهي لا تكون حاصلة إلا بنوع استدلال ونظر في الأمارات.
والذي عليه أئمة العترة وعليه أكثر فقهاء الأمة أنه لابد من نظر واستدلال في الآنية والثياب لتميز النجس منها عن الطاهر، وذلك يحصل بأمارات ينقدح الظن لأجلها مختلفة، إما بتغير لون أو رائحة أو اضطراب في الماء أو لوقوع الترشش حول الماء، أو بأن يرى أثر الكلب عند الماء، أو بنقصانه إذا كان قليلاً يؤثر فيه الولوغ بأن يكون الإناء ممتلئاً، أو بغير ذلك من الأمارات التي تكون محركة للظن في كونه قد صار نجساً، فإذا حصلت له نجاسته بأي الأمارات التي ذكرناها لم يجز استعماله وجاز له استعمال غيره، وصار الذي غلب على ظنه كونه نجساً حراماً بالإضافة إلى ظنه لا بالإضافة إلى نفس الإناء، فلهذا فإنه لو غلب على ظن غيره طهارته جاز له استعماله، فأما امتحان نجاسة الماء بالذوق فلا وجه له؛ لأنه ربما كان نجساً فلا يحل له ذوقه قبل أن يغلب على ظنه طهارته، وهكذا التحري في الأثواب إما بلون النجاسة وإما بريحها أو وقوعٍ عليها بأن تكون قريبة من النجاسة دون الثوب الآخر، أو غير ذلك من الأمارات المثيرة للظنون فيجب استعماله.
الفرع الثالث: وإن وقعت النجاسة في أحد الإناءين فاشتبها ثم اهراق أحدهما على الأرض قبل الاجتهاد في طهارة أحدهما، ففيه على المذهب احتمالات ثلاثة:
__________
(1) حكاه في البحر والشفاء، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه ً قال: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)). ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُتَوَسِّمِين}. أخرجه الترمذي.
الاحتمال الأول: أن يتحرى في الباقي ويُعمِل نظره في طهارته أو نجاسته؛ لأن جواز الاجتهاد قد تقرر قبل الانقلاب فلا يسقط بالانقلاب.
الاحتمال الثاني: سقوط التحري، ويجب عليه التيمم للصلاة؛ لأن حقيقة التحري والاجتهاد إنما تعقل بين أمرين.
الاحتمال الثالث: أنه يتوضأ بالباقي من غير اجتهاد، من جهة أن الأصل هو بقاء الماء على الطهارة، وهذا هو أغربها وأعجبها؛ لأنه أصل على الطهارة ولأنه قد انفرد فصار كما لو لم يوجد من أول الأمر غيره.
وإن اجتهد في الإناءين فلم يغلب على ظنه طهارة أحدهما فأراقهما على الأرض ثم إنه تيمم وصلى صح، ولم تجب عليه إعادة لما صلى، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا ظهران في يوم)). فلو أوجبنا عليه الإعادة لكان ذلك مخالفة لظاهر الخبر، فإن صب أحدهما وترك الآخر جاز له أن يتوضأ بالآخر كما ذكرناه من قبل؛ لأنه باق على أصل الطهارة كما لو لم يكن إلا هو.
الفرع الرابع: إذا كان معه إناءان فاشتبه عليه نجاسة أحدهما فتحرى فيهما فأداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، فالمستحب له أن يريق الآخر مخافة أن يشتبه عليه الأمر فيه مرة ثانية، فإن لم يرقه وبقيت من الأول بقية تكفي للطهارة، ثم حضرت صلاة أخرى وهو محدث فهل يجب عليه إعادة التحري أم لا؟
والأقرب أنه لا تجب عليه إعادة التحري كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى فإنه يجزيه التحري الأول ما لم يتغير، وهو أحد قولي الشافعي، وحكى ابن الصباغ صاحب (الشامل)، والمحاملي: أنه يجب عليه إعادة الاجتهاد ثانياً، ولا وجه له مهما كان الاجتهاد مستمراً على طهارة ما استعمله وعلى تلك الجهة، فإن تغير اجتهاده قبل أن يصلي نظرت، فإن أداه اجتهاده إلى طهارة الأول فلا كلام لمطابقة الاجتهاد الأول للثاني من غير مخالفة، وإن تيقن أن الذي توضأ به هو الطاهر فإنه لا يستحب له إهراق النجس؛ لأنه ربما احتاج إليه في حال عطشه، وإن تيقن أن الذي توضأ به هو النجس فإن الواجب عليه غسل ما أصابه من الماء الأول في ثيابه وبدنه وإعادة ما صلى بالطهارة الأولى، لأنه قد تحقق يقين الخطأ فيما فعله فهو كالمجتهد إذا أخطأ النص ثم وجده، فإنه يبطل اجتهاده فهكذا هاهنا.
وإن أداه اجتهاده إلى أن ما توضأ به نجس وأن الثاني طاهر فكيف يكون الحكم فيه؟ وقد حُكي عن الشافعي في ذلك قولان:
فالقول الأول منهما: حكاه المزني وهو: أنه لا يتوضأ بالثاني ولكنه يتيمم ويصلي ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم، وهذا الذي رواه عنه حرملة أيضاً.
ووجهه: أنا لو أمرناه بأن يتوضأ بالثاني لكان لا يخلو إما أن نأمره بغسل ما أصابه من الأول أولا، فإن لم نأمره بغسل ما أصابه منه فقد صلى وعليه نجاسة بيقين؛ لأنا قد حكمنا في النظر الأول بكونه نجساً، وإن أمرناه بغسل ما أصابه منه كان نقضاً للاجتهاد الأول بالاجتهاد الثاني، ومثل هذا غير جائز؛ لأن هذا يؤدي إلى اضطراب الأحكام وتشويش القواعد.
وهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعيد؛ لأنه قد تيمم ومعه ماء بيقين فالتيمم واقع على فساد، وهذا هو قول العمراني صاحب (البيان).
وثانيهما: أنه لا تجب عليه الإعادة؛ لأن تيممه وقع على نعت الصحة؛ لأنه ممنوع عن هذا بالشرع، وهذا هو المحكي عن أبي الطيب بن سلمة ).
القول الثاني: حكاه أبو العباس بن سريج ) وأنكر ما نقله المزني، وقال: إن الواجب عليه أن يتوضأ بالثاني.
ووجهه: أنه شرط من شروط الصلاة له مدخل في التحري، فإذا تحرى وغلب على ظنه باجتهاد آخر خلاف الأول جاز العمل على الثاني كما لو صلى إلى جهة ثم تغير اجتهاده فإنه يصلي إلى الجهة الأخرى فهكذا هاهنا، وإن لم يبق من الماء الأول شيء فإنه يتيمم؛ لأن ما معه من الماء قد حكم بنجاسته من قبل فلا ينقض، وهل يلزم إعادة ما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه وجهان(3):
والمختار على المذهب: ما قاله المزني من جهة أنه قد حكم بنجاسته فلا يحكم بطهارته فيلزمه التيمم، ولا تجب عليه [إعادة ما صلى] لقوله ً: (( لا ظهران في يوم)) ولأنه ممنوع من استعمال هذا الماء الموجود بالشرع كما لو كانت نجاسته متحققة.
الفرع الخامس: وإن اشتبه عليه ماءان طاهر ونجس، ومعه إناء ثالث طهارته متحققة، فهل يجوز له الاجتهاد والتحري فيما اشتبه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك جائز وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي.
__________
(1) محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي البغدادي تفقه على ابن سريج، وكان موصوفاً بالذكاء، صنف كتباً عديدة، توفي وهو شاب في المحرم سنة 308هـ. (وله تراجم في طبقات الشافعية، وطبقات الفقهاء للشيرازي، ووفيات الأعيان وغيرها).
(2) القاضي أبو العباس بن عمر بن سُريج من فقهاء الشافعية ببغداد وكان يقال له: الباز الأشهب. قيل: إن فهرس كتبه تشتمل على أربعمائة مصنف.
(3) أحدهما ما جاء في المختار، وهو عدم وجوب الإعادة، والآخر لم يذكره استغناء بما سبق، وهو أن الإعادة لما صلاه بالتيمم لازمة.
والحجة على ذلك: هو أنه ليس فيه أكثر من العدول عن الماء المتيقن طهارته إلى الماء المحكوم بطهارته من جهة الظاهر، وذلك غير ممتنع في الطهارة ولهذا فإنه يجوز التوضؤ من الماء القليل على شاطئ البحر.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز، وهذا يحكى عن بعض أصحاب الشافعي، وهذا هو الأقرب على المذهب والمختار.
والحجة على ذلك: هو أنه يمكنه إسقاط الفرض بيقين بأن يتوضأ مما يتيقن طهارته، فلم يجز الرجوع إلى غلبة الظن كما لا يجوز الاجتهاد في طلب القبلة إذا كانت المعاينة ممكنة.
وإن اشتبه عليه ماء قراح وماء ورد انقطعت رائحته أو ماء شجر، فهل يتحرى أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتحرى، وهذا هو المحكي عن أهل خراسان من أصحاب الشافعي، وذلك أنه قد اشتبه عليه ما يُتطهر به بما لا يُتطهر به فجاز فيه إعمال النظر والاجتهاد بالتحري كالماء الطاهر والنجس.
وثانيهما: أنه لا يتحرى بل يستعملهما جميعاً، وهذا هو قول البغداديين من أصحاب الشافعي وهو رأي الإمام المنصور بالله وهو المختار.
والحجة على ذلك: هو أن ماء الورد وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير، فَيُرَدَّ إليهما بالاجتهاد، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما ليسقط بيقين.
وإن اشتبه عليه ماء مطلق وبول قد انقطعت رائحته فهل يتحرى أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا وجه للتحري ولكن يتيمم، وهذا هو المحكي عن أهل بغداد من أصحاب الشافعي، وذكره بعض أصحابنا للمذهب.
والحجة على ذلك: هو أن البول لا أصل له في الطهارة فيرد إليه الاجتهاد، فلهذا وجب العدول إلى بدله وهو التيمم.
وثانيهما: أنه يجوز فيه التحري وهذا هو رأي أهل خراسان، وذكره القاضي زيد من أصحابنا للمذهب.
والحجة على ذلك: هو أنه قد وقع الاشتباه بين الماء وغيره فجاز إعمال الفكر بالتحري كالماء الطاهر عند التباسه بالنجس.
والمختار: هو الأول؛ لأن التحري إنما يكون داخلاً فيما يطلق عليه اسم الماء، إما مطلقاً كالماء المستعمل، وإما مضافاً كماء الورد وماء الشجر، والبول لا يطلق عليه اسم الماء لا على جهة الإطلاق ولا على جهة الإضافة، ولهذا بطل التحري فيه، ودعوى الإجماع فيه لا وجه له، فإن المسألة خلافية لها مدخل في الاجتهاد، فلا معنى لدعوى الإجماع على بطلان التحري في الماء والبول لما ذكرناه.
الفرع السادس: إذا أخبر الأعمى بأن هذا الماء قد ولغ فيه كلب أو وقع فيه بول، قُبِل خبره كما يقبل خبر البصير؛ لأنه يحتمل أن يكون قد علم ذلك فيه قطعاً، أو قد أخبره به مخبر ثقة؛ فلهذا عُمل عليه. وإذا كان مع رجل إناء طاهر وتغير فغلب على ظنه أن تغيره بنجاسة لم يحكم بنجاسته، وإن كان معه إناء نجس فغلب على ظنه طهارته لم يحكم بطهارته، وكان باقياً على نجاسته فيجب التعويل على ما هو الأصل في الطهارة والنجاسة، ويفارق ذلك ما إذا علم النجاسة في أحد الإناءين فغلب على ظنه طهارة أحدهما أو نجاسته فإنه يعمل عليه؛ لأنه لم يحصل فيهما نجاسة معينة، والأصل في كل واحد منهما الطهارة، و إنما تجدد شك في كل واحد منهما فلا جرم كان زائلاً بالظن، وإذا اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس جاز التحري فيهما والعمل على غلبة الظن؛ لأن أصلهما على الإباحة، فإذا طرأت النجاسة على أحدهما واشتبها عليه جاز إعمال الفكر في التحري فيهما، كما لو اشتبه عليه ماء طاهر ونجس، وإذا اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس ومعه طعام طاهر ثالث من ذلك النجس متيقن طهارته فهل يجوز له التحري أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وقد ذكرنا توجيههما فأغنى عن الإعادة، والله أعلم.
الفرع السابع: يشتمل على صور أربع: