قالوا: استوى الكافر والخنزير في نظر الشرع، ووصفه حيث وصف المشركين بالنجاسة كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. وفي وصف الخنزير بالرجس حيث قال:{إنَّهُ رِجْسٌ }[الأنعام:145]، فيجب استواؤهما في نجاسة الآسار وفي ذلك حصول غرضنا بنجاسة الكافر.
قلنا: لا نسلم أن النجس مثل الرجس فإن الرجس القَذَر، ولهذا جعله وصفاً للخنزير، بخلاف النجاسة فإنها لا نُسَلم كونها صريحة في القذر بل يمكن حملها على نجاسة الأفعال بالخدع والمكر فافترقا، ثم لو سلمنا أنهما مستويان في الوصف بالقَذَر فلا نُسلم استواءهما في نظر الشرع، فإن الكافر آدميّ قد شَرُفَ بالعقل والتمييز والاهتمام بأمره في حفظ الملائكة وإرسال الرسل وإنزال الكتب إليه فكيف يقال بأنهما مستويان في نظر الشرع! فقد انقطع عن الخنزير بما ذكرناه، فلا جرم حكمنا بطهارته لبعده عن كونه مشابهاً للخنزير.
قالوا: مشرك فوجب أن يكون سؤره نجساً كما لو شرب بول ما لا يؤكل لحمه.
قلنا: هذه علة ركيكة مركبة، والعلل المركبة، أكثر النظار من الأصوليين لا يعرّج عليها ولا يجعلها عمدة في تقرير الأحكام الشرعية ولا ثمرة لها في الجدل؛ لأن عندنا أن نجاسة سؤره في هذه الصورة إنما كان نجساً لنجاسة البول واتصاله به، وعندهم إنما كان نجساً لكفره، فلا يستقل أحدهما بإسناد النجاسة إليه، وما هذا حاله يكون باطلاً لا أثر له، فسقط ما ذكروه وصح التوضؤ بسؤر الكافر كما أشرنا إليه.
مسألة: وسؤر الكلب والخنزير هل يكون نجساً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه نجس لا يجوز التوضؤ به، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: نوضحها عند الكلام في ذكر الأشياء النجسة، فإذا كان نجساً كان سؤره نجساً أيضاً لأجل اتصال ريقه بالماء إذا كان قليلاً سواء تغير لونه أو لم يتغير فلا يجوز التوضؤ به أصلاً، وهؤلاء إنما قالوا بنجاسة الماء مع كونه غير متغير لما ذهبوا إلى نجاسة الماء القليل وإن لم (يكن) متغيراً بالنجاسة، وقد مر الكلام عليه فلا فائدة في إعادته، فلا جرم قالوا على أثر هذا بنجاسة سؤر الكلب والخنزير إذا ولغا في ماء قليل.
المذهب الثاني: أن سؤرهما ليس نجساً إذا لم يكن الماء متغيراً به، وهذا هو المحكي عن مالك، وهذا الذي يأتي على ظاهر إطلاق القاسم في أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إذا لم يكن متغيراً بها.
والحجة على ذلك: هي ما تقدم من الظواهر الشرعية في طهارة الماء، وأنه لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إلا إذا غيرت أحد أوصافه قليلاً كان أو كثيراً فإنها لم تفصل في ذلك.
والمختار: قد أسلفنا الكلام عليه والانتصار له بالحجج الواضحة والبراهين الباهرة.
مسألة: آسار السباع الوحشية كلها هل يكون [السؤر منها] طاهراً يتوضأ به أو يكون نجساً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر يُتطهر به وهذا هو قول القاسم والهادي، ومحكي عن المؤيد بالله وأبي طالب وهو قول الشافعي ومالك.
والحجة على ذلك: ما روى جابر بن عبدالله أن الرسول ً سُئل فقيل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر ، وبما أفضلت السباع كلها؟ فقال: (( نعم ))(1). فما هذا حاله نص في موضع الخلاف.
الحجة الثانية: من طريق القياس، وهو أنه حيوان يجوز بيع جنسه فجاز التوضؤ بسؤره، دليله سباع الطير كالباز والشاهين والصقر، فإن هذه قد وافقونا على أن آسارها(2) طاهرة يجوز بها التوضؤ.
__________
(1) تقدم في حديث ((إذا بلغ الماء قلتين)) فيما ينوب الماء من الدواب والسباع، وهذا الحديث جاء في أصول الأحكام والبحر والشفاء.
(2) في الأصل: أسوارها. والصحيح آسارها كما أثبته المؤلف.
المذهب الثاني: أن آسارها نجسة، وهذا هو رأي زيد بن علي والناصر وهو محكي عن أبي حنيفة، وأصحابه.
والحجة لهم على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه سئل عن المياه تكون بالفلاة وما ينوبها من السباع. فقال: (( إذا كان الماء قُلتين فإنها لا تنجسه )) فدل ذلك على أنه إذا كان دونهما فإنه يكون نجساً؛ لأنه لو كانت آسارها طاهرة لم يفترق الحال بين قليل الماء وكثيره.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه حيوان يُصطاد بجنسه فكان سؤره نجساً كالكلب، فهذه زبدة ما ذكروه عمدة لهم.
والمختار: ما عول عليه القاسم والهادي ومن تابعهما، وهو رأي المنصور بالله.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه سُئل عن الحياض ما بين مكة والمدينة تردها السباع. فقال: (( ما أخذته في بطونها فهو لها وما بقي فهو شراب لنا وطهور))(1).
الانتصار: قالوا: دليلنا على نجاستها الخبر المقيد بالقلتين.
قلنا: جوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه قد روي (( الكلاب))(2)، ومن يقول بطهارة سؤر السباع فلعلَّهُ لا يقول بطهارة سؤر الكلاب كما مر بيانه.
وأما ثانياً: فلعله تغير [السؤر] ليطابق خبرنا فيكون جمعاً بينهما.
قالوا: حيوانُ يصطاد بجنسه فكان سؤره نجساً كالكلب والخنزير.
قلنا: هذا منقوض بسباع الطير، فإنها تُصطاد بجنسها وآسارها طاهرة كما مر، وأيضاً فإنا نمنع الأصل، بأن نقول: إنا لا نسلم بنجاسة الكلب؛ لأنه من جملة السباع خلا أن الشرع أخرجه عنها بدلالة منفصلة فبطل قياسكم عليه.
قالوا: حيوان لا يؤكل لحمه لا من أجل حرمته، يستطاع الاحتراز منه فكان سؤره نجساً كالكلب والخنزير.
فقولنا: لا لحرمته، نحترز به عن ابن آدم فإنه لا يؤكل؛ لأن اللّه حرم قتله وأكله، بخلاف غيره فإنه يحرم أكله لا لحرمته، بل لدلالة أخرى.
__________
(1) تقدم.
(2) كلمة (الكلاب) هنا، عطف على كلمة (السباع) في الحديث السالف المروي عن جابر.
وقولنا: يستطاع الاحتراز، نحترز به عن سباع الطير فإن آسارها طاهرة؛ لأنه يتعذر الاحتراز منها.
قلنا: هذا منقوض بسباع الطير.
قالوا: قد احترزنا في قياسنا بقولنا يستطاع الاحتراز منه.
قلنا: هذا فاسد لأنهما سيان في إمكان الاحتراز أو في تعذر الاحتراز منهما فلا وجه للتفرقة بينهما، فإنه كما يتعذر من الطير فهو متعذر من السباع ليلاً ونهاراً، وأيضاً فإن تحريم الأكل لا يدل على النجاسة فإنه يطهر إذا ذُكي وإن لم يحل أكله.
قالوا: ألبانها نجسة فيجب الحكم بنجاستها كالكلب.
قلنا: هذا فاسد فإن الحيوان لا يعتبر باللبن لبعد أحدهما عن الآخر، وأيضاً فإن نجاسة ألبانها ممنوع بل هي طاهرة كألبان بني آدم فسقط ما أوردوه.
مسألة: سؤر الفرس طاهر يتطهر به عند أئمة العترة وهو قول الشافعي ومالك. قال أبو حنيفة: هو مشكوك فيه لا يجوز التوضؤ به. وعرقه نجس عنده.
والحجة على ما قلناه: هي أنه حيوان سُهم له في الغنيمة فكان سؤره طاهراً، أو فلم يكن سؤره نجساً كابن آدم.
ويجوز التوضؤ بسؤر الحمار والبغل عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، وعند أبي حنيفة يُكره، وهو مشكوك فيه.
والحجة على ما قلناه: هي أنه حيوان لا يُغسل الإناء من ولوغه سَبْعاً فجاز التطهر بسؤره كالشاة، وعرقه طاهر عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: هو نجس.
والحجة على ما قلناه: هي ما روي أن الرسول ً ((ركب حماراً من غير إكاف ))(1) وصلى، والظاهر أنه أصابه من عرقه لا محالة لأن الغالب أن ظهورها ترشح إذا رُكِبت فيصيبه.
وسؤر الهرة طاهر يتطهر به عند أئمة العترة وهو محكي عن الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: يكره التوضؤ بسؤرها.
__________
(1) الإكاف: البردعة التي توضع على ظهر الحمار للركوب.
والحجة على ما قلناه: ما روي أن رسول اللّه ً، كان يصغي لها الإناء فتشرب منه. وقال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ))(1).
وسؤر الفيل طاهر عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، ومحكي عن الكرخي أنه نجس.
والحجة على طهارته: أنه حيوان ذو خُفِ يقتنى للجَمال والزينة فأشبه الإبل.
وسؤر ما يؤكل لحمه طاهر كالإبل والبقر والغنم، عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي. ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: لأن حل أكلها لا خلاف فيه، فلو كانت أفواهها نجسة لم يحل أكل رؤوسها.
وسؤر المسلم طاهر عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: حديث عمار، وهو قوله ً: (( ما لُعابُك ودموع عينيك إلا كالماء في ركوتك ))(2).
ولو كان نجساً لم يشبهه بالقراح من الماء.
وآسار الأطفال من الذكور والإناث طاهرة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: هو أن هؤلاء من جملة الطوافين والطوافات.
وهكذا سائر الحشرات من الأفاعي والحيات وما يتعذر الاحتراز منه كالفأرة وغيرها، كلها آسارها طاهرة بجامع الطوف، وهو تعذر الاحتراز.
__________
(1) هذا الحديث حكاه في الاعتصام وفي شرح التجريد عن كبشة بنت كعب عن أبي قتادة، وحكي عن ابن حجر قوله: أخرجه الأربعة يعني: أبا داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، ورواه مالك وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي. وفي البحر ((.. إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
(2) ولفظه عن عمار بن ياسر قال: مر بي رسول اللّه ً وأنا أسقي راحلتي فتنخمت فأصابتني نخامة فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه ً: ((ما نخامتك ودموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء والمني)). قال في حاشية البحر: وفي سنده ثابت بن حماد، ضعفه الجماعة، يعني البزار والطبراني وآخرين.
ويجوز التطهر بماء الحمة؛ لأنه باق على أصل الطهارة ولم يعرض له إلا الحرارة وهي غير مانعة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، لقوله ً: (( خلق الماء طهوراً))، ولا يكره ، كما قلنا في المشمس؛ لأن ما كان خلقة لم يُكره، ولأنه أحد نوعي الماء فلم يكره كالماء البارد، وستأتي بقية المسائل المتعلقة بهذا الفصل في باب النجاسات بمعونة اللّه تعالى.
---
الفصل الثالث: في كيفية الاجتهاد عند الشك في طهارة الماء ونجاسته
الواجب هو العمل على استصحاب ما كان هو المتحقق في الأصل من طهارة أو نجاسة، فإذا تيقن طهارة الماء أو نجاسته وشك فيما يضاد ما تيقنه وعلمه، وجب عليه استصحاب الحال لما تيقنه؛ لأن الأصل هو بقاؤه فلا يجوز إزالة ما تحققه بالشك العارض، ولأن الشك هو الخلو عن الاعتقاد والظن فلا يجوز إزالة الأمر الثابت بالأمر المنفي، وإن لم يتحقق في الماء طهارته ولا نجاسته فهو طاهر بحكم الأصل؛ لأن اللّه تعالى خلق الماء طهوراً، والأصل بقاؤه على خلقته إلا لمغير طارئ، ويؤيده قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه ))(1). الخبر. وإن وجد الماء متغيراً ولم يَعلم بأي شيء كان تغيره، جاز التوضؤ به؛ لأنه باق على أصل التطهير، وتغيره يجوز أن يكون بطول المكث.
وإن رأى حيواناً يبول في ماء كثير فوجده متغيراً ولم يعلم بأي شيء كان تغيره نظرت، فإن غلب ظن المتوضئ أن تغيره إنما كان من جهة البول لم يتوضأ به، وإن كان الماء كثيراً وبول ذلك الحيوان قليلاً مما لا يجوز أن يتغير به الماء جاز التوضؤ به؛ لأن ذلك مما لا يتغير به الماء الكثير في العادة، فيجوز أن يكون تغيره لطول المكث لا بالبول كما ذكرناه أولاً، ولا خلاف في هذه القاعدة بين أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة عليها: هو أن مبناها على الاستصحاب فيما كان أصلاً حتى يرد ما ينقضه ويزيل حكمه، فالعمل على استصحاب براءة الذمة حتى يرد مغير من جهة الشرع، وهكذا القول في استصحاب الطهارة والنجاسة والعموم وغير ذلك مما يكون أصلاً كما هو مقرر في المباحث الأصولية.
__________
(1) بقية الحديث ((.. أو طعمه أو لونه)) وفي لفظ: ((.. إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه)). أخرجه ابن ماجة. وفي لفظ أخرجه البيهقي: ((.. إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة)).
مسألة: إذا ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته، فهل يقبل خبره على الإطلاق أو لابد من أن يسأل بأي شيء تنجس؟ والظاهر من قول أصحابنا هو القبول من غير سؤال، ووجهُ ما قالوه: هو أن الأدلة الشرعية الدالة على قبول خبر الواحد لم تفصل في ذلك، فلهذا وجب العمل عليه من غير فحص ولا سؤال، والأقرب وجوب السؤال؛ لأنه يجوز أن يكون قد رأى سَبُعاً يلغ فيه، فاعتقده نجساً، فأخبر عن نجاسته فيكون قد عدل إلى التيمم مع وجود الماء، فإن بَيَّن النجاسة قَبِل منه ولم يجتهد، لأن الخبر مقدم على الاجتهاد كما في أخبار الآحاد مع القياس فإنها مقدمة عليه، ويقبل فيه قول الرجل والمرأة والحر والعبد عند أئمة العترة، وهو رأي الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما.
والحجة على ذلك: هو أن هؤلاء تقبل منهم أخبار الرسول ً في التحليل والتحريم، فهكذا تُقبل أخبارهم فيما ذكرناه من غير تفرقة؛ لأنها كلها مشتركة في كونها أموراً عملية ينقدح لأجلها الظن.
ويقبل فيها قول الأعمى؛ لأن له طريقاً إلى العلم به من جهة الحس والخبر، ولأن خبره يغلب على الظن إذا كان ثقة، فلهذا وجب العمل على قوله.
ولا يُقبل كافر ولا فاسق عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن أخبارهما غير مقبولة لما يلحقهما من التهمة في الدين فلا يزعهما وازع عن الجرأة على اللّه تعالى في الكذب.
وهل يُقبل قول الصبي أم لا؟ والأقرب على مذاهب أئمة العترة أنه غير مقبول وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر أنه يقبل.
والحجة على ما قلناه: هو أنه ليس من أهل الشهادة فلهذا لم يُقبل خبره.
مسألة: وإن كان معه إناءان فأخبره رجل أن كلباً ولغ في أحدهما بعينه فإنه يقبل قوله ويترك الاجتهاد كما وجب ذلك في أخبار الآحاد، ويترك النظر والقياس.
وإن أخبره رجل أن كلباً ولغ في هذا دون هذا، وقال آخر: ولغ في ذاك دون هذا، فإن لم يعينا وقتاً بعينه وجب الحكم بنجاستهما جميعاً لجواز أن يكون قد ولغ فيهما في وقتين، فإن عينا وقتاً واحداً فهما متعارضان فيحكم (1) بتساقطهما عند أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يجب استعمالهما إما بالقرعة بينهما وإما بالوقف في حالهما وإما بالإراقة.
والحجة على ما قلناه: هو أنهما قد تعارضا ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فلهذا وجب التساقط فيهما، وإذا حكمنا بتساقطهما وجب الرجوع إلى الأصل وهو طهارة الماء فيتوضأ بأيهما شاء؛ لأنه لم يثبت نجاسة واحد منهما.
وهل يحتاج إلى ترجيح واجتهاد أم لا؟ والأقرب أنه لا يحتاج إلى اجتهاد في الاستعمال، وحكي عن الصيدلاني ) من أصحاب الشافعي: أنه لابد من الاجتهاد في التوضؤ بأحدهما ولا وجه له، لأنا قد حكمنا بطهارتهما جميعاً فأغنى عن الاجتهاد.
وإن قال رجل ثقة: إن هذا الكلب ولغ في هذا الإناء وقت الظهر، وقال آخر: إن ذلك الكلب كان في ذلك الوقت في بلد آخر، فالأقرب على المذهب أنهما متعارضان فيجب الحكم بتساقطهما والرجوع إلى أصل الطهارة في الماء، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يحكم بنجاسته.
__________
(1) في الأصل: ويحكم الحكم، ويبدو أن كلمة (الحكم) لا لزوم لها.
(2) أبو بكر محمد بن داود بن محمد المروزي المعروف بالصيدلاني نسبة إلى بيع العطر. كان إماماً في الفقه والحديث، وله مؤلفات منها شرح على المختصر في جزأين. توفي بعد 430هـ، ولم نعثر على تحديد للسنة التي مات فيها. (طبقات الفقهاء 230، طبقات الشافعية برقم 175).
والحجة على ما قلناه: هو أن الخبرين قد استويا من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وليس محلاً للتحري لتساوي العدة فلم يبق إلا الحكم بالتساقط والرجوع إلى ما هو الأصل كالخبرين والأمارتين إذا تعارضا فإنه يجب الحكم بتساقطهما والرجوع إلى حكم العقل والبراءة الأصلية.
وإن أخبر مخبر بأن هذا الكلب أدخل خرطومه أو رأسه في الإناء ولم يعلم ولوغه فيه، لم يحكم بنجاسة الماء؛ لأن التنجيس إنما يتعلق بالولوغ دون إدخال الرأس والخرطوم فلا حكم لهما، كما لو دخل الكلب داراً، قال: ورأيته دخل هذه الدار، فإنه لا يحكم بنجاسة ما فيها من الماء فهكذا هاهنا. وإن قال: إنه أدخل خرطومه وأخرجه وعلى فيه أثر من الرطوبة ولكني لم أعلم بولوغه بالماء، فالأقرب على المذهب أنه يحكم بالنجاسة وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يحكم بالنجاسة؛ لأن الأصل هو عدم الولوغ، لكن هذه القرينة وهي حصول الرطوبة على خرطومه تقوي الظن أنها من الولوغ لأن الغالب ذلك من حالها فلهذا حكمنا فيه بالنجاسة.
مسألة: ذهب علماء العترة إلى أن التحري واجب عند الاشتباه في الأواني والثياب على الجملة لا يختلفون فيه، وهو محكي عن الفريقين: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، وذكر الناصر في (الأمالي)(1) أن التحري لا يجوز.
__________
(1) كتاب في الحديث والفقه وهو مفقود حتى الآن.