قال السيد الإمام المؤيد بالله: وإذا كانت البئر خارج الستر فتوضأ رجل بمائها من غير إذن مالكها فلا بأس، إذا كان الظاهر من حال صاحبها أن لا يمنع من استقاء مائها، فهذا عمل على القول الأول، وقد حكينا عنه قوله الآخر وهو جواز التوضؤ والاستسقاء؛ لأن الظاهر من الأمواء كلها الإباحة، سواء كان بئراً أو نهراً إلا ما خرج بدليل خاص في المنع.
دقيقة: اعلم أن هذه المسألة اجتهادية فالتصويب شامل لجميع القولين، وإنما قضينا بكونها اجتهادية؛ لأن كل واحد من الفريقين ممن منع أو أجاز مشتمل من الظواهر الظنية والأمارات الفقهية من غير إسناد إلى مانع، فلهذا وجب القطع على كونها من مسائل الاجتهاد.
وليس العجب من الفقهاء فيما ذهبوا [إليه] من جواز التوضؤ بالماء المغصوب، لأن قصارى أنظارهم مستندة إلى الظواهر الشرعية، وإنما العجب من الإخوان الفئة العدلية شيوخ المعتزلة، حيث زعموا صحة التوضؤ بالماء المغصوب مع استطالة أيديهم في المباحث الكلامية وقوة أنظارهم في المسائل الدينية وتحققهم أن القُربة من شرط الوضوء وأن المعصية منافية لها، وأن الوضوء مأمور به، فكيف ينهى عنه لكونه غصباً، وأنه مراد لكونه عبادة فكيف يكون مكروهاً لما تضمن من المعصية من الغصب؟ وكل هذه الأسرار مأخوذة من الأسرار الكلامية وهم أعلم بها وأكثر إحاطة بحقائقها من الفقهاء، فهم في التحقيق أحق بالقول بعدم الجواز لما ذكرناه.
ويدل على التصويب فيها: أن خوض الفقهاء فيها كخوضهم في سائر المسائل الخلافية من غير تخطئة ولا تأثيم لمن خالف قول صاحبه في المسألة، وهذه أمارة قوية في كون المسألة اجتهادية؛ لأن الأدلة لو كانت قاطعة لكان الحق واحداً فيها، ولكان من خالفه مخطئاً كما في المسائل الدينية والمضطربات الأصولية، وقد قررنا في مقدمة الكتاب الفرق بين المسائل القطعية والظنية فلا وجه لتكريره.
مسألة: في الآسار، السؤر مهموز وجمعه آسار وهو: عبارة عما يفضل من الطعام والشراب في الإناء، وما فضل في الإناء من سؤر المؤمن من شرابه وغسله ووضوئه فهو طاهر عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك، ولا يؤثر فيه خلاف بين الأمة.
والحجة على ذلك: هو ما مر من الظواهر الشرعية في طهارة الماء كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه )). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة.
الحجة الثانية: قوله ً: (( المؤمن لا ينجس ))(1). ولم يفصل بين وضوئه وغسله وعَرَقه ولُعابه، ولا ينجس من ذلك إلا ما خصته دلالة، ولأنه لم يعرض له ما يبطل التوضؤ به والاغتسال من غير نجاسة ولا استعمال، فيجب القضاء بطهارته.
__________
(1) في حديث حذيفة الآتي.
ويجوز التطهر بسؤر الجنب والحائض لما روته عائشة (رضي اللّه عنها) قالت: (( كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي ً فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه))(1). وفي حديث حذيفة أنه لما قال: إني جنب (( أبرز ذراعيك إن المسلم لا ينجس ))(2). ثم وضع كفه على ذراعيه وإنها لرطبه. وروي عن النبي ً (( أنه خرج يوماً إلى المسجد فرأى في ثوبه دماً فأمر به إلى عائشة وهي حائض لتغسله فغسلته))(3)، وقال لها يوماً: (( ناوليني الخُمرة)). فقالت: إني حائض. فقال: (( أحيضتك في يدك ))(4)؟
وهل يكره سؤرهما أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة أن سؤرهما لا يكره.
والحجة على ذلك: ما رويناه من هذه الأحاديث، فإنها دالة على الجواز من غير كراهة.
وحُكي عن الحسن بن صالح كراهة سؤرهما، ولا أعرف له وجهاً في الدلالة على الكراهة سوى أن الحائض متلوثة بالنجاسة في أغلب أوقاتها، فإذا باشرت شيئاً من هذه الأمور فإنه لا يؤمن منها تنجيسه، فلهذا كُره مخالطتها لما ذكرناه. والجنب مقيس عليها بجامع كون كل واحد منهما يجب عليه الغُسل.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي. العرق: بفتح العين المهملة وسكون الراء: العظم الذي عليه بقية من لحم.
(2) عن علي عليه السلام قال: عاد رسول اللّه ً وأنا معه رجلاً من الأنصار فتطهر للصلاة ثم خرجنا، فإذا بحذيفة فأومأ رسول اللّه فأقبل إليه، فأهوى رسول اللّه إلى ذراع حذيفة ليدعم عليها فنجشها حذيفة فأنكر ذلك رسول اللّه. فقال: ((مالك ياحذيفة))؟ قال: إني جنب، قال: ((أبرز ذراعك فإن المؤمن ليس بنجس)) ثم وضع يده على ذراعه وإنها لرطبة. حكاه في البحر عن أصول الأحكام وهو في الجامع الكافي عن رواية مسلم، ورواه أبو داود والنسائي مع اختلاف في اللفظ.
(3) سيأتي في باب الحيض.
(4) أخرجه الستة إلا البخاري.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من جواز استعمال آسارهما من غير كراهة، وما قاله من توهم النجاسة لا وجه له، فإنه وهم لا يُعَوَّل عليه مع ما قررناه من الأدلة الشرعية التي حكيناها، ولأن ما ذكره الحسن يشبه أن يكون مثل فعل اليهود، فيجب القضاء ببطلانه لما روى أنس بن مالك: أن اليهود كانوا إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول اللّه ً عن ذلك فأنزل اللّه تعالى: {وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوْا النِّسَاءَ فِيْ الْمَحِيْضِ }[البقرة:222]. إلى آخر الآية، فقال ً: (( جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح))(1). فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه، ففي هذا دلالة على جواز مخالطتهن في المآكل والمشارب والتصرفات من غير كراهة.
مسألة: سؤر الكافر، يكون طاهراً أو نجساً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن جميع آسار الكفار كلها نجسة، على جميع الأديان الكفرية من عبدة الأوثان والأصنام والملاحدة والزنادقة والمجوس، وأهل الكتابين اليهود والنصارى، إلى غير ذلك من سائر الملل المخالفة لملة الإسلام. وهذا هو رأي القاسم بن إبراهيم، ومحكي عن الهادي والناصر، وهو قول مالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَس ٌ }[التوبة:28].، فهذا نصٌّ على ما قلناه من نجاستهم ولا حاجة إلى تأويله من غير ضرورة، فيجب الحكم عليهم بالنجاسة في جميع ما تصرفوا فيه إلا ما خصته الدلالة الظاهرة؛ لأنها عامة في رطوبتهم وأبدانهم فلا وجه لأن يقال: المراد به اعتقاداتهم وأبدانهم.
__________
(1) سيأتي في باب الحيض. وهو في سنن أبي داود (258)، والبيهقي في السنن الكبرى ج1/313.
الحجة الثانية: ما روي أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول اللّه ً ضرب لهم قبة في المسجد. فقالوا: يا رسول اللّه، قوم أنجاس. فقال الرسول ً: (( ليس على وجه الأرض من نجاستهم شيء ، إنما نجاستهم على أنفسهم))(1).
ووجه الدلالة: هو أنهم لما قالوا: قوم أنجاس، أقرهم على ذلك، ومن جهة أن الصحابة رضي اللّه عنهم فهموا من جهتهم النجاسة فقالوا: قوم أنجاس، فصرحوا بذلك(2).
الحجة الثالثة: ما روي عن أبي ثعلبة الخشني ) قال: قلت: يا رسول اللّه إنا بأرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال: (( اغسلوها، ثم اطبخوا فيها ))(4). فلولا أنها نجسة وإلا لكان لا وجه للأمر بغسلها، وليس الوجه في نجاستها إلا من أجل مماسَّتهم لها وشربهم فيها، وفي هذا دلالة على نجاسة الآسار كما ذكرناه.
__________
(1) حكاه في البحر وفي أصول الأحكام.
(2) لعل في هذا حجة على صاحب هذا القول أكثر مما هو حجة له؛ لأن الحديث حصر نجاستهم على أنفسهم وليس على وجه الأرض منهم شيء.
(3) أبو ثعلبة الخشني، (الخشني بخاء معجمة مضمومة وشين معجمة مفتوحة) اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: جرثوم بن عمرو، على الأشهر. صحابي، قيل: كان أقدم إسلاماً من أبي هريرة، روى الحديث عن النبي ً، وعن: معاذ، وأبي عبيده. وروى عنه ابن المسيب، وعطاء، ومكحول، ومات في جوف الليل وهو ساجد، واختلف في تاريخ وفاته، فقيل: في أول إمرة معاوية والله أعلم. (تهذيب التهذيب).
(4) ولفظ متنه: ((إن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها)). قال في حاشية البحر: هذه إحدى روايتي الترمذي وأورد رواية للحديث عند أبي داود عن أبي ثعلبة الخشني بلفظ نحوه .
المذهب الثاني: أن جميع آسار الكفار ورطوبتهم طاهرة، وهذا هو قول زيد بن علي ومحكي عن المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه. قال زيد بن علي: المشرك يُتوضأ بسؤر شربه إلا أن يُعلم أنه شرب خمراً، ولا يُتوضأ بسؤر وضوئه، وإنما خص التوضؤ بسؤر شربه دون سؤر وضوئه لأمرين:
أما أولاً: فلأن الأصل هو النجاسة فيهم، ولكن خص الشرع آسارهم فبقي ما بقي على أصل التنجيس.
وأما ثانياً: فلأنه يسيح عند الوضوء من ملابسة النجاسة مالا يسيح عند الشرب، فمن أجل ذلك فرق بينهما، وإلى طهارة الآسار في حق الكفار وطهارة رطوباتهم، ذهب الإمام المنصور بالله.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ }[المائدة:5]. فلو كانوا أنجاسا لما أباح ذلك، وهذا خاص في الدلالة على طهارة الرطوبة في حقهم في الطعام والشراب وسائر الرطوبات.
الحجة الثانية: ما روى جابر بن عبدالله قال: (( كنا نغزوا مع رسول اللّه ً فنشرب من آنية أهل الكتاب ونطبخ في قدورهم، ولم نؤمر بغسلها من مس أيديهم))، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من طهارة ذلك. وروي عنه ً أنه استعار أدرعاً من صفوان بن أمية ) وكان مشركاً ولم يأمر بغسلها لما أرادوا لبسها، لما ذكرناه.
__________
(1) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب القرشي الجمحي المكي، صحابي من المؤلَّفة، أسلم بعد الفتح وكان غنياً كثير الأموال، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين في أيام معاوية.
الحجة الثالثة: ما روي أنه ً توضأ من مزادة مشركة ، ولم يؤثر أنه أمر بغسلها(1)، وروي عن عمر مثل ذلك. ولأنه آدمي فوجب أن تكون رطوبته طاهرة كالمسلم، فهذا تقرير أدلة الفريقين القائلين بالجواز وعدمه كما لخصناه، والله الموفق للصواب.
والمختار: ما قاله الأئمة الثلاثة: زيد بن علي والمؤيد بالله والمنصور بالله ومن تابعهم من فقهاء الأمة، من طهارة آسارهم ورطوباتهم على الجملة، لكنا نذكر تفصيلاً نشير إليه وحاصله، أن الكفار ضربان:
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم في ذكر غزوة تبوك، أن رسول اللّه ً أُتي بامرأة مشركة معها مزادتان من ماء على بعير فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي ً بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين ونودي في الناس: اسقوا واستسقوا، فسقى من شاء واستسقى من شاء. الحديث ا. هـ. البحر.
فالضرب الأول منهم: لا يتدينون باستعمال النجاسات ولا يتلوثون بها، وهؤلاء هم اليهود والنصارى وسائر أهل الشرك من عُبَّاد الأوثان والأصنام، فهؤلاء يجوز التوضؤ بفضلة ما شربوه ولا بأس برطوباتهم، لما روي عن النبي ً، (( أنه ألَمَّ به رجل من عُباد الأوثان فأضافه وأكرمه وسقاه لبناً فشربه، ولم يؤثر أن الرسول ً غسل الإناء عقيب شربه)). وروي أن ثمامة بن أثال ) لما جاءوا به أسيراً فرُبط في بعض سواري المسجد و(( كان يُخْرَج إليه الطعام من بيوت رسول اللّه ً وبيوت الصحابة ، وما أُثر أنه غسلت الآنية من أثره))(2).
الضرب الثاني من الكفار: وهم الذي يتدينون باستعمال النجاسات ومخالطتها ولا يزالون يتعاطونها ويخامرونها، وهؤلاء هم المجوس والصابئة؛ لأنهم يتطهرون بالبول ويتقربون بالأرواث النجسة، فهؤلاء يكره استعمال آنيتهم قبل غسلها لما ذكرناه، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر حكاه أبو إسحاق: أنه لا يجوز استعمال آنيتهم. وقال أبو حنيفة ومالك: إنها على أصل التطهير كآنية أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
__________
(1) ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي اليمامي، سيد أهل اليمامة، حاول قتل النبي ً فمنعه عمه، ثم أسر قرب المدينة وأحضر إلى النبي ً فسأله: ما عندك يا ثمامه؟ فقال: إن تقتل تقتل ذا ذنب، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن ترد المال تعط ما شئت. فعفى عنه. ثم أسلم وحسن إسلامه. ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة، ثم آزر العلاء بن الحضرمي في قتاله المرتدين في البحرين حيث قتل الحطم فقتله قوم الحطم. (در السحابة 717).
(2) أخرجه البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة.
والحجة على ما اخترناه من الكراهة فيمن ذكرناه: هو أنه إذا كان المعلوم من حالهم ما ذكرناه من التَّدّيُّن باستعمال النجاسات، فهم لا محالة إلى مخالطتها أقرب، فلهذا كُره للوجه الذي لخَّصْناه. فأما سراويلاتهم وما يختص أسافلهم من الثياب كالمآزر ونحوها، فهي أشد كراهة من جهة أن النجاسة تسيح إليها وهي بها ألصق من غيرها، فمن أجل ذلك كانت أشد كراهة، فلهذا قال أصحابنا: إن الظن غالب على نجاسة سراويل المجوسي. وما ذاك إلا من أجل ما قررناه من عدم احترازهم عنها.
الانتصار على من خالف هذه المقالة: إنما يكون بإيراد متمسكاتهم والجواب عنها.
فنقول: أما ما أوردوه من الأدلة على نجاستهم فجوابه من وجهين:
أما أولاً: فأدلتنا معارضة لأدلتهم فيجب الرجوع إلى التساقط فيهما والرجوع إلى دلالة أخرى غير معارضة، أو الرجوع إلى حكم العقل وهو القضاء بالتطهير في كل شيء إلا لدلالة خاصة، وفيه حصول غرضنا بالطهارة في الرطوبة لهم.
وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم التعارض في الأدلة، بل ما ذكرناه من الأدلة راجح على ما ذكروه، أما الآية فلأنه ليس المقصود منها التنجيس وإنما سيقت من أجل كفرهم وجحدانهم، فلهذا فإنه يقال: نجس إذا كان كثير الرداءة ويعظم خبث باطنه. وأما ما رووه من وفد ثقيف وهو حجة لنا حيث قال: (( نجاستهم على أنفسهم )). فدل ذلك على ما يعلق بنا من رطوباتهم فهو طاهر لا محالة، وإنما قال: قوم أنجاس، يعني: كفار متمردون أو هم متنجسون خلا أن نجاستهم قد رُفع حكمها بالإضافة إلينا بدليل آخر الخبر. وأما ما رواه ثعلبة من قوله: (( فاغسلوها ))، فالغسل على زعمهم لا نسلم أنه يدل على النجاسة، بل نقول: إنما غسلت لما يعلق بها من مسّ أيديهم، لأجل أن النفوس تعافهم وتكرههم لأجل كفرهم لا من أجل كونها نجسة. ثم إنما أمر بغَسلها على جهة الاستحباب دون الوجوب لما فيه من النظافة وإزالة العفونات لا من أجل نجاستها، فضعف ما أوردوه.
قالوا: حيوان غير محقون الدم في الأصل لا من أجل الضراوة والتذكية، وهو مما يصح دخوله في ملك مالك فوجب أن يكون نجساً كالخنزير.
فقولنا: غير محقون الدم في الأصل، نحترز به عن المسلم.
وقولنا: من أجل الضراوة، نحترز به من سباع الطير فإن آسارها(1) طاهرة كما سنوضحه.
وقولنا: والتذكية، نحترز به عما يذكى فإن سؤره طاهر.
وقولنا: وهو مما يصح دخوله في ملك مالك، نحترز به عن الحشرات كالحيات والعقارب فإن آسارها طاهرة لما كانت لا يصح دخلوها في ملك مالك فقد حصل بهذه القيود مشابهة الكافر للخنزير فيجب كونه نجساً.
قلنا: ما ذكرتموه من القياس يبطل بالمنع، وهو أنا نقول: ليس الكافر مشابهاً للخنزير في النجاسة، ولو كان الأمر كما زعمتموه لكان شعره مثل شعر الخنزير وقد حكمنا بطهارة شعر الكافر، وأيضاً فإن المعنى في الخنزير هو أنه نجس الذات، بخلاف الكافر فإن نجاسته ليست ذاتية، ولهذا فإنه يطهر بالإسلام. فهذا فرق يبطل ما جمعتموه ويلحق جمعكم بالفساد والبطلان، وأيضاً فإنه معارَض بقياس مثله على عكسه، فإنا نقول: إنسان كامل العقل حامل الأمانة فيجب الحكم بطهارته كالمسلم، بل نقول: هذا القياس أحسن من قياسكم لما بينهما من التفاوت، فإن الكافر إلى المسلم أقرب من الكافر إلى الخنزير، ومهما بعدت المشابهة ضعف القياس.
قالوا: دم مباح إلا لعارض فأشبه الكلب في النجاسة.
فقولنا: إلا لعارض. وصف من أوصاف العلة من جهة أن الكلب دمه مباح إلا أن يكون لزرع أو ماشية أو صيد، والكافر مباح الدم إلا للأمان، أو لقبول الجزية.
قلنا: المعنى في الأصل كونه سَبُعاً والكافر ليس سَبُعاً، أو نقول: المعنى في الأصل كونه نجساً في ذاته بحيث لا يطهر بحال، بخلاف الكافر فإنه يطهر بالإسلام. ثم يعارض بأنه إنسان عاقل فكان سؤره طاهراً كالمسلم.
__________
(1) في الأصل: أسوارها. والصواب: آسارها. كما أثبته المؤلف في أول المسألة.