لا يقال: إن كونه مأموراً متعلق بفعل الوضوء، وكونه منهياً متعلقاً بالغصب، وهما وجهين للفعل متقاربين فلا يلزم فيه مناقضة؛ لأنا نقول: هذا فاسد لأنه لا يعقل هناك تغاير بينهما من جهة اتحادهما، وبيانه أنا نقول: إن متعلق الأمر على زعمكم هو فعل الوضوء بالماء المغصوب، وعلى قولنا متعلق النهي هو فعل الوضوء بالماء المغصوب، فهما متحدان كما ترى، أعني متعلق الأمر والنهي، فيلزم ما ذكرناه؛ لكونه مأموراً به منهياً عنه وأنه محال.
الحجة الثانية: فعل الوضوء طاعة لله تعالى؛ لأنه من جملة العبادات وكل عبادةٍ فهي طاعة، وفعل الغصب يكون معصية لله تعالى، فلو جوزنا التوضؤ بالماء المغصوب على زعمكم لكان طاعة من حيث كونه عبادة، ومعصية من جهة كونه مغصوباً لايحل فعله، فيلزم أن يكون العبد بالتوضؤ بالماء المغصوب، مطيعاً عاصياً [في وقت واحد]، وما هذا حاله فلا خفاء بفساده.
لايقال: إن كونه طاعة لم يلاق كونه معصية، وكونه معصية لايلاقي كونه طاعة وإذا لم يتلاقيا لتغاير المتعلقين فيهما لم يكن ذلك مؤدياً إلى فساد، فلا جرم جاز أن يكون مطيعاً بفعل الوضوء وعاصياً بكونه غاصباً، ومثل هذا جائز؛ لأنا نقول: هذه عبارة فارغة لا فائدة تحتها، وتكرير ألفاظ لا طائل وراءها، فإنا قد قررنا اتحاد الوجهين في كونه طاعة معصية بما ذكرناه في كونه مأموراً به منهياً عنه فأغنى عن الإعادة.
الحجة الثالثة: أنا نقول لهم: أليس قد تقرر كون الوضوء مراداً لله تعالى؟ فلابد من قول بلى، وقد تقرر كون الغصب مكروهاً لله تعالى من جهة كونه منهياً عنه، والنهي لا يكون نهياً إلا بالكراهة. فإذا تقرر ذلك فكيف يقال بجواز التوضؤ بالماء المغصوب؟ وفي ذلك كونه مراداً مكروهاً بالتقرير الذي لخصناه وهو محال.

لا يقال: كيف يقال بأن الوضوء بالماء المغصوب مكروه وهو من جملة الواقعات؟ والله تعالى مريد لكل واقع طاعة كان أو معصية، فإذاً لا معنى لكونه مكروهاً مع كونه مما يقع في العالم، وإذا بطل كونه مكروهاً ثبت كونه مراداً، سواء كان طاعة أو معصية فلا وجه للإلزام بكونه مكروهاً كما قلتم؛ لأنا نقول: هذا فاسد، فإنا إنما قررنا هذا الإلزام على الدليل وقد قام البرهان العقلي على أن المعاصي غير مرادة لله تعالى سواء كانت واقعة أو غير واقعة، فإن سلموا ذلك فالإلزام متوجه على لزوم كون الوضوء مراداً مكروهاً، وإن دفعوه نقلنا معهم الكلام إلى تلك المسألة فإنها متعلقة بالمباحث العقلية الكلامية، وقد قررناها في الكتب العقلية، فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أن هذه الإلزامات متوجهة على قول من زعم أن الوضوء بالماء المغصوب جائز.
الانتصار على من خالفنا في هذه المسألة بتزييف(1) أدلتهم فيها.
قالوا: الظواهر الشرعية دالة على صحة الوضوء بالماء المغصوب.
قلنا: هذا فاسد من وجهين:
أما أولاً: فإنا لا نسلم اندراجه تحت العموم؛ لأن العمومات القرآنية والأخبار النبوية، إنما تناولت اسم الطهور وهو متناول ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، والماء المغصوب ليس هكذا، فلهذا لم يكن مندرجاً تحتها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا اندارجه تحت العموم، لكنه خرج بأدلتنا المخصصة من ظاهر العموم فيُعمل بأدلتنا المخصصة فيما كانت متناولة له بظاهرها، وهو خروج الماء المغصوب عن صلاحية كونه وضوءاً، ثم يُعمل بالأدلة العامة فيما وراء ذلك، فيكون فيما ذكرناه عمل بالعموم والخصوص جميعاً، وما ذكرتموه إخراج لأدلة الخصوص عن كونها دالة، وهذه طريقة مرضية بين علماء الأصول، أعني الجمع بين الأدلة، لا يختلفون فيها فمن قال منهم بأن في اللغة لفظة موضوعة للعموم.
__________
(1) يقصد المؤلف: بتوضيح زيف أدلتهم، أي بإبطالها. وقد سبقت الإشارة إلى هذا.

قالوا: ماء مطلق فجاز التطهر به كالماء الحلال.
قلنا: هذا القياس معترَض من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الجامع الذي ذكرتموه هو كونه ماء، وما هذا حاله وصف طردي ليس مشتملاً على إخالة ولا مشابهة خاصة، وما يكون على هذه الصفة فليس معتمداً في تقرير حكم من الأحكام الشرعية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونه حلالاً، وهذا فرق فقهي يبطل الجمع ويلحقه بالبطلان والفساد.
وأما ثالثاً: فلأنا نعارضه بقياس مثله فنقول: ماء [مغصوب] فلم يجز التطهر به كالماء النجس، أو نقول: شرط من شروط الصلاة المعتبرة في أدائها موصوفة بصفة فلم تجز بما هو موصوف بضدها، كالماء الطاهر(1).
قالوا: طهارة بالماء تعتبر في صحة أداء الصلاة، فلم يكن الحلال من شرطها كإزالة النجاسة، فلو غُسل الثوب من النجاسة بماء مغصوب لكان مجزياً فهكذا حال الوضوء من غير تفرقة بينهما.
__________
(1) جملة: كالماء الطاهر، مكانها بعد كلمة: بصفة. حتى لا يفهم المعنى المقصود على عكسه.

قلنا: هذا فاسد، وبيانه: أنه إن كان الغرض من هذا القياس هو استعمال الماء المغصوب في إزالة النجاسة فهو باطل؛ لأنه محرم عقلاً وشرعاً ويؤيده قوله ً: (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه )). وقوله ً: (( إذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردَّها عليه ))(1). وإن كان الغرض من القياس هو بيان أن من غسل النجاسة بماء مغصوب فإن الصلاة مجزية له، فهكذا حال الوضوء، فالفرق بينهما ظاهر، فإن النجاسة ليست عبادة فلهذا كان تحصيلها على جهة الشرط دون العبادة، بخلاف الوضوء فإنه عبادة فلا يجوز ملابسته للمعصية فافترقا. ثم نقول: فرق آخر، وهو أن غسل الثوب بالمغصوب ليس ملاقياً للصلاة في حال أدائها فلهذا كانت الصلاة مجزية بغسله، بخلاف الوضوء فإنه ملاق للصلاة مُؤدى لها؛ لأن غسل النجاسة يراد للصلاة ولغير الصلاة بدليل قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. ولم يفصل بين الصلاة وغيرها بخلاف الوضوء، فإنه لا يراد إلا للصلاة فافترقا.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن غسل النجاسة هو تأدية شرط لا تأدية عبادة، بخلاف الوضوء فإنه عبادة تفتقر إلى النية، فلهذا جاز غسل النجاسة بالماء المغصوب بخلاف الوضوء فبطل ما توهموه من الجمع بينهما.
قالوا: عبادة تدخلها النيابة، فلم يكن التلبس بالمغصوب مفسداً لها كالذبح بالسكين المغصوبة والوقوف على جمل مغصوب.
قلنا: هذا القياس فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فبالمنع من حصول العلة في الفرع، فإنه لا نسلم النيابة في الوضوء، فإن حقيقة النيابة أن يتوضأ عنه غيره وهذا لا قائل به، فأما أن غيره يوضيه فهذا ليس نيابة وإنما هو استعانة لا نيابة.
__________
(1) رواه البيهقي بلفظ ((.. فليردها)) ورواه أحمد في مسنده بلفظه.

وأما ثانياً: فبالفرق، وهو أن الوقوف على جمل ليس واجباً، بل لو وقف على قدميه أجزأه، وهكذا لو ذبح بالمروة والسيف أجزأه وبكل ما يفري الأوداج ويبهر الدم، فالذبح بالسكين غير واجب بخلاف الوضوء فإنه يجب عليه استعمال عين الماء ولا يجزيه غيره فافترقا.
وأما ثالثاً: فلأن ما ذكروه من القياس فاسد الاعتبار، فإن الوضوء بالماء بعيد عن الذبح بالسكين المغصوب والوقوف على جمل حرام، فلا يقاس أحدهما على الآخر لبعد أحدهما عن الآخر؛ لأن السكين آلة في الذبح كالقوس للرمي، والجمل آلة في الوقوف راكباً كالقلم للكتابة، بخلاف الوضوء فإنه ليس بحقيقة الآلة بل هو عبادة منفصلة على جهة الاستقلال، وإنما الآلة أن يغتصب دلواً وحَبْلاً فيستسقي بهما ماءً حلالاً ثم يتوضأ به، فهذا يكون نظيراً لمسألتنا ولا نخالف فيه؛ لأنهما يتوصل بهما إلى تحصيل الماء فهما بحقيقة الآلة أشبه فبطل ما قالوه.
قالوا: الغصب لا يعقل في الماء؛ لأنه على أصل الإباحة بدليل قوله ً: (( المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان))(1). يعني الشيطان، وقوله ً: (( الناس شركاء في ثلاثة: في الماء والنار والكلأ))(2).
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد.
(2) وفي رواية ((.. في ثلاث...إلخ)). قال في الاعتصام: وهو حديث مشهور تداوله الفقهاء. ولفظه في إحدى الروايات لابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه ً: ((المسلمون شركاء في ثلاثة))...إلخ. وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول اللّه ً قال: ((ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار وثمنه حرام)). ا.هـ. ج4/165.

قلنا: إن صح ما ذكرتموه، فالخلاف بيننا في المسألة مرتفع، إذ لا صورة له على ما ذكرتموه، إنما يُتصور في الأنهار والسيول فإنه لا يُتصور فيه الغصب، فأما ما أُحرز في القِرَب والكيزان والصحاف وغير ذلك من الآنية، فإنه يكون مملوكاً لصاحبه ولمن أحرزه، يعقل فيه الغصب ويجب فيه الضمان بالمثل، فلو توضأ متوضئ بما هذا حاله من غير إذن مالكه، جاء الخلاف في المسألة. والله أعلم بالصواب.
مسألة: في التفريع، واعلم أن هذه المسألة يتفرع عليها فروع أربعة:
الفرع الأول منها: من توضأ بماء وكان عنده أنه مغصوب، فكان مباحاً أو ملكاً له، فهل يجزيه الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو الذي ذكره السيدان: أبو الحسن الحقيني )، وأبو عبدالله الجرجاني ).
__________
(1) أبو الحسن الإمام الهادي علي بن جعفر بن الحسن بن عبيدالله بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ٍ المعروف بالحقيني نسبة إلى قرية سكنها يقال لها: حقينة بالقرب من المدينة، وهو الحقيني الصغير، والكبير والده. كان عالماً وفقيهاً متكلماً، له المقالات في العلوم والتأليف، قام بأرض الديلم بعد وفاة الناصر الصغير سنة 472هـ. ولم يزل قائماً بأمر اللّه إلى أن وثب عليه رجل حبشي في المسجد فقتله في يوم الاثنين من أيام رجب سنة 490هـ. (مقدمة الأزهار).
(2) محمد بن الحسن بن إبراهيم أبو عبدالله الأستراباذي وقيل: الجرجاني أحد أئمة الشافعية. مولده سنة 311هـ. كان عالماً بالقراءات ومعاني القرآن وأستاذاً في الأدب، وفقيهاً فاضلاً. شرح (التلخيص) لابن القاص في مجلد وصفه ابن قاضي شهبة في الطبقات بأنه شرح جليل عزيز الوجود. توفي سنة 380هـ. عن 75 سنة. ا.هـ. (طبقات الشافعية ج1/166) له ترجمة في وفيات الأعيان ج3/341.

والحجة على ذلك: هو أن التعويل في الأمور على الحقائق دون الأمور العارضة، ولا شك أن أصل هذا الماء هو على الإباحة فلا جرم كان مجزياً.
وثانيهما: أنه غير مجزٍ له وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله، ومحكي عن المنصور بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه توضأ بماء وعنده أنه منهي عن استهلاكه، فإقدامه على التوضؤ به وهو على هذه الصفة يؤثر في كونه قربة؛ لإقدامه واعتقاده للمعصية، فلا يكون مجزياً له كما لو كان مغصوباً على جهة الحقيقة.
والمختار: ما عول عليه الإمامان: الحقيني والجرجاني، من جهة أن التعويل إنما هو على حقائق الأمور وأصولها ولا تعويل على ما يعرض من الاعتقادات التي لا حقيقة لها، ومن جهة أن الظواهر الشرعية كلها دالة على صحة التوضؤ بما ذكرناه من هذا الماء، وعروض الاعتقاد من جملة الجهالات فلا يلتفت إليه، ونهاية الأمر فيه أن يكون آثماً باعتقاده لكونه معصية، ومعصيته بما هذا حاله لا تطرق خللاً في أصل وجوبه مع كونه جارياً على نعت الصحة.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالا: الإقدام على التوضؤ به وهو على هذه الصفة يكون معصية فيؤثر في كونه قربة، فلهذا قضينا بكون الوضوء غير مجزئ.
قلنا: الماء في نفسه طاهر حلال لا مرية فيه فلا أثر لاعتقاده وقد نوى به القُربة وقد صادفت القُربة ماء حلالاً فلا يؤثر في حاله الاعتقاد بكونه مغصوباً، ويؤيد ما ذكرناه: أن رجلاً لو عظم رجلاً هو أبوه وقد اعتقد أنه غير أبيه فإن التعظيم منصرف إلى أبيه لا محالة، ولا أثر لاعتقاده كونه غير أبيه، ولهذا قلنا: بأن عبادة المشبهة منصرفة إلى اللّه تعالى وإن اعتقدوه بصفة الأجسام، فاعتقاد المتوضئ لكونه مغصوباً لا أثر له في تغيير حقيقته ولا في كونه قُربة.
الفرع الثاني: من توضأ بماء وعنده أنه مباح فكان مغصوباً فهل يجزيه وضوؤه أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو الذي ذكره الإمامان المؤيد بالله والمنصور بالله.

والحجة لهما على ما قالاه: هو أنه توضأ بماء حلال عنده، وانكشاف العاقبة بعد ذلك بكونه مغصوباً لا يطرق خللاً فيما فعل من التوضؤ بماء هو عنده حلال، وعليه غرامة مثله؛ لكونه مستهلكاً مال الغير، وعلى اليد ما أخذت حتى ترد.
وثانيهما: أنه غير مجز له، وهذا هو الذي ذكره الإمامان الحقيني والجرجاني رحمهما اللّه تعالى.
والحجة على ذلك: هو أن الاعتبار بالحقائق ولا أثر للاعتقادات في قلب الحقائق عما هي عليه. فلما كان الماء مغصوباً في الحقيقة، كان وضوؤه واقعاً على خلل وفساد فلهذا بطل إجزاؤه كما لو تحقق كونه مغصوباً.
والمختار: ما عول عليه الحقيني والجرجاني.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه في المسألة الأولى ونزيد هاهنا: وهو أن الأدلة الدالة على بطلان التوضؤ بالماء المغصوب التي أسلفناها على الفقهاء، فهي بعينها دالة على بطلان الوضوء في هذه المسألة، ولا ينفع اعتقاد كونه مباحاً؛ لأنه اعتقاد جهل والجهالات لا أثر لها ولا حقيقة، فمن اعتقد في رجل أجنبي أنه أبوه ثم عظمه على حد تعظيم أبيه، لم يكن معظماً لأبيه لاعتقاده كونه أباً له، ولا يصير أباً له بالاعتقاد، فهكذا هاهنا لا يصير حلالاً باعتقاده إذا كان حراماً في ذاته.
الانتصار: قالا: ليس عليه إلا التوضؤ بما يعتقد في نفسه كونه مباحاً، وهذا حاصل فيما نحن فيه.
قلنا: أليس اعتقاده جهلاً؟ فلابد من بلى.
قلنا: فجهله لا يزيده إلا وبالاً ولا يكون مسوغاً ما لا يسوغ شرعاً، من جهة أن الحقيقة مخالفة لإعتقاده فلا أثر لاعتقاده مع حقيقة الحال في كونه مغصوباً.

والعجب أن ما ذكره المؤيد بالله هاهنا مخالف لما تقتضيه أصوله في الصلاة، إذ ليس هاهنا إلا فقد العلم بكون الماء مغصوباً، وقد تقرر من نصوصه أنه لا تأثير للعلم والجهل في المفعول إذا لم يكن سائغاً على اجتهاده، وقد نص على أن من نسي شيئاً مما طريقه الاجتهاد فكان مختلفاً فيه فصلى ولم يذكره إلا بعد مضي الوقت، فإنها تجب عليه الإعادة، فكيف يقال هاهنا بأن وضوءه يكون مجزياً مع وقوعه على خلل وفساد لم يعلمه. وأعجب من هذا أن هذين الإمامين: المؤيد بالله والمنصور بالله، لا يزالان مُعَوِّلين في أثناء كلامهما في ريب النظر ومجاري الاجتهاد على حقائق الأشياء وأصولها في استصحاب العموم وإستصحاب الأصل في الطهارة والنجاسة، واستصحاب براءة الذمة وغير ذلك مما يكون متمسكاً بالحقائق في أصول الأشياء، حتى إذا جاءا إلى هذه المسألة كان تعويلهما على مطلق الاعتقاد من غير تعويل على الحقائق ولا التفات إليها، مع تبحرهما في علم الشريعة وإحاطتهما بالمجاري الاجتهادية والمضطربات الفقهية، فما أدري على ما أوجه عليه كلامهما في هذه المسألة.
الفرع الثالث: من توضأ من بئر في دار من غير إذن أهلها، فهل يكون وضوؤه مجزياً له أم لا؟ فيه قولان للمؤيد بالله:
أحدهما: أنه لا يكون مجزياً، وهذا هو الذي ذكره بعض فقهاء المذهب.
والحجة على ذلك: هو أن البئر وماءها ملك لصاحبها فلا يجوز من غير إذنه كما لو كان الماء في كوز أو قِربة، فإذا كان أخْذه معصية بالغصب كان مضاداً للقُربة فلا جرم قضينا بفساد الوضوء لوقوعه غير عبادة.
وثانيهما: أن ذلك جائز وهذا هو الذي ذكره آخراً.
والحجة على ذلك: هو أن أصل الماء باق على الإباحة مالم يكن مُحْرَزاً في الكيزان والجرار، بدليل قوله ً: (( الناس شركاء في ثلاثة: في الماء والنار والكلأ )).

والمختار: ما قاله آخراً. وهو القول بإجزائه في الوضوء لما ذكره من التعليل فإنه لا عثار على وجهه، ونزيد هاهنا: وهو أن المعصية إنما تعلقت بنفس الدخول لا بنفس الماء فلم تلاق القُربة نفس المعصية فيكون مفسداً للوضوء لتغايرهما، كما لو غصب مَطْهَرة فتوضأ فيها فإن وضوءه يجزيه إذا كان أصل الماء حلالاً فافترقا.
الفرع الرابع: يجوز التوضؤ من النهر الذي حفر غصباً ومن ساقية المرأز(1) إذا حفرت ظلماً، ذكره بعض أصحابنا للمذهب، وهذا جيد لا عثار عليه؛ لأن أصل الماء على الإباحة، والخلل إنما وقع في مجراه، والوضوء إنما هو بالماء دون مجراه، فالمعصية لا تلاقي ما هو طاعة بل هي منحرفة عنها، فلهذا كان مجزياً. والظاهر من كلام المؤيد بالله أن تردده إنما هو في ماء البئر إذا كان مأخوذاً من غير رضا صاحبها، فأما النهر فغالب ظني أن كلامه لا يختلف، وأنه يجوز التوضؤ بماء النهر وإن حفر غصباً، والتفرقة بينهما ظاهرة، فإن البئر يمكن إلحاقها بالكوز والقِربة فلا يجوز التوضؤ منها إلا مع الرضا من صاحبها. ويتعقل فيها الغصب، ويمكن إلحاقها بالنهر فلا يعقل فيها الغصب، فلهذا تردد نظره في ذلك كما قررناه من قبل، بخلاف النهر فإنه على الأصل في الإباحة، فهو مخالف للبئر كما ترى، وسيأتي لهذا مزيد تقرير في إحياء الموات بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) هكذا في الأصل ولم نعثر لها على أصل، وواضح أن المراد بالمرأز أو المراز، الحوض الذي تصب فيه الدلاء من البئر، والله أعلم. وفي القاموس: (رازه روازاً، جربه، و.. الرجل ضيعته، أقام عليها وأصلحها، و.. ما عنده بمعنى طلبه وأراده.).ا.هـ.

37 / 279
ع
En
A+
A-