والحجة الثانية: هو أنا قد أوضحنا أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إذا لم تكن مغيرة لأحد أوصافه، بالبراهين الشرعية الظاهرة، فإذا كان ما هذا حاله من الأمواء يكون طاهراً مطهراً، فهكذا ما كان الشائب له أمراً حكمياً وهو الاستعمال يكون طاهراً مطهراً من جهة أن الشائب العيني أقوى وأظهر أمراً من الشائب الحكمي، فإذا كان لا يخرجه عن التطهير، فالمستعمل لا يخرجه الاستعمال عن التطهير أحق وأولى.
وإذا تقرر بما ذكرنا كونه مطهراً، جاز رفع الحدث به وجازت إزالة النجاسة به؛ لأن كل ما يرفع الحدث فإنه يرفع النجس، كالماء القراح فإنه كما يرفع الحدث عن أعضاء الطهارة وجب أن يكون رافعاً للنجاسة.
وإذا قلنا: بأنه غير مطهر، لم يجز رفع الحدث به، وهل يجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: وهو المحكي عن أبي القاسم الأنماطي )، وعلي بن خيران )، أنه يجوز إزالة النجاسة به ولا يجوز إزالة الحدث، من جهة أن للماء حكمين، رفع الحدث وإزالة النجاسة، فإذا بطل رفعه للحدث بما ذكروه من الأدلة، بقي الحكم الآخر وهو إزالة النجاسة.
__________
(1) أبو القاسم عثمان بن سعد بن بشار البغدادي الأنماطي، كان فقيهاً، أخذ عن المزني، والربيع، وهو السبب في بساط الأخذ بمذهب الشافعي. مات ببغداد سنة 288هـ. (طبقات الفقهاء).
(2) علي بن أحمد بن خيران البغدادي، أبو الحسين، له كتاب اللطيف يشتمل على ألف ومائتين وتسعة أبواب وهو غير أبي علي بن خيران المعروف بالكبير، وعده صاحب طبقات الشافعية الكبرى من الطبقة السادسة، ولم يذكر تاريخ وفاته. راجع ترجمته برقم 99.

وثانيهما: وهو المعوّل عليه عند أبي إسحاق صاحب (المهذب)(1) وارتضاه صاحب (البيان)(2) لأن ما لا يجوز رفع الحدث به فلا يجوز إزالة النجاسة به كالماء النجس.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ولا المرأة بفضل وضوء الرجل)) وفي هذا دلالة على أنه غير مطهر.
قلنا: الكلام على هذا الخبر من أوجه [سبعة]:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث رواية داود بن عبدالله عن حميد الحميري )، وهما ضعيفان عند أئمة الحديث.
وأما ثانياً: فلأنه لم يروه عن رجل معين وإنما قال فيه: لقيت رجلاً صحب رسول اللّه ً أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، فأضافه إلى مجهول أيضاً لا يعرف حاله، وما هذا حاله من الأحاديث يكون مرجوحاً بغيره مما يكون رواية معلومين.
وأما ثالثاً: فلأنه قال فيه: صحب رسول اللّه أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، ولا شك أن صحبة أبي هريرة لرسول اللّه ً كانت أكثر من أربع سنين.
وأما رابعاً: فلأنه لا معنى لكون هذا الرجل صحب الرسول أربع سنين، فإن الصحبة تثبت بدون هذه المدة فلا وجه لتحديدها بأربع سنين.
وأما خامساً: فلأنه إذا كان عدلاً فهو مقبول الرواية سواء كانت صحبته مدة كثيرة أو قليلة.
__________
(1) في الفقه لأبي إسحاق الشيرازي.
(2) أبو الخير يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى العمراني، اليماني، صاحب كتاب (البيان) في الفقه، في نحو عشرة مجلدات، وله كتاب (الزوائد) جزآن، وكتاب (السؤال عن ما في المهذب من الإشكال)، و(مختصر الفتاوى)، و(غرائب الوسيط)، وله في علم الكلام كتاب (الانتصار)، في الرد على القدرية، ولد سنة 489هـ، وكان شيخ الشافعية في بلاد اليمن، وكان إماماً، زاهداً، عارفاً بالفقه وأصوله، والكلام، والنحو، توفي سنة 558هـ، وقبره بذي سفال من محافظة إب في اليمن. (مقدمة الأزهار، طبقات الشافعية).
(3) حميد بن عبدالرحمن الحميري.

وأما سادساً: فلأن هذا الحديث معارض بما روته عائشة رضي اللّه عنها قالت: (( كنت أغتسل أنا ورسول اللّه ً من إناء واحد ونحن جنبان)).
وأما سابعاً: فلأنه معارض بحديث ابن عمر رضي اللّه عنه قال: (( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول اللّه ً، من الإناء الواحد )). فهذه الأمور كلها دالة على ضعف هذا الحديث وأن غيره راجح عليه.
قالوا: المعلوم من عادة الصحابة والتابعين أنهم كانوا يعدلون عند عدم الماء إلى التيمم، وما روي عن أحد منهم أنه توضأ بالماء المستعمل، وفي هذا دلالة على كونه غير مطهر.
قلنا: الكلام على ما ذكرتموه من وجهين:
أما أولاً: فلأنهم إنما عدلوا إلى التيمم إذا عدم الماء أو تعذر استعماله، ومهما عدم الماء المطلق عدم المستعمل، وحيثما تعذر استعمال المطلق تعذر استعمال المستعمل، فلا حجة لكم في ذلك.
وأما ثانياً: فهو طاهر عندكم، والأمة قد عدلت عنه إلى التيمم، فيحمل أن يكون عدولهم إلى التيمم لنجاسته ويحمل أن يكون عدولهم لأجل كونه غير مطهر كما قلتموه، فما أجبتم به من قال بكونه نجساً فهو جوابنا لكم في كونه غير مطهر، من جهة أن عدولهم إلى التيمم محتملٌ للوجهين جميعاً على سواء.
فإن قال قائل: من وجد من الماء ما لا يكفيه لكل أعضاء الوضوء، فالأمة مختلفة فيه على قولين:
فمنهم من قال: يجب عليه العدول إلى التيمم ولا يلزم استعمال الماء في بعض أعضاء الوضوء.

ومنهم من قال: يتوضأ بما معه من الماء ثم يتيمم بعد ذلك(1)، ولم يقل أحد منهم إنه يغسل بما معه من الماء ما قدر عليه من أعضائه إلى إناء ثم يغسل سائر أعضائه بما قطر منه، فلو كان الماء المستعمل مطهراً لقالوا ذلك، فلما لم يقولوه دل على كونه غير مطهر، وهذا سؤال واقع على من قال بكونه مطهراً، وجوابه من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن المسألة اجتهادية لا محالة، وإذا كان الأمر فيها كما قلنا، فلا مانع من إحداث قول ثالث فيها وهو استعمال الماء المستعمل؛ لأن المحذور(2) من إحداث قول ثالث، هو إبطال ما في أيدي المسلمين من الحق، وما هذا حاله لا يبطل ما قالوه فلهذا كان سائغاً.
وأما ثانياً: فلعل هذا مفروض في حق من انتهى حاله في قلة الماء إلى أنه لم يقطر من أعضائه شيء من الماء لقلته، فلهذا قالوا بعدوله إلى التيمم كما قلتم.
وأما ثالثاً: فإنه يحتمل أن يكون عدولهم إلى التيمم، لنجاسته على رأي من يقول بنجاسته، فما أجبتم به في بطلان كونه نجساً فهو جوابنا في كونه مطهراً من غير فرق.
قالوا: إن عمر قال: أرأيت لو توضأت بماء أكنت شاربه؟
قلنا: جوابه يكون من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن قول الصحابي ليس بحجة كما أسلفنا تقريره.
وأما ثانياً: فأقصى ما في الباب أن يكون مذهباً لعمر رضي اللّه عنه وهو من جملة المخالفين في المسألة، فما أجبناكم به فهو جواب له(3).
__________
(1) كأن المؤلف أراد أن يقول بأن عليه أن يتوضأ بما معه من الماء أينما بلغ به، ثم إن كفى المضمضة وأعضاء التيمم، فهو متوضئ وإلا يمم الباقي وهو متيمم، كما هو المختار للمذهب.
(2) قوله: لأن المحذور...إلخ.. بمعنى: لأن المنع من إحداث قول ثالث إلخ. وإلا لانعكس المعنى وأصبح إحداث قول ثالث مبطلا لما في أيدي المسلمين من الحق، وهذا غير وارد.
(3) بمعنى جواب عليه.

وأما ثالثاً: فلأن كلامنا إنما هو في كونه مطهراً أو غير مطهر، وكلام عمر إنما هو في شربه، وكم من شيء يستكره الإنسان شربه مع كونه طاهراً مطهراً، فاستكراه شربه لا يدل على كونه غير مطهر، فحصل من مجموع ما ذكرنا صحة كون الماء المستعمل طاهراً مطهراً بالأدلة التي ذكرناها وبالجواب عما أوردوه من الشكوك على هذ القاعدة، ولو عدمتُ الماء في سفر أو حضر ووجدتُ ماء مستعملاً لتوضأتُ به ولم أعدل إلى التيمم لوجهين:
أما أولاً: فلأن اللّه تعالى يقول: {فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا}[النساء:43]. وهذا واجد للماء لا محالة.
وأما ثانياً: فلأنه طاهر، مطهر فلا حاجة إلى العدول إلى التراب مع وجوده وإمكانه، ولم أستعمل الماء المستعمل في عمري في طهارة حدث ولا أزلت به نجاسة، ولكن الغرض من تحقيق المسألة وتقريرها أمران:
أحدهما: إبانة الحق من المسألة فيما تؤدي إليه الأدلة الشرعية من الظواهر النقلية والمقاييس النظرية في التصرفات الاجتهادية.
وثانيهما: لجواز أن يضطر إليها مضطر في سفر أو مرض أو عند إعواز الماء، ولهذا فإنك ترى من برز في الاجتهاد وتبحر في علومه يفتي بالمسألة ولا يفعل بما أفتى به، من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولأجل ذلك فإن ابن عباس أفتى بحل المتعة ورجع عنها، ومع ذلك فإنه لو حز رأسه ما تمتع، وأبوحنيفة أباح شرب المُنَصَّف والمُثَلَّث ولو قطعت أوصاله ما شربها أبداً، والشافعي أباح قتل تارك الصلاة، ولو حظي إلى مثله لم يحتز رأسه، ولكن الغرض إبانة ما يؤدي إليه النظر الشرعي في المسائل كلها سواء عُمِلَ بها أو لم يُعْمَل.
مسألة: تشتمل على تفريعات المذاهب التي أسلفناها في الأمواء وجملتها ستة:

التفريع الأول: الماء إذا كان دون القلتين على رأي القاسم ومن وافقه من العلماء الذين حكيناهم ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فإنه يكون طاهراً مطهراً، ولا يحتاج إلى مغالبة بكثرة الماء(1) في طهارته؛ لأنه في الأصل طاهر فلا يحتاج إلى تطهير بغلبة الماء الطاهر عليه، فإذا ظهر عليه أثر النجاسة فغيرت أحد أوصافه جاز إيراد الماء الكثير عليه، فإذا ذهب ما تغير من أوصافه لكثرة الماء فإنه يعود طاهراً، وهكذا القول في الأمواء المستعملة فإنها تكون على رأيه طاهرة مطهرة من جهة أن الماء إنما ينجس بظهور النجاسة عليه على رأيه، فإذا كانت النجاسة لا تغير حكم الماء إلا مع الظهور، فيجب أن تكون الأمواء المستعملة جارية على حكم الطهارة؛ لأنها غير متغيرة بنجاسة ويلزمها حكم التطهير لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. والطهور: اسم موضوع للمبالغة كالضروب والصبور لمن تكرر منه ذلك، فهكذا يكون الطهور واقعاً على تكرير التطهير بالماء مرة بعد مرة، وهذا هو المراد بالاستعمال بالماء، فإذا اُستُعمِل في الغسل جاز استعماله في الوضوء وفي إزالة النجاسة، وهو الذي اخترناه من قبل، ويؤيده ما رواه أبو هريرة عن النبي ً، أنه سُئِل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة وأن الكلاب والسباع تَلِغُ فيها فقال الرسول ً: ((لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور))(2). وهذا عام فيما يُعَدُّ من الأمواء مالم يتغير، وعام في الحياض الكثيرة والقليلة، لكنا خصصنا ما تغير بالنجاسة من ظاهر هذا الحديث وعمومه، وبقي حجة في القليل والكثير كما ترى من ظاهره.
__________
(1) القائل بالمكاثرة، علي خليل كما في الأزهار وصفتها مفصلة فيه.
(2) حكاه في أصول الأحكام والشفاء والبحر، وفيه رواية عن عمر.

التفريع الثاني: على رأي من قال من العترة ٍ: بأن الماء المستعمل غير مطهر كالناصر والمنصور بالله، وهو رأي الشافعي، فإذا اجتمع قلتان من الماء المستعمل، فالذي يأتي على رأي الناصر والمنصور بالله وهو أحد قولي الشافعي أنه يصير مطهراً كالماء النجس إذا بلغ قلتين، وحكي عن الشافعي قول آخر: أنهما لا يصيران مُطَهِّرين لغيرهما؛ لأنه لا يقع عليهما اسم الماء المطلق، وإنما يقال له: ماء مستعمل وإن كان كثيراً بخلاف الماء النجس فإنه بعد اجتماعه قلتين يقال له: ماء على الإطلاق فافترقا.
والمختار على أصلهما: أنه يكون مطهراً من جهة أن القلتين ماء كثير، فإذا كانا باجتماعهما يرفعان النجاسة لكثرتهما، فلأن يرفعا الاستعمال أحق وأولى؛ لأن النجاسة عين والاستعمال حكم شرعي والعين أقوى تأثيراً من الحكم، فإذا دفعا العين دفعا الحكم لامحالة.
وإذا كان الماء المستعمل على رأيهما لا يجوز التوضؤ به، فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا تجوز إزالته به، وهذا هو رأي الناصر وأحد قولي الشافعي المعمول عليه عند أصحابه؛ لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم تجز إزالة النجاسة به كالماء النجس.
وثانيهما: أنه يجوز إزالة النجاسة به، وهذا شيء يحكى عن المنصور بالله، وهو محكي عن الشافعي في قول آخر من جهة أن للماء حكمين: رفع الحدث، وإزالة النجاسة، فإذا بطل كونه رافعاً للحدث بدليل شرعي، نفى كونه مزيلاً للنجس، وقد سبق الاختيار في الماء المستعمل فأغنى عن الإعادة.
التفريع الثالث: على رأي الناصر، والهادي، والمنصور بالله، والشافعي وغيرهم، في كون الماء المستعمل غير مطهر فإذا انغمس الجنب في ماء كثير أو غسل عضواً من أعضائه بنية رفع الجنابة عنه، لم يكن الماء مستعملاً عندهم لا محالة وهو الأصح من قولي الشافعي ويخرج عن جنابته.

والحجة على ذلك: هو أن حكم النجاسة أقوى من حكم الاستعمال، فلو وقعت نجاسة فيما هذا حاله من المياه الكثيرة لم يزل حكمه في كونه مطهراً إذا كان غير متغير بها، فهكذا حال الاستعمال يكون أحق بذلك، وحكى صاحب (الشامل) عن الشافعي قولاً آخر، وهو أن الماء مع كونه كثيراً يكون مستعملاً ويخرج به عن جنابته، من جهة أن الاستعمال حاصل بجميعه وهو مانع من طريق الحكم فلا تؤثر فيه الكثرة، وهذا فاسد فإن ما هذا حاله يلزم أن يكون ماء البحر مستعملاً وهذا لا قائل به، إذ لا فرق بين كثرة وكثرة، بعد ما كانت الكثرة معلومة.
وإذا أدخل الجنب يده في ماء قليل بنية الاغتراف منه و التبرد به، فإنه لا يصير مستعملاً؛ لأن الاستعمال إنما يحصل حكمه بشرط حصول نية القربة بالغسل للجنابة وهي غير حاصلة فيما ذكرناه، وإن أدخلها بنية رفع الجنابة صار الماء مستعملاً وخرج عن جنابته باليد، كما لو أفاض الماء عليها بنية الجنابة، وإن انغمس الجنب في ماء قليل صار الماء مستعملاً وخرج عن جنابته وهو أحد قولي الشافعي المنصوص له، ولا يصير مستعملاً إلا بعد انفصاله عنه فلو توضأ منه رجل أو اغتسل منه قبل انفصاله عنه صح وضوؤه وغسله، لأنه مالم ينفصل عنه فليس مستعملاً.
ووجه ذلك: أنا لو قلنا بأنه يصير الماء مستعملاً بأول ملاقاته لجزء من بدنه لوجب أن يكون الماء الذي يفيضه على عضو من أعضاء الطهارة مستعملاً بأول ملاقاته لأول عضو، وهذا لا قائل به، فعلى هذا إذا صب الجنب على رأسه ماء فإن نزل الماء عن رأسه متصلاً على ظهره وعنقه من غير فصل، أجزأه النازل من رأسه على ما مر عليه بعد رأسه لكونه متصلاً به، وإن قدرنا أن له شعراً كثيراً فوقع الماء على الشعر ثم تقاطر الماء من أعلى طبقات الشعر ومر في الهواء إلى ظهره أو بطنه فإنه لا يجزيه عما وقع عليه بعد انفصاله من الرأس في الهواء، لأن بنفس الانفصال عنه في الهواء قد صار مستعملاً.

وحكى الخضري ) من أصحاب الشافعي أن الماء يصير مستعملاً ولا يخرج عن جنابته من جهة أنه لما لاقى أول جزء من بدنه أول جزء من الماء صار الماء مستعملاً بأول الملاقاة فإذا انغمس فيه صار منغمساً في ماءٍ مستعمل.
والمختار: ما قررناه أولاً على رأي من منع من التطهر بالماء المستعمل، والله أعلم بالصواب.
التفريع الرابع: إذا صلى الرجل بطهارةٍ صلاة فرض، فإنه يستحب له أن يجدد الطهارة لصلاة بعدها، لما رَوَى أنس بن مالك عن النبي ً (( أنه كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر))(2). وروى ابن عمر (رضي اللّه عنهما) عن النبي ً أنه قال: (( من توضأ على طهر كتب اللّه له به عشر حسنات))(3).
فإذا كان المصلي على طهارة ثم إنه جدد الطهارة ثانياً فهل يصير الماء المجدد به مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يكون مستعملاً على رأي أكثر أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يكون مستعملاً.
والحجة على ما قاله أئمة العترة: هو أن هذا الماء قد تعلقت به القُربة لتأدية الصلاة المفروضة، فلهذا وجب كونه مستعملاً كما لو توضأ للصلاة من غير طهارة.
وإن قام من النوم فغسل يده في ماء قليل فهل يصير الماء مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يصير مستعملاً على رأي أصحابنا، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يصير مستعملاً.
__________
(1) محمد بن أحمد أبو عبدالله الخضري المروزي، أخذ عن أبي بكر الفارسي وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ. نقل عنه الرافعي أنه خرج هو وأبو زيد (الفاشاني) قولاً: أن النار تؤثر في الطهارة كالشمس والريح، وهو كما قال السبكي في طبقاته ج2/125، الخضري بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين. قال ابن خلكان: توفي سنة 380هـ.
(2) وفيه عن أنس قال: كان النبي ً يتوضأ لكل صلاة، وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد، وروايات للنسائي والبخاري والترمذي مع زيادة في بعضها.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي.

والحجة على ذلك: هو أن غسلهما قد تعلقت به القُربة فلهذا كان مستعملاً كالوضوء للنافلة.
وإن غسل رأسه مكان المسح فهل يصير الماء مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يصير مستعملاً من جهة أن هذا قد تعلقت القُربة في تأدية وظيفة مسح الرأس من جهة أن الغَسل معظم(1) المسح كما أن المسح خفيف الغَسل.
التفريع الخامس: إذا توضأ الحنفي أو اغتسل للجنابة بماء قليل، فهل يصير الماء مستعملاً بوضوئه أو غسله أم لا؟ من جهة أنه لم يقصد بالوضوء والغسل قُربة، إذ لا يعتبر النية في الطهارات ولا يشترطها. فيه على المذهب احتمالات ثلاثة:
أولها: أنه لا يصير مستعملاً بحال؛ لأنه يتوضأ من غير نية، والماء إنما يصير مستعملاً بالنية، وإن أتى بالنية فإنه يعتقد أنها غير واجبة عنده فلهذا لم يزل الماء عن حكمه في التطهير.
وثانيها: أنه يصير مستعملاً بكل حال وإن لم ينو الطهارة به؛ لأنا نحكم بصحة صلاته لا محالة، ولهذا فإنا لا نوجب عليه قضاءها ولا يحكم بفسقه ولا يباح قتله. ولو كانت صلاته غير صحيحة لكان بمنزلة من لم يصلِّ أو بمنزلة من صلى بغير طهارة، في مؤاخذته بهذه الأحكام، وهذا لا قائل به، فلما حكمنا بصحة صلاته دل على كون الماء مستعملاً بوضوئه وغسله، كغيره ممن يوجب النية في الوضوء والغسل.
وثالثها: أنه يُنظر في حاله، فإن نوى به الطهارة كان مستعملاً؛ لأنه قد ارتفع به حدثه، وإن لم ينو به الطهارة لم يصر مستعملاً، كما لو توضأ به الشافعي من غير نية.
والمختار: على رأي القائلين بالاستعمال، أنه يصير مستعملاً، لأنه قد ارتفع به حدثه وأجزت صلاته، فأشبه وضوء غيره ممن يعتبر القُربة فيه بالنية، فأما من لا يرى خروج الماء بالوضوء والغسل عن الاستعمال وأنه باقٍ على التطهير لغيره كما قررناه من قبل، فلا كلام.
__________
(1) بمعنى تكرر المسح.

34 / 279
ع
En
A+
A-