---
القسم الثالث: في بيان المياه المستعملة
اعلم أن الماء المستعمل الذي وقع فيه التردد بين العلماء في كونه مطهراً أو غير مطهر، إنما يصير مستعملاً باعتبار معنيين.
المعنى الأول منهما: تأدية العبادة به، فرضاً كانت أو نفلاً، فما كان [من الماء] منفصلاً عن أعضاء المحدث في فرض الطهارة ونفلها، وما كان منفصلاً عن بدن المحدث في غسل الجنابة، فإنه يصير مستعملاً بما أوضحناه.
المعنى الثاني: ما أزيل به النجاسة، فهذا نحو الغُسالة الثالثة على رأي المؤيد بالله فإنها طاهرة، وقد صارت مستعملة في إزالة النجاسة بها، ونحو الغسالة الثانية والثالثة على رأي الشافعي فإنهما طاهرتان، وقد حصل لهما وصف الاستعمال بإزالة النجاسة بهما، فأما الغُسالة الأولى على رأي المؤيد بالله والشافعي فهي نجسة، فلا كلام عليها، وهكذا حال الغُسالة الثانية على رأي المؤيد بالله فإنها نجسة أيضاً، وإنما كلامنا فيما كان طاهراً من الماء وقد عرض [له] وصف الاستعمال. فمتى حصل هذان المعنيان صار الماء مستعملاً، وسيأتي تقريره، ومتى انتفيا جميعاً فليس مستعملاً، وإن حصل أحدهما دون الآخر فالماء مستعمل لا محالة. ومثال حصولهما جميعاً: هو أن المحدث لو كان على أعضائه نجاسة فطهرها من النجاسة، ثم لما كان عند الغسلة الثالثة نوى رفع الحدث فصار ما تساقط من الماء المستعمل يستعمل في رفع الحدث وإزالة النجاسة جميعاً.
ومثال ما انتفى عنه الأمران جميعاً، فالغُسالة الرابعة فإنها غير مستعملة في رفع حدث ولا إزالة نجس، فلا جرم لم يتعلق بها حكم الاستعمال، فما هذا حاله من الأمور يجوز فيه رفع الحدث وإزالة النجس؛ لأنه لم يتغير عن وصفه لا بعارض حسي ولا بعارض حكمي يزيل وصف التطهر به، فلهذا جاز التطهر [به] اتفاقاً. ومثال ما حصل به رفع الحدث دون إزالة النجس، الماء الذي تُؤَدَّى به العبادة من فرض أو نفل فإنه يكون مستعملاً لما حصل به من تأدية العبادة.

ومثال ما حصل به إزالة النجاسة، نحو الماء الذي تزال به النجاسة عن الثوب مثلاً، فإنه إنما كان مستعملاً بإزالة النجاسة لا غير وليس هناك حدث. وهل يصير الماء مستعملاً بالتبرد أم لا؟
والذي عليه أئمة العترة وهو قول الشافعي: أنه لا يصير مستعملاً. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: أن الماء يصير مستعملاً بالتبرد وأنكره الجصاص من أصحابه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، واختاره الفريقان أبوحنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه باق على أصل الطهارة لم يعرض ما يخرجه عن كونه مطهراً من شائب في عينه ولا حكمه، فوجب الحكم عليه بكونه طاهراً مطهراً كالماء الذي لم يخالطه شيء، ولأنه لم يعرض له إلا مباشرته للجسم من غير أن يتعلق به حكم شرعي فلا يكون مغيراً له كما اتصل بمجراه وممره.
فإذا عرفت حقيقة الماء المستعمل وما المراد به في ألسنة العلماء، فلنذكر مسائله المتعلقة بأحكامه.
مسألة: الماء المستعمل، هل يكون طاهراً أو نجساً أو موقوفاً في حاله؟ فيه ثلاثة مذاهب نفصلها:

المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هو الذي عليه أكثر أئمة العترة وهو المنصوص للشافعي والرواية المشهورة عن أبي حنيفة التي حكاها عنه محمد بن الحسن، وهو محكي عن مالك، ومحكي عن زيد بن علي )، والناصر، والمؤيد بالله، وأبي
__________
(1) أبو الحسين الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ٍ إمام الزيدية وعلمها. كان عالماً مجتهداً وعابداً زاهداً شجاعاً، خرج مجاهداً لرفع راية الحق، وإزالة سلطة الظلم والجبروت، فاستشهد عام 122هـ، وقيل: سنة121هـ، وعمره 42سنة، قال أخوه الباقر (محمد): والله لقد أوتي أخي علم الدنيا فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم. وقال الصادق (جعفر بن محمد): كان زيد أفقهنا وأقرأنا وأوصلنا للرحم. وقال أبو إسحاق السبيعي: لم أر مثل زيد أعلم ولا أفضل ولا أفصح في أهل البيت. وقال الشعبي: ما ولدت النساء أفضل من زيد ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبوحنيفة: ما رأيت أفقه من زيد ولا أعلم. وقال ابن عنبة: مناقبه أجل من أن تحصى، وفضله أكثر من أن يوصف. روى عن: أبيه، وأخيه الباقر، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وعبيدالله بن أبي رافع. وروى عنه: ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جعفر بن محمد (الصادق)، والزهري، والأعمش، وشعبة، وسعيد بن خثيم، وإسماعيل السدي، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وعبدالرحمن بن الحارث بن عياش، وأبو خالد الواسطي، وابن أبي الزناد، وعدة. بايعه خمسة عشر ألفاً، ثم تفرق عنه أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة وبضع عشرة وواصل الجهاد حتى رمي في جبينه وفاز بالشهادة فدفنه أصحابه في مجرى ماء، ولكن غلاماً دل جيش هشام عليه، فأخرجوه وصلبوه أربع سنين. أعانه أبوحنيفة عند خروجه من ماله وكان يفتي الناس بالخروج معه. له المجموعان: الحديثي والفقهي والأخير عليه شرح (الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير) للعلامة القاضي حسين بن أحمد السياغي وهو مطبوع في خمسة مجلدات. (مقدمة الأزهار تهذيب التهذيب).

طالب.
والحجة على ذلك: الظواهر القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11]. والماء المستعمل مندرج تحت هذه الظواهر فيجب القضاء بطهارته.
والحجة الثانية: الأخبار المروية كقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه أو لونه)). وقوله ً: (( الماء لا يجنب)). وقوله ً: (( الماء طهور )). فهذه الأخبار كلها دالة على كونه طاهراً، ويدل على ذلك: ما روي أن الصحابة (رضي اللّه عنهم) كانوا لا يحترزون عنه، فلو كان نجساً لكانوا يحترزون عنه كما يفعلون في سائر النجاسات.
المذهب الثاني: أنه نجس، وهذه هي الرواية الثانية عن أبي حنيفة التي رواها أبو يوسف واختارها مذهباً لنفسه، وهو الذي حصله السيد أبوالعباس لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه ))، فجمع بين الأمرين في النهي، فلما كان البول في الراكد ينجسه فهكذا الاغتسال ينجسه، ولهذا عطف أحدهما على الأخر لما كانا مستويين في تنجيس الماء جميعاً.
الحجة الثانية: أن الأمة مجمعة على إراقته في السفر والحضر وإضاعته، فلولا أنه نجس وإلا لما فعلوا ذلك فيه كسائر الأمواء النجسة كالأبوال والأمواء التي خالطتها النجاسات.
والحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه ماء أزيل به مانع من الصلاة كالحدث والنجس، فيجب أن ينتقل المنع إليه كالماء المتغير بالنجاسة، وهذه الأمور كلها دالة على تنجيسه.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة وفقهاء الأمة ويدل على طهارته حجتان:

الحجة الأولى: ما عُلِمَ من حال الصحابة (رضي اللّه عنهم) أنهم كانوا يبتدرون إلى غُسالة وضوء رسول اللّه ً فيغسلون بها وجوههم وأيديهم ويتمسحون بها ويستشفون بمخالطتها، فلو كانت نجساً(1) لما فعلوا ذلك، ولأنكر عليهم رسول اللّه ما فعلوه لما فيه من مخامرة النجاسة ومخالطتها.
الحجة الثانية: وهي أن الماء باق على أصل الطهارة بالظواهر الشرعية وليس ينجس إلا بما يلاقيه، والماء المستعمل لم يعرض له ما يوجب تنجيسه من المخالطة للنجاسات، فيجب القضاء بكونه طاهراً؛ ولأنه ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً فوجب أن يكون طاهراً كما لو غُسل به ثوب طاهر.
المذهب الثالث: الوقف في حاله، وهذا شيء حكاه أبو ثور ) عن الشافعي.
ومن توقف في مسألة فليس له مذهب فيها من جهة أن المذهب ليس إلا الاعتقاد أو الظن، ومن وقف فليس معتمده إلا تعارض الأدلة واستواؤها في حقه من غير ترجيح، فلهذا توقف فهو لا يفتقر إلى إيضاح مذهبه بالدلالة، إذ لا مذهب له كما قررناه، وغالب ظني أن توقف الشافعي في الماء المستعمل، إنما هو في كونه مطهراً لا في طهارته، ولهذا فإن تردده إنما هو في كونه مطهراً رافعاً للأحداث ومزيلاً للنجاسات في اختلاف أقواله كما سنحكيها، لا في كونه طاهراً فإنه لم يُحْكَ عنه تنجيسه، وظاهر توقفه مطلقاً، والأقرب أنه يجب حمله على ما قلناه.
مسألة: وإذا وجب الحكم بطهارته كما قلناه، فهل يكون مُطَهِّراً لغيره أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) يظهر أنه بنى العبارة على حذف الموصوف، وهو كلمة (ماء) أي: فلو كانت الغسالة ماء نجساً. إذ يستبعد أن يكون أراد (نجساً) بفتح الجيم؛ لأنها تطلق غالباً على النجس أصلا كالمشرك.
(2) إبراهيم بن خالد الكلبي، البغدادي، الإمام، الحافظ، المجتهد، يكنى بأبي عبدالله ولقبه أبو ثور. قال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها، توفي سنة 240هـ.

المذهب الأول منهما: أنه طاهر مطهر، وهذا هو رأي المؤيد بالله أخيراً، ومحكي عن الحسن البصري والزهري ) والنخعي وداود، وهو مروي عن الإمامية، وحكى عيسى بن أبان )، عن الشافعي: أنه مطهر، ورواية عن مالك، ورواية عن أبي حنيفة.
والحجة [الأولى] على ذلك: ما روي عن النبي ً، (( أنه اغتسل من الجنابة فبقي في يديه لمعة فأخذ الماء الذي بقي في شعره فدلكها به))، وهذه هي صورة الماء المستعمل فإن أصل ذلك قد كان أدى به غُسل الجنابة ولا فائدة للمستعمل إلا ما ذكرناه، فما هذا حاله نص لا احتمال فيه.
الحجة الثانية: ما ذكرناه من قبل، أن الصحابة كانوا يبتدرون وضوء رسول اللّه ً، فيغسلون به وجوههم وأيديهم، فكما هو دال على طهارته كما أسلفنا تقريره، فهو دال على كونه مطهراً وهو مرادنا.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه أحد ما يشترط في تأدية الفروض فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض به كالثوب فإنه يُصلَّى به مراراً.
__________
(1) أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث القرشي، الزهري (نسبة إلى بني زهرة)، أحد فقهاء التابعين، رأى عشرة من الصحابة، وروى عنه: مالك، وابن عيينة، والثوري، وروى عن ابن عمر، وعبدالله بن جعفر، وأنس، وجابر، وأبي أمامة، والحسن وعبدالله ابني محمد بن الحنفية، وآخرين، وشنع عليه أبو حازم الأعرج وغيره لمخالطته هشام بن عبدالملك، ويقال: إنه كان على حراسة خشبة زيد بن علي. ضعفه الإمام المؤيد بالله، واحتج به أكثر الأئمة لتبحره في السنة، وحفظه. توفي لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة 124هـ. (مقدمة الأزهار).
(2) عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى. صحب محمد بن الحسن الشيباني وتفقه عليه، تولى القضاء بالبصرة حتى مات سنة 221هـ. له رسائل كثيرة واحتجاج لمذهب أبي حنيفة. (تاريخ بغداد ج10/175).

المذهب الثاني: أنه غير مُطّهّر لغيره، وهذا هو رأي أكثر العترة، الهادي والناصر والمنصور بالله، وهو محكي في رواية عن أبي حنيفة، ورواية عن مالك، والمشهور عن الشافعي، وبه قال الليث ) وأحمد بن حنبل والأوزاعي.
__________
(1) أبو الحارث الليث بن سعد بن عبدالرحمن المصري، الفهمي (نسبة إلى بطن من بيت قيس غيلان، سكن قرية أسمها فهم في مصر). وقيل: أصله من الفرس من أصبهان. روى عن: عطاء، ونافع، وابن الزبير، وآخرين، نقل عن الشافعي قوله: كان الليث أفقه من مالك، ولكن ضيَّعه أصحابه. وعن ابن بكير: كان فقيهاً، عربي اللسان، يحسن القرآن، والنحو، والشعر، والحديث، وقال ابن سعد في (الطبقات): ولد سنة 94هـ، وكان ثقة، كثير الحديث، صحيحه، واشتغل بالفتوى في مصر، توفي سنة 6 أو 177هـ. عن إحدى وثمانين سنة، وقيل: سنة 175هـ على ما في التهذيب. ودفن بمصر وعلى قبره قبة بالقرب من قبر الإمام الشافعي. (تهذيب التهذيب، مقدمة الأزهار، طبقات ابن سعد).

والحجة [الأولى] على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا يتوضأ أحدكم بفضل وضوء المرأة ))(1). وقد تقرر أنه لم يرد مانع في الإناء؛ لأن ذلك مطهر بالإجماع وليس مستعملاً، وإنما يكون مستعملاً إذا تساقط من أعضاء الوضوء، وقد نُهي عنه، فدل ذلك على أنه غير مطهر. وفي حديث آخر: (( لايتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ، ولا المرأة بفضل وضوء الرجل))(2). وكل ذلك دال على المنع من التطهر والوضوء بالماء المستعمل في قُربة من فرض أونفل.
الحجة الثانية: هو أن المعلوم من عادة الصحابة رضي اللّه عنهم والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، [أنهم] كانوا يسافرون ويعدمون الماء فيعدلون إلى التيمم بعد عدمه، وما روي عن أحد منهم أنه توضأ بالماء المستعمل، فلو كان جائزاً لفُعل على قِلة الأمواء وضيقها في الأسفار.
__________
(1) روي عن الحكم بن عمرو، أن النبي ً: نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. أخرجه أبو داود، والترمذي، وهو مروي عن أبي هريرة. أورده في البحر وقال: وزاد مسدد (وليغترفا جميعاً).
(2) أفاد في البحر: بأن راوي هذا الحديث ضعيف، وأسنده إلى مجهول وأنه معارض بحديث عائشة (كنت أغتسل أنا ورسول اللّه من إناء بيني وبينه واحد) إلخ. ا.هـ. ويؤيد الأول ما روي بأن النبي ً، نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. وقد أشار المؤلف إلى ضعف الحديث. وراويه حُميد الحميري قال: لقيت رجلا صحب رسول اللّه أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، قال: نهى رسول الله ... الخبر. ا.هـ.

الحجة الثالثة: ما روي عن عمر أنه كان له مولى يقال له: أسلم ) كان يأكل الصدقة، فقال له عمر: تأكل غُسالة أوساخ الناس؟ أرأيت لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه؟ فكرَّه شربه، فلو كان استعماله جائزاً لما كره شربه، فهذا تقرير كلام الفريقين كما ترى.
والمختار: القول بطهارته كما مر تقريره، فأما من قال بنجاسته فقد أبعد في نظره، ومن ادعى إجماعاً في طهارته لم يكن مجازفاً، فإنا نعلم من عادة السلف والخلف من الصدر الأول إلى يومنا هذا، عدم تحرزهم عن الأمواء المستعملة وهم يباشرونها مباشرة الأشياء الطاهرة وهم لا يخالفوننا في جواز شربه واستعماله في غير التطهر، ولو كان نجساً لما جاز ذلك فيه، كما لا يجوز في الأشياء المتنجسة من الأبوال والأرواث وغيرها.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روى أبو هريرة: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه)).
قلنا: جوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا فيما سبق أن الاستدلال بهذه الطريقة تضعف من جهة أنها تعويل على الاقتران من غير علة جامعة بينهما، فلا يقبل ما هذا حاله، وهي طريقة لأصحاب أبي حنيفة؛ لأنهم عولوا فيها على أن البول لما كان منجساً للماء فهكذا الاستعمال لما كان معطوفاً عليه؛ لأن من حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه، ولهذا استحال عطف الشيء على نفسه، فإذا كان من حقهما التغاير فكيف يقال إن من حقهما الاستواء في الحكم!.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على كون الماء قليلاً قد تغير بمخالطة البول فلا يجوز الاغتسال به ولا فيه؛ لأجل نجاسته بالبول لا من أجل كونه مستعملاً، فبطل ما توهموه.
__________
(1) أسلم العدوي (مولاهم)، أبو خالد، ويقال: أبو زيد. قيل: إنه حبشي، وقيل: من سبي عين التمر، مولى عمر بن الخطاب، ابتاعه سنة 11هـ، روى عن: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، توفي سنة 70هـ، وقيل: سنة 80هـ. (تهذيب التهذيب).

قالوا: الأمة مجمعة على تضييعه في السفر والحضر وإراقته، وفي هذا دلالة على كونه نجساً.
قلنا: [هذا القول] فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه من دعوى الإجماع فإنما هو إجماع مرسل لا يُدرى بقصد الأمة فيه، فإنهم لم يصرحوا بمرادهم فيه، وما هذا حاله من الإجماعات فإنه لا حجة فيه.
وأما ثانياً: فهب أنهم أراقوه فلم يريقوه من أجل كونه نجساً، فما دليلكم على نجاسته؟ وليس الكلام إلا في نجاسته.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: لعلهم أراقوه من أجل استغنائهم بغيره، أو من أجل كراهتهم واستقذارهم منه، فمطلق الإراقة له لا يكون حجة على تنجيسه.
قالوا: هو ماء أزيل به مانع من الصلاة، وهو الحدث والنجاسة، فانتقل المنع إليه كالماء المتنجس.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن هذا القياس باطل بالفرق، لأنا نقول: المعنى في الأصل أن الماء تغير بالنجاسة، والمستعمل لم يكن متغيراً بالاستعمال، فما هذا حاله من الفرق يبطل فيه الجمع ويلحق الجامع بالفساد والبطلان من جهة كون الفرق مخيلاً والجامع أمر شبهي.
وأما ثانياً: فلأن هذا القياس معارض بمثله، فإنا نقول: شيء يؤدى به الفرض فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض، كالثوب يُصَلَّى فيه مراراً فبطل ما توهموه، فإذاً تقرر كونه طاهراً بما أوردنا من الأدلة وبإبطال ما جعلوه حجة لهم على نجاسته.
والمختار أيضا: كونه مطهراً كما قاله المؤيد بالله كما سبق تقريره من الأدلة ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: أنا نقول: إنه ماء طاهر لم يَشِبْه شيء من النجاسات ولا ما يخرجه عن كونه ماء، فجاز التطهر به كالماء القراح.
فقولنا: ماء. نحترز به عن الخَلِّ واللبن [ونحوهما] فإنها غير مطهرة كما مر بيانه.
وقولنا: لم يشبه شيء من النجاسات. نحترز به عما غيَّر أحد أوصافه أو كلها فإنه لا يجوز التطهر به.
وقولنا: ولا ما يُخرجه عن كونه ماء، نحترز به عما خالطه شيء من المائعات الطاهرة فأزال عنه اسم الماء.

33 / 279
ع
En
A+
A-