القول الثاني: وهو الذي يأتي على رأي أهل القُلتين، الناصر، والشافعي، وهو: أنه يُنْظَرُ في حاله، فإن كان الذي عن يمينها وشمالها ويجري فوقها يأتي قُلتين، فهو طاهر؛ لأنه صار مقداراً للكثرة، وإن كان دونهما فهو نجس لكونه قليلاً ولا يجوز التطهر به بعد انفصاله إلا أن يركد ويصير قلتين فما فوقهما، وهذا هو المشهور عن الشافعي، وقد روي عنه قول آخر أنه يكون طاهراً إذا كان غير متغير من غير اعتباره بالقلتين.
القول الثالث: أن الجرية وما فوق النجاسة وما تحتها وما عن يمينها وشمالها يكون طاهراً من غير حاجة إلى اعتباره بالقُلتين، وهذا هو المحكي عن الإمام المنصور بالله، وهو أحد أقوال الشافعي من جهة: أن الجرية لها حكم يخالف الركود فلأجل ذلك لم تقو النجاسة على تنجيس الماء من غير تغير.
الوجه الثاني: أن تكون النجاسة واقفة غير جارية بجرية الماء، فالماء الذي قبلها يكون طاهراً، والماء الذي بعدها [يكون] طاهراً إذا لم يتصل بها ويجاورها، فأما الجرية التي تكون فوق النجاسة ومن تحتها فإنه يُنظر فيها، فإن كانت متغيرة فهي نجسة، وإن كانت غير متغيرة فالأقوال الثلاثة التي حكيناها في الوجه الأول حاصلة هاهنا، فمن اعتبر الكثرة قال: هو نجس إلا أن يكون كثيراً، ومن اعتبر القُلتين قال: هو نجس كله إلا أن يكون قلتين، ومن عول على الجرية في الطهارة قال بكونه طاهراً على أية حال كان، سواء كان قلتين أو أكثر كما حكيناه عن المنصور بالله.

الوجه الثالث: أن يكون هاهنا نهر جار فوسطه يجري على سنن جريته، وعن يمين الجرية وشمالها ماء راكد متصل بجرية الوسط، فوقعت في الراكد نجاسة فيُنظر فيه، فإن كان متغيراً بالنجاسة فهو نجس، وإن لم يتغير فيجب تخريجه على تلك الأقوال الثلاثة، فعلى قول الأكثر من أصحابنا أنه يُنْظَرُ فيما ركد، فإن كان قليلاً فهو نجس لملاصقته النجاسة ولا تنفعه الجرية المائلة عن سمته، وعلى قول أهل القلتين إن كان الراكد قلتين فهو طاهر وإلا فهو نجس. وأما على رأي الإمام المنصور بالله فإنه ينظر فيه، فإن دخل عليه الجاري وخرج منه فإنه يكون له حكم الجاري فلا ينجس إلا بالتغير لا غير، وإن كان بحيث لا يتصل به الجاري ولا يدخل عليه. فإنه ينظر فيه، فإن كان قلتين فهو طاهر وإن لم يجر، وإن كان دونهما فهو نجس.
فهذه الأوجه الثلاثة كلها حادثة على رأي من ينجس القليل من غير تغير.
فأما على رأي القاسم والذي اخترناه، فكل ما ذكرناه في هذه الأوجه في هذه الأمواء فإنها طاهرة مالم تكن متغيرة من غير اعتبار ضابط آخر على أي صفة كانت، ومن أجل تنجيس القليل من غير تغير وقع الاختلاف في هذه الصور كما أوضحناه، ومع اعتبار التغير لا يقع هناك اختلاف في الصور، وهذا يدلك على أنه معيار لا تنثلم له حافة ولا تشذ عنه صورة دون صورة، ويسترسل على جميع الصور ويحيط بكل الحالات.
مسألة: إذا حكم بنجاسة الماء لوقوع النجاسة فيه وأريد تطهيره جاز ذلك؛ لأنه كالثوب إذا وقعت فيه نجاسة فإنه يجوز تطهيره بالغَسل، وليس يخلو حاله عند ذلك من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: أن يكون الماء كثيراً، واعتبار كثرته إما أن يكون بحيث لا تكون النجاسة مستعملة باستعماله كما رأى بعض أئمة العترة، وإما بحيث لا يُستوعَب شرباً وتطهراً في مُطَّرد العادة ومجراها، وإما بأن يكون قلتين فما فوقهما على رأي من يعتبر الكثرة بالقلتين كما هو رأي الإمامين الناصر والمنصور بالله والشافعي، فإذا كان كثيراً بهذه الاعتبارات وتغير بوقوع النجاسة عليه وأريد تطهيره، فإنه يطهر بزوال تغيره؛ لأنه هو المؤثر في نجاسته، فإذا زال تغيره وجب الحكم بطهارته لأنه خلق طهوراً، وإنما عرض له عارض فبزوال ذلك العارض تعود له الطهارة، وذلك يكون: إما بطول الإقامة والمكث، وإما بهبوب الريح، وإما بطلوع الشمس عليه، وإما بأن يضاف إليه ما هو أعظم منه وأوسع في الكثرة فيزول تغيره به، وإما بأن يؤخذ بعضه فيكون أخذه سبباً في زوال تغيره، فما هذا حاله يعود طاهراً عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( خلق الماء طهوراً )). وفي حديث آخر: (( لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه )). فإذا كان التنجيس متعلقاً بالتغير فهو إذا زال بطل حكم النجاسة.
نعم.. إذا طُرِحَ فيه شيء فزال التغير لأجل طرحه، فإن كان المتغير هو الطعم فطرح فيه ماله طعم فغلب طعمه طعم النجاسة، أو كان المتغير هو اللون فطُرِحَ فيه ماله لون فغلب لونه لون الماء، أو كان المغير هو الريح فَطُرِح فيه ماله ريح فغلب ريحه ريح الماء، فما هذا حاله لا يحكم بطهارته(1) للماء عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه يجوز أن تكون صفة الماء المتغير بالنجاسة باقية، وإنما لم تظهر لغلبة ما طرح فيه، وتحقيق ذلك أن النجاسة متحققة الحصول في الماء، والشك حاصل في زوالها فلا وجه للحكم بزوالها بالشك.
__________
(1) أي بتطهيره.

وإن طُرح فيه تراب فأزال تغير الماء بالنجاسة، فهل يطهر أم لا؟ الأقرب على المذهب أنه غير مطهر(1)، وهو أحد قولي الشافعي الذي اختاره المحاملي ) لمذهبه.
والقول الثاني: أنه يطهر، حكاه الإسفرائيني من أصحابه.
والحجة للأوّل: هو أنه زال تغيره بوارد عليه غير مزيل للنجاسة، فأشبه ما لو طُرحَ فيه كافور أو مسك فزالت رائحته به.
والحجة للثاني: هو أنه قد زال التغير فأشبه ما لو زال بنفسه أو بماء.
والمختار: هو الأول، وهو ما ذكرناه من قبل، أن النجاسة متحققة والتراب لا يُعلَم حاله هل هو مزيل أو ساتر، فلا يجوز الحكم بطهارته مع الشك.
وإن طرح في الماء المتنجس غير التراب من الجوامد التي لا ريح لها ولا طعم ولا لون كالأحجار الصلبة فزال تغيره بها، فهل يطهر أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر وهو محكي عن الشيخ أبي حامد من أصحابه.
وحجته: أنه زال تغيره بغير مطهر فأشبه الزعفران وماء الورد.
وثانيهما: أنه يطهر؛ لأنه قد زال التغير بطارئ عليه فأشبه ما لو زال بالماء.
والمختار للمذهب: هو الثاني.
والحجة على ذلك: هو أن هذه الأحجار ليس لها طعم ولا ريح ولا لون، فإذا زال تغير الماء بها كان طاهراً كما لو زال بهبوب الريح وطلوع الشمس.
__________
(1) هكذا في الأصل. والصواب: أنه لا يطهر.
(2) أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي البغدادي، أحد أئمة الشافعية، درس الفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرائيني، وبرع في المذهب الشافعي، وله مصنفات كثيرة في الخلاف والمذهب، منها: (المقنع)، و(المجرد)، و(المجموع) و( رؤوس المسائل)، ولد سنة 368هـ، وتوفي في ربيع الآخر سنة 415هـ. (طبقات الشافعية).

الوجه الثاني: أن يكون على قدر مخصوص من الكثرة، بحيث لا يزيد عليها ولا ينقص منها على رأي أكثر العترة، أو يكون قلتين من غير زيادة عليهما فيكون كثيراً(1) ولا ناقص عنهما فيكون قليلاً، ومتى كان الأمر فيه على هذه الصفة فأُريد تطهيره فإنه يطهر بجميع ما ذكرناه، بهبوب الريح وجري الشمس، أو بأن يُزاد عليه من الماء ما هو أعظم منه ولا يخرج عن هذا إلا تطهيره بالنقصان عنه؛ لأنه متى نقص عن حد الكثرة كما يقوله أصحابنا، أو عن القلتين عند من يعتبرهما، كان نجساً، وتطهير الشيء النجس لا يكون بنقصان بعض أجزائه، وإنما يكون هذا إذا كان موصوفاً بالكثرة.
الوجه الثالث: أن يكون الماء ناقصاً عن حد الكثير، إما بأن يكون يغلب على الظن بأن النجاسة مستعملة باستعماله، أو بأن يكون ناقصاً عن القلتين عند من اعتبرهما في الكثرة، فإذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أوصافه أو بعضها وأريد تطهيره، فإذا كوثر الماء فَصُبَّ عليه حتى بلغ حد الكثرة، فهل يطهر أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يطهر، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه نجس لكونهما قليلاً بانفراد كون كل واحد منهما، فلا يطهران باجتماعهما، كالمتولد بين الكلب والخنزير، فإنه يكون حراماً مثلهما.
وثانيهما: أنه يطهر، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
__________
(1) في الأصل: فيكون قليلاً منها.

والحجة له على ذلك: هو أنها وقعت فيه نجاسة، وقد بلغ حد الكثرة بالقلتين من غير تغير فيه، فكان طاهراً كما لو وقعت فيه نجاسة وهو قلتان ولم تغيره فإنه يحكم بطهارته فهكذا هذا. قالوا: وهكذا لو كان هاهنا قلتان منفردتان في كل واحدة منهما نجاسة قد غيرتها، فخلطا جميعاً فزال التغير بالخلط حكم بطهارتهما، وقالوا أيضا: إذا كان هاهنا قلتان فوقعت في كل واحدة منهما نجاسة على انفراد كانت نجسة، فإذا اجتمعتا صارتا طاهرتين، فإذا تفرقتا كانتا على أصل الطهارة، وإن طرأ عليهما نجاسة بعد افتراقهما تنجستا لا محالة.
والمختار: أن هذه التفاصيل التي قررناها إنما تليق على رأي من أثبت نجاسة القليل من غير تغير، فأما على ما أَصَّلنا من أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فجميع هذه الصور كلها طاهرة سواء كان قليلاً أو كثيراً، أو كان قلتين أو زائداً عليهما أو ناقصاً عنهما فلا عبرة في طهارته ونجاسته بِطُرُوِّ النجاسة عليه إلا بتغيره لا غير.
نعم.. إذا كان لا بد من إثبات القليل من الماء يكون نجساً وإن لم يتغير، فحصره بالقلتين أولى من حصره بغيرهما(1) تفريعاً على قول أهل القليل؛ لأن القلتين قد دل الشرع على كونهما وما فوقهما معياراً للكثير من الماء، ودل على أن ما دونهما فهو معيار للقليل، فلهذا كان القلتان فما فوقهما لا ينجسان بوقوع النجاسة فيهما إذا لم تتغيرا وكان ما دون القلتين قليلاً فينجس بوقوع النجاسة وإن لم يتغير، بخلاف غيرهما من الضوابط للكثرة والقلة، فإنما تقررت بالمقاييس والظنون والأمارات وذلك يكون من جهة القياس، ولا شك أن منصب الشارع أعلى من منصب القائس؛ لأن عصمة الشارع معلومة مقطوع عليها، بخلاف القائس فإنما يصدر قياسه عن ظنون وأمارات خيالية، فلهذا كان القلتان أحق من جهة التقدير لو قلنا به. والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: لغيره، ورأينا الصواب: بغيرهما، إشارة إلى حصر القليل بالقلتين.

مسألة: وإذا وقع في الماء نجاسة ولم تغيره ووقع الشك في الماء، هل هو قليل أو كثير، أو قلتان أو أقل منهما على رأي من قال بهما، حكم بنجاسته على رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، من جهة أن الأصل فيه القِلة، والكثرة عارضة. فلهذا كان التعويل على كونه قليلاً فينجس.
وإن تحقق كون الماء كثيراً، أو قلتان فما فوقهما، ثم أُخِذَ [منه] مقدار فوقع الشك في كونه قليلاً أو كثيراً، ثم وقعت فيه نجاسة لم تغيره، كان طاهراً من جهة أن الأصل هو الكثرة؛ لأنها هي المتحققة من قبل، والشك إنما وقع في القِلة فلهذا حكمنا بطهارته.
وإن كان الماء كثيراً فنقص منه مقدار قربة أو غرب(1)، أو كان قلتين فنقص منهما مقدار كوز ثم أكمل بماء الورد ثم وقعت فيه نجاسة، كان الماء كله نجساً، وإن لم يتغير، من جهة أنه نقص عن مقدار ما تحمل النجاسة وهو الكثرة، وإن أكمل بماء قد تغير بالزعفران ثم وقعت نجاسة فيه، فإن الماء يكون طاهراً.
والتفرقة بينهما هو: أن ماء الورد عرق وليس بماء بخلاف ما تغير بالزعفران فإنه ماء كان مطهراً، فإذا أكمل بماء الورد فقد أكمل بغير الماء، وإذا أكمل بماء الزعفران فقد أُكْمِلَ بالماء فإذا زال تغيره بالخلط صار طاهراً مطهراً فافترقا.
وإن صَبَّ على القليل من الماء أو على ما دون القلتين خمراً أو بولاً، حكم بنجاسة الماء وإن لم يتغير، وهكذا إذا صَبَّ على القليل ماءً نجساً حكم بنجاسة الماء أيضاً، وإن صب ما حكم بقلته من الماء أو كان دون القلتين على الخمر والبول فاستهلك الخمر والبول بالماء، فهل يحكم بطهارة الماء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه ماء قليل خالطته النجاسة فيجب القضاء بنجاسته كماء لو ورد عليه البول والخمر.
__________
(1) المراد بالغرب هنا، القربة الكبيرة.

وثانيهما: أنه يكون طاهراً، وهذا هو المحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فنهى عن إيراد اليد النجسة على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، فدل ذلك على أن إيراد الماء على النجاسة يستهلكها فلهذا طهرهاً بخلاف ما إذا أوردت عليه فإنها تكون مستهلكة له.
والمختار: هو الأول على رأي أهل القليل؛ لأنه إذا كان قليلاً فإنه يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، فلهذا كان نجساً كما لو كانت النجاسة واردة على الماء، فهذه التفاصيل إنما تليق بمن قال بالتقدير في قليل الماء وكثيره كما فصلناه من تلك الضوابط لهم، فأما من جعل الضابط هو التغير فلا يفتقر إلى هذه التفاصيل وإنما معياره هو التغير لا غير، سواء كان الماء جارياً أو راكداً، فالتغير هو المعيار الذي لا يختلف حاله، وإنما وقع الاضطراب في هذه المسائل التي ذكرناها من أجل الضبط بالقليل والكثير بالقلتين وبغيرهما، فأما ضابط التغير فإنه لا اختلاف فيه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه، فأما ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه)). الحديث، فقد احتج به الشافعي على أن الماء إذا أُوْرِدَ على النجاسة طهّرها بخلاف ما إذا وردت عليه، وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه إنما قال: (( فلا يُدخلها الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)) ليس من أجل التفرقة بين أن ترد النجاسة على الماء أو يكون وارداً عليها، ولكن الغرض هو التنزيه، وإدخالها الإناء يناقض التنزيه ويبطله فلهذا أمر بإيراد الماء عليها من أجل ذلك.

وأما ثانياً: فلأنه لا يُؤمن أن تكون في يده نجاسة تفسد الماء، فلا جرم أمر بإيراد الماء عليها، ولأن الماء إذا ورد عليها كانت الغسالات منفصلة عن الماء بخلاف مالو كانت اليد واردة على الماء، فإنها تكون متصلة به، فحصل من هذا أنه لم يأمر بإيراد الماء على النجاسة من جهة التفرقة، فهما سيان في التنجيس على رأي من يفسد الماء بالقليل من النجاسة وإن لم تغيره.
وقد احتج بالخبر من زعم أن الماء القليل ينجس من غير تغير؛ لأنه لولا أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة لما نهى عن إدخالها الإناء من غير غسل، لأنه إذا كان إدخالها الأناء لا ينجس الماء فلا فائدة في نهيه عن إدخالها الإناء، وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فليس في ظاهر الحديث ما يدل على أن في اليد نجاسة، وإنما ورد التعبد في المنع من إدخالها الإناء وإن كانت طاهرة، وليس وارداً على جهة المنع وإنما ورد على جهة التنزيه والاستحباب، ولهذا قال ابن عباس لما روى أبو هريرة هذا الحديث: فما نصنع بمهراسنا؟ يشير إلى أنه ليس وارداً عل جهة الحظر وإنما مقصوده التنزيه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: لعل النجاسة التي توهم اتصالها باليد كانت تغير الماء وتنجسه بالتغيير له، وكلامنا إنما هو في نجاسةٍ لا تُغَيِّر الماء، فلا جرم لم تكن منجسة له. والنزاع إنما وقع فيما كان من النجاسات غير مغير للماء هل تنجسه أم لا؟ فأما ما كان مغيراً له، فهو منجس له لا محالة فافترقا.
مسألة: إذا وقع في الماء القليل نجاسة لا يدركها الطرف أو في الثوب، فقد حكي عن أصحاب الشافعي فيه طرق خمس:
الأولى منها: أنه يعفى عنها؛ لأنه يتعذر الاحتراز مما هذا حاله فلهذا عفي عنه.
الثانية: أنه لا يعفى عن شيء منها من جهة أنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف.
الثالثة: أن فيها قولين:
أحدهما: أنه يعفى عنها.
وثانيهما: أنه لا يعفى، ووجههما ما ذكرنا من قبل.

الرابعة: التفرقة بين الماء والثوب، فيعفى عن الثوب ولا يعفى عن الماء.
ووجه التفرقة بينهما: هو أن الثوب أخف حكماً في النجاسة ولهذا فإنه يعفى عن قليل الدم والقيح فيه، بخلاف الماء فافترقا.
الخامسة: أنه يعفى عن الماء ولا يعفى عن الثوب.
ووجه التفرقة بينهما: هو أن الماء يزيل النجاسة عن غيره، فلهذا دفع النجاسة عن نفسه بخلاف الثوب فافترقا.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من العفو عن ذلك، وهو أول هذه الطرق.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. فلو أوجبنا تنجيس الماء لكان في ذلك أعظم حرج، وأي حرج أعظم من المعاملة بنجاسة ما لا تُعْلَمْ نجاسته ويعلمها اللّه تعالى، والتكليف فيما هذه حاله، بما يدرك بالحس ويعلم بالإدراك. وقوله ً: (( بعثت بالحنيفية السمحة ))(1). ولا مسامحة فيما هذا حاله، إنما السموحة في إسقاط نجاسته والعفو عنها كما قلناه.
ومن جهة القياس، وهو أن ما هذه صفته فإنه يلحق بما لا نفع فيه؛ لأنه في الحكم كأنه غير واقع من جهة أنه غير مُدرَك ولا مرئي، فهذا ما أردنا ذكره في الأمواء النجسة وما تحتمله من المسائل، والله الموفق.
ا
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، ونسبه صاحب موسوعة أطراف الحديث إلى الحاوي للسيوطي وتفسيري القرطبي وابن كثير وغيرهما.

32 / 279
ع
En
A+
A-