والمختار: ما قررناه آنفاً، من أن التعويل في نجاسة الماء وطهارته، إنما هو على تَغَيُّرِ أحد أوصافه بالنجاسة، أو كلها، فأما مالم تتغير أوصافه فهو باق على أصل الطهارة كما تشير إليه الظواهر الشرعية.
وتأييد هذا الاختيار إنما يكون بتقريره بالحجة وإيراد الاعتراض على ما يخالفه، فهذان مسلكان:
المسلك الأول: في تقريره بالحجة، وقد أوضحنا فيما سبق أن التعويل في ذلك إنما هو على التغير بالنجاسة من غير أمر وراءه، وهذا هو الضابط الشرعي الذي يسترسل على جميع الصور، وهو الذي تشير إليه الظواهر الشرعية من الكتاب والسنة التي حكيناها، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا حاجة بنا إلى ضبط القليل والكثير من الأمواء؛ لأنهما إنما يرادان من أجل معرفة النجس والطاهر من الأمواء، وهذا يمكن معرفته وإدراكه بالأمارة التي ذكرناها، وهي التغير المشار إليه من جهة صاحب الشريعة، فلا حاجة بنا إلى تكلف غيره لضبط قليل الماء من كثيره، إذ لا ثمرة هناك مع ما ذكرناه من أمارة التغير، فلا جرم اكتفينا به وكان المعول عليه، ويؤيد ما ذكرناه أن جميع ما عولوا عليه في هذه الضوابط التي ذكروها بين قليل الماء وكثيره ما خلا القلتين، إنما عولوا على عادات عرفية وأمور استنباطية وأقيسة خيالية، والباب باب تعبد، والأمور التعبدية تنسد فيها طرق القياس وتضيق مسالكه وإنما تحكم فيه الأمور النقلية والظواهر السمعية من جهة اشتماله على أسرار غيبية استأثر اللّه بها، كما أشرنا إليه في طهارة الحدث والنجس فأغنى عن الإعادة.
المسلك الثاني: في إبطال ما اعتمدوه في تقريره فنقول:
أما الكلام على أهل القُلَّتين فقد اعتمد السيد أبوطالب في إفساده على وجوه كثيرة، وحاصل ما قاله من جهة الرد والمعارضة والتأويل، فهذه مقامات ثلاثة نذكر ما يتوجه فيها:
المقام الأول: في الرد، وذلك حاصل من وجهين:
أحدهما: من جهة الاضطراب في سنده، فإن بعضهم يقول: إنه مروي عن محمد بن عباد )، وبعضهم يرويه عن محمد بن جعفر بن الزبير )، ومنهم من قال: عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، وبعضهم يقول: عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر )، وهذا الاضطراب في سنده يدل على ضعفه وترجيح غيره عليه في هذا الوجه.
وثانيهما: من جهة متنه، فإنه يروى (( إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث)) وفي بعض الروايات: (( إذا كان الماء قلة أو قلتين)). وفي بعضها: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً)). وفي بعضها: (( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس)). فانظر إلى وقوع هذا الاختلاف في متنه باختلاف ألفاظه وعباراته، وكل ما ذكرناه مما يطرق إليه الضعف ويكون غيره راجحاً عليه إذا كان سالماً عما ورد على هذا، فلهذا لم يكن معتمداً.
المقام الثاني: من جهة المعارضة، وذلك من أوجه ثلاثة:
__________
(1) لعله: محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبدالله بن عباد القاضي أبو عاصم العبادي الهروي، قال في طبقات الشافعية الكبرى: أحد أعيان الأصحاب.. صنف كتاب (المبسوط) وكتاب (الهادي) وكتاب (المياه) وكتاب (الأطعمة) وكتاب (الزيادات، وزيادات الزيادات) و(طبقات الفقهاء). كان إماماً مثبتاً مناظراً دقيق النظر، مات في شوال سنة 458هـ. ا.هـ ملخصاً ج1/2 ص237.
(2) محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي، روى عن عميه عبدالله وعروة. وعنه: ابن إسحاق وابن جريج وغيرهما. كان من فقهاء المدينة وقرائها، وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة. (تهذيب التهذيب 9/81).
(3) عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي، المدني، العدوي، أبو بكر، أخو عبدالله، وسالم، وزيد، وحمزة، سمع أباه عبدالله بن عمر، ونافع، وعنه: الزهري. قال ابن سعد: قليل الحديث، مات قبل أخيه سالم، حديثه في الحجازيين. (انظر طبقات الزيدية (خ) ج2/60).
أما أولاً: فما روى ابن عباس عن الرسول ً أنه قال: (( إن الماء لا يجنب)).
وأما ثانياً: فما رواه أبو سعيد الخدري: (( الماء طهور لا ينجسه شيء)).
وأما ثالثاً: فلأنه قد روي: (( إذا بلغ الماء أربعين قلة)) وروي: (( ثلاث قِلال)) إلى غير ذلك من الاختلافات، وهذه الأحاديث كلها معارضة لحديث القلتين، من جهة أن ما دون القلتين عندهم ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يكن متغيراً، وظاهر حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري يدلان على أن القليل لا ينجس إذا لم يكن متغيراً، وهكذا حديث الأربعين فإنه معارض لحديث القلتين من جهة المعنى، فقد حصل لك بما ذكرناه أن حديث القلتين غير سالم عن المعارضة بما أشرنا إليه وفي ذلك ضعفه وبطلانه.
المقام الثالث: في التأويل ويمكن تأويله على أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلعل المراد من قوله عليه السلام: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل خبثاً)). المراد به أنه يضعف عن حمل الخبث والنجاسة، وهذا موافق لما قلناه من ذلك؛ لأنه قليل فلهذا لم يقو على حملها.
وأما ثانياً: فلعل المراد بالقُلَّة: اسم لرأس الجبل وقامة الرجل، فإن القلة قد تطلق عليهما، وعلى هذا لا يمتنع أنه أراد إذا بلغ الماء قلة الجبل أو قامة الرجل، وعلى هذا يتباعد إليه [الاحتمال] لأن ما هذا حاله يكون كثيراً لا محالة؛ لأن المعتاد هو تقدير الماء بالقامات والأذرع أكثر من تقديره بالأرطال والأمناء لكثرته.
وأما ثالثاً: فلأن قُلة الشيء أعلاه، فيحتمل أن يكون مراده أعلى الشيء ورأسه، ومتى كان على هذه الصفة فهو كثير وإنما بناه عملاً على تثنية الأسماء المشتركة باعتبار لفظها مع اختلاف معناها، ولهذا فإنه يقال: قُرءانِ. للطهر والحيض جميعاً يكونان مرادَين به، كما يقال: قُرءان. لطُهْرين أو حيضين، فلا جرم قال: قلتين. لأعلى الشيء ورأسه، وتثنية الأسماء المشتركة باعتبار لفظها دون معناها يضعف، لكنه يحتمل أن يؤول عليه الحديث هاهنا، فهذا تقرير كلام السيد أبي طالب على القائلين بالقلتين، مع تلخيص منا لكلامه و[تجاوز] تهذيب لم نذكره، والله الموفق للصواب.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الثاني في حد الكثير بما لا يُستوعَب في مجرى العادة شرباً وتطهراً والقليل بخلافه. فاعلم أنما قالوه يضعف لأمرين:
أما أولاً: فإن ردوه إلى عدد مقدر فهو تحكم لا مستند له ولا دلالة عليه، وإن ردوه إلى أمر مبهم فهو رد إلى عماية، فإن العادة فيما هذا حاله مختلفة في السفر والحضر فلا يعول على ما ذكروه.
وأما ثانياً: فإن الطرفين واضحان، فما يكفي مائة ألف يكون كثيراً لا محالة، وما يكفي الواحد والاثنين قليل بلا مرية، وما بين هذين الطرفين وسائط كثيرة ومراتب متفاوتة فلا يختص بعضها دون بعض إلا بدلالة ظاهرة وأمارة قوية، وما قالوه ليس يرشد إليها، فيحصل من مجموع ما ذكرناه أن ماعولوا عليه معيار مضطرب لا يُعَوَّلُ عليه في إثبات المميز بين قليل الماء وكثيره.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الثالث في حد الكثير بما لا يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، والقليل بخلافه، فاعلم أن ما قالوه وإن كان أَسَدَّ من الذي قبله وأدخل في الضبط والحصر وأكثر تأدية للمقصود، فإنه غير منفك عن نظر من وجهين:
أما أولاً: فلأن طهارة الماء ونجاسته صفتان تختصان بالماء فلا يجوز تعليقهما بظن المستعمل للماء، فأحدهما بمعزل عن الآخر، فلا يجوز أن يجعل ظن المستعمل للماء سبباً في المميز بين قليل الماء وكثيره؛ لمجانبته للغرض وميله عن المقصود.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه من الظن يختلف باختلاف الظانين، ولهذا فإن من الناس من ظن أن ما دون القلتين قليل والقلتان كثير، ومنهم من قال: إن القلتين في أنفسهما قليل وما فوقهما قد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً، فمراتب الظنون في مثل هذا مختلفة جداً فلا يجوز أن [تكونا] فاصلاً بين قليل الماء وكثيره.
ثم إنا نقول: ما تريدون بقولكم في القليل: إن النجاسة مستعملة باستعماله؟ (هل) تعنون به أنه قد تحقق وصول جرم النجاسة إليه؟ فهذا خطأ، فإنا نعلم قطعاً أن قطرة خمر أو قطرة بول وقعتا في قدر القلتين خمسمائة رطل فإنه قليل عندكم، ونحن نعلم قطعاً أن جرم النجاسة غير متصل به، وإن أردتم أن جرم النجاسة غير خال عما اُستُعمل من الماء فهذا حاصل في الماء الكثير كالبركة، فإنه لو بال فيها رجل فإنا نعلم أن أجزاء النجاسة فيها، ومع ذلك لم تمنعوا الوضوء منها مع تحققنا لوقوع النجاسة ومخالطتها لها، وإن أردتم معنى ثالثاً، فاذكروهُ حتى ننظر فيه بصحة أو فساد. فبطل ما توهموه.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الرابع في حد الكثير بما كان لا تضطرب جوانبه عند تحريك جانب منه والقليل بخلافه. فاعلم أن هذا أضعف مما قبله، وفساده يظهر من وجهين:
أما أولاً: فلأن ما قالوه مبني على التحريك والاضطراب والمصاكَّة لأجزاء الماء، وما هذا حاله فلا مناسبة له بكونه قليلاً أو كثيراً؛ إذ لا اختصاص للحركة بالتطهير والتنجيس والقِلَّة والكثرة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه راجع إلى قوة الاصطكاك وضعفه وامتداد الماء وقبضه، فكم من ماء يعظم قعره ويكون رأسه ضيقاً يضطرب كله عند الضرب وتتحرك أطرافه، ومع ذلك فإنه يعد في الكثرة والعظم، وكم من ماء قليل لا قعر له لسعة أطرافه إذا حُرك لم تصطك أطرافه، ومع ذلك فإنه معدود في القِلة، فَعُرِفَ بما ذكرناه أنه لا أثر لهذا الضابط ولا تعويل عليه في قِلة الماء وكثرته.
ثم إنا نقول لهم: هذا يختلف حاله باختلاف قوة الضارب، فإذا خف الضرب ضعف الاصطكاك مع كونه قليلاً، وإذا قوي الضرب عظم الاصطكاك وإن كان كثيراً فهذا لا يعول عليه، فحصل من مجموع ما ذكرناه ضعف هذه الضوابط كلها، وإذا كانت فاسدة كما قررناه وجب التعويل على ما أشرنا إليه من أنه لا قليل هناك نجس إلا ما كان متغيراً بالنجاسة، فأما من غير تغير فلا وجه للحكم بنجاسته كما أشار إليه القاسم.
والعجب من الإمام الناصر حيث حمل كلام القاسم على أنه وقع فيه نجاسة ولم يرها فليس عليه في ذلك شيء، وقال: إنه كان كثير الأخذ بالاحتياط فيما تعبد اللّه به عباده، وهذا لا وجه له، فإن المقصود بلوغ الغاية في الاجتهاد وتوفيته حقه فما أدى إليه فهو حق وصواب سواء كان في تحليل أو تحريم أو إباحة، ثم لا فرق بين أن يُبيح شيئاً مما حرمه اللّه أو يحرم شيئاً مما أباحه اللّه، أو يضيق مسلكاً فَسَّحَهُ اللّه علىعباده بالإباحة، أو يفسح مسلكاً ضيقه اللّه على عباده بالتحريم، فكلها مستوية في ذلك، ثم إن الماء مخصوص من بين سائر المائعات بالتطهير لغيره كما مر بيانه، ثم يختص بأنه لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه أو كلها سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهو مختص بالغلبة لكل شيء، فإذا وقع فيه شيء من النجاسات وكان غالباً لها لم يسلبه اسم الماء، فهو باق على الطهارة والتطهير لغيره، وهذه الخاصة لا تحصل في شيء من المائعات، ومن أجل هذا فإنه لو وقع في لبنٍ أو عسلٍ أو خلٍ أو غيرها من المائعات كثير قطرة بول أو خمر فإنها تنجس الماء(1) لما لم يكن لها غلبة على النجاسة مثل غلبة الماء لها، سواء كانت متغيرة بالقطرة أو غير متغيرة، ولم تكن مختصة بما اختص به الماء من الصقالة والرقة، فلهذا لم تقدر على حمل النجاسة كقدرته على حملها.
مسألة: في الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة.
اعلم أن جميع ما أسلفنا فيه الكلام إنما هو مختص بالماء الراكد، واعلم أن كل من قال من العلماء من أئمة العترة وغيرهم من علماء الأمة، بأن القليل من الماء لا ينجس إلا بالتغير، فإنه لا يفصل بين أن يكون الماء راكداً أو جارياً، ويَطَّرد هذا الحكم في جميع المياه راكدةً كانت أو جارية، وعلى هذا إذا وقعت ميتة في نهر جارٍ فإنه يُنظر، فإن تغير فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر مُطَهِّر. وينشأ من ذلك فروع ثلاثة:
__________
(1) في الأصل تنجس الماء. والصواب: المائعات.
الفرع الأول: إذا وقعت قطرة من خمر أو بول في قربة أو مشعل(1) أو جرة نظرت، فإذا كان متغيراً بها فهو نجس، وإن لم يتغير بها فهو طاهر؛ لأن الاعتماد في هذا المذهب على تغير الماء بوقوع النجاسة وعدم تغيره لا غير من غير أمر ورائه، وإليه تشير ظواهر الأحاديث كما قررناه من قبل.
الفرع الثاني: إذا كان الماء راكداً في حفير أو بركة أو غيرهما ثم وقعت فيه ميتة نظرت أيضاً، فإن كان متغيراً بها فهو نجس لأنه قد تغير بها، وإن كان غير متغير فهو طاهر كله من غير حاجة إلى مجاور أول ولا إلى مجاور ثانٍ كما قررناه فيما سبق، فاتصالها بالماء لا يكون له حكم في التنجيس إلا مع التغير.
الفرع الثالث: إذا وقعت ميتة في نهر جارٍ فإنه ينظر في حالها، فإن غيرت الماء فهو نجس كله ما انفصل منه وما لم ينفصل، وإن لم يكن متغيراً فهو طاهر كله، حافة النهر ووسطه، والجرية التي تمر على النجاسة طاهرة أيضاً إذا لم تكن متغيرة سواء كان الجاري قليلاً أو كثيراً. فهذه المسائل كلها متفرعة على رأي من يذهب إلى أن الماء لا ينجس إلا مع التغير وهو المختار، وقد قررناه بالأدلة فأغنى عن الإعادة والتكرير.
فأما القائلون بنجاسة الماء القليل وإن لم يكن متغيراً فقد اضطربت أنظارهم، فمنهم من قال: إن الجاري مخالف للراكد، ومنهم من قال: بأنهما مستويان. فهذان فريقان نذكر ما يختص كل فريق:
الفريق الأول: الذين ذهبوا إلى أن الجاري لا ينجس وإن كان قليلاً بخلاف مقالتهم في الراكد، وهذا هو المحكي عن الإمام المنصور بالله فإنه قال: إن الجرية تلحقه بالكثير في الحكم، وهو أحد قولي الشافعي الذي حكاه الخراساني عنه، وحكى عنه البغداديون من أصحابه قولاً آخر: أنه ينجس.
__________
(1) المشعل: المراد به الدلو. والمشعل بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة: شيء من جلود له أربع قوائم ينتبذ فيه. قال ذو الرمة:
أضعن مواقت الصلوات عمداً وحالفن المشاعل والجرارا
ا . هـ لسان.
والحجة على ذلك: هو أن الجاري يخالف في طبعه الراكد من جهة أن الراكد يتدافع بعضه على بعض من غير نفوذ بخلاف الجاري فإنه يدفع بعضه بعضاً من غير مرادَّةٍ، فالنجاسة إذا وقعت في الجاري اندفعت على حسب الجرية فلم يكن له حكم في البقاء بخلاف الراكد فإنه يرتد بعضه على بعض، فإذا وقعت فيه النجاسة كان حكمها أقوى في البقاء بخلاف الجاري فافترقا.
الفريق الثاني: وهم الذين ذهبوا إلى أن الجاري مثل الراكد في أن القليل منه ينجس، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والقول المشهور عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة التي دلت على تنجس القليل من الماء لم تُفَصِّل بين الجاري والراكد، فإذا وقعت النجاسة في الماء الجاري فكل على أصله في القِلَّة والكثرة فيُنظر في الماء، فإن كان متغيراً بوقوع النجاسة فيه فهو نجس بكل حال قليلاً كان أو كثيراً، وإن كان غير متغيرٍ، فعلى قول الناصر والمنصور بالله والشافعي: أن الذي يمر بالنجاسة من الماء إن كان قُلتين فما فوقهما فهو طاهر، وإن كان دون القُلتين فهو نجس. وعلى ما حكيناه عن الإمامين والأخوين(1) تحصيلاً للمذهب، أن الماء الذي يمر بالنجاسة إن كان يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله فهو قليل فينجس، وإن كان لايغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله فهو كثير فلا يكون نجساً، وهكذا القول في تلك الضوابط التي حكيناها في القليل والكثير، فما كان قليلاً فهو نجس وإن لم يتغير، وماكان كثيراً فهو طاهر إن لم يتغير كما مرَّ تفصيله.
والحجة على ماقالوه: قد اسلفناها.
__________
(1) الإمامان: الناصر والمنصور بالله، والأخوان: المؤيد بالله وأبو طالب.
والمختار: هو الحكم بطهارة الماء إذا لم يكن متغيراً سواء كان جارياً أو راكداً قليلاً كان أو كثيراً، بل هو في الجاري أحق من جهة أن الجرية تذهب بالنجاسة، بخلاف الراكد فإنه يرتد بعضه على بعض، والعذر لمن قال بتنجيس الماء القليل في الراكد أظهر منه في الجاري لما ذكرناه.
فأما على ما اخترناه فهما سيان، ويؤيد ذلك ما نعلم من حال السلف فإنهم مازالوا يستنجون من الأنهار القليلة من غير نكير، وفي هذا دلالة على أن الجاري يخالف الراكد وأنه لاينجس مع كونه قليلاً.
فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن الماء الجاري إذا وقعت فيه النجاسة يكون على أوجه ثلاثة، على رأي من يرى تنجيس الماء وإن لم يكن متغيراً:
الوجه الأول منها: أن تكون النجاسة جارية بِجُرِيّ الماء، فتكون معه لكونها خفيفة لاتثقل عليه كالمنبذ مثلاً، فالماء الذي [كان] قبل النجاسة يكون طاهراً لامحالة من جهة أن النجاسة غير واصلة إليه، فهو كالماء الذي يصب من إبريق على نجاسة، والماء الذي يكون بعدها طاهراً لأنها غير متصلة به، وأما مايختلط بالنجاسة من تحتها ومن فوقها وعن يمينها وعن شمالها، فإنه ينظر فيه فإن كانت الجرية متغيرة بالنجاسة فهو نجس بلا مرية، وإن كانت غير متغيرة، فهل تنجس أم لا؟ فيه أقوال ثلاثة:
فالقول الأول: يأتي على رأي الأكثر من أئمة العترة، وهو أنه يكون نجساً إلا أن يكون كثيراً، واعتبار كثرته باعتبار الأوجه التي قررناها لهم اعتماداً على أن الماء القليل ينجس وإن لم يكن متغيراً، قال المؤيد بالله: لو كان هاهنا ميتة كبيرة وقعت في نهر حتى سدت جانبيه وعُلِمَ أن جميع الماء يمر عليها ويجاورها، يجب تنجيسه(1) بخلاف ما إذا كان حال الجرية عظيماً ولم يتغير فإنه لا ينجس لأجل كثرته.
__________
(1) المراد: أنه يجب الحكم بنجاسته.