الحجة الثانية: من جهة السنة، وهو حديث ابن عباس (( الماء لا يجنب )). وحديث أبي سعيد الخدري حيث قال: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء )). فهذان الخبران دالان على أن الماء كله طاهر إلا ما خرج بدليل خاص في نجاسته بتغيره.
الحجة الثالثة: القياس، وهو أنه مالم يتغير بوقوع النجاسة عليه فيجب القضاء بتطهيره كالماء الكثير، ولأنه باق على أصله في التطهير لم يعرض له ما يغيره من لون أو طعم أو ريح فكان طاهراً كالماء الكثير، فهذا تمام تقرير أدلة الفريقين قد أوضحناها.
والمختار: الحكم بتطهيره كما أشار إليه القاسم وغيره من علماء الصحابة والتابعين، وإنما يتضح بتقويته بالدلالة وبالجواب، فهذان تقريران نفصلهما:
التقرير الأول: في إيراد البراهين الشرعية على طهارته، وجملتها حجج خمس:
الحجة الأولى: هو أن المعلوم من حال الصدر الأولى من عصر النبي ً إلى آخر عصر الصحابة رضي اللّه عنهم أنهم لم تنقل عنهم واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يحترزون عن النجاسات وتكثر ملابستهم لها، ولم يعلم تصونهم عن مداخلة هؤلاء ولا نقل احترازهم عنهم وانقباضهم عن تأدية(1) المياه ومعاناتهم لها في حملها ونقلها مع شدة الورع عن الوقوع في المناهي وبعدهم عن ما حرم اللّه، وبلوغهم في العبادة الغاية القصوى، وكل ذلك دال على اعتمادهم في تطهير الماء على عدم تغيره، فمهما كان على هذه الصفة فهو باق على أصله في التطهير، وهذه حجة يدين بها كل منصف.
__________
(1) جلْب.
الحجة الثانية: الحمامات، فإنها لم تزل في الأعصار الخالية والآماد المتمادية مستعملة في جميع الأمصار والأقاليم، يدخلها العلماء والأفاضل من غير نكير ولا مدافعة، ويتعاطاها الخاص والعام ويغمسون الأيدي في تلك الحياض الخارجة والداخلة مع قلة الماء فيها، ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها وهم ساكتون عن الكلام في نجاستها مكبون على استعمالها، وما ذاك إلا لما يعلمون من أن الماء لا ينجسه إلا ما غَيَّر أحد أوصافه، وأنه مخلوق على هذه الهيئة، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عندالله حسن ))(1). فاستعمالهم مع علمهم بحالها واشتمالها على ما ذكرناه من القلة وملابسة النجاسة، دلالة على ما ذكرناه.
الحجة الثالثة: ما عُلم من حال صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه)، أنه أصغى الإناء للهرة حتى شربت، وعدم تغطيتهم للآنية منها بعد أن تراها(2) تفترس الحيوانات من الفأرة وغيرها، والمعلوم من حالهم قطعاً أنهم ما كانوا يجعلون للسنانير(3) حياضاً على انفرادها ولا كانت تنزل الآبار للشرب، فإرسالهم إياها على ما في الآنية من الأمواء مع قلتها واستعمالهم لها بعد ولوغها فيها، فيه أمارة ظاهرة ودلالة قوية على أن الماء لم يكن نجساً بعد ولوغها فيه، وكل ذلك تعويل على عدم تغيره مع كونه قليلاً.
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه، وهو من الأحاديث المشهورة ومروي في كثير من كتب الحديث والفقه.
(2) الفعل مسند للمخاطب، كأنه قال: بعد ما هو معروف من حالها أنها...إلخ.
(3) جمع سَنُّور: وهي القطط.
الحجة الرابعة: ما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه توضأ بماء في جرة نصرانية مع العلم بقلة الماء، وملابسة النصرانية للنجاسة، وتعاطيها له في جميع أحوالها، وفي هذا دلالة على أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء، ولا شك أن نجاسة النصرانية تعلم بأدنى ظن قريب، فأعرض عما ذكرنا وعول على طهارة الماء بما يظهر من حاله من عدم تغيره، وكانت هذه هي الأمارة القوية في طهارته التي لا يعارضها معارض(1).
الحجة الخامسة: إذا وقع رطل من البول في ماء كثير، إما القلتان على رأي من قال بهما، وإما الكثير عند من أعرض عنهما، ثم أخذ من ذلك الماء في صحاف مختلفة، فكل واحدة منها ما فيها من الماء طاهر لا محالة باتفاق، فليت شعري أتعليل طهارته لعدم تغيره أولى، أو بقوة كثرة الماء مع أنا قد فرضنا انقطاع الكثرة بحصوله في صحاف كثيرة مع العلم بأن البول حاصل فيه لا محالة وإن خفي أمره؟ وفي هذا دلالة على أن التعويل إنما كان على عدم تغيره، فهذه الحجج كلها دالة على أن المراعى في طهارة الماء ونجاسته إنما هو على ما يظهر من حاله من التغير وعدمه، والله أعلم.
وممن قال بطهارة الماء القليل عند وقوع النجاسة عليه، الشيخ أبو حامد الغزالي فإنه اختاره مذهباً، وقال: كنت أود أن يكون مذهب الشافعي مثل مذهب مالك، يعني أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير من غير حاجة إلى تقدير الكثرة بالقلتين كما هو رأيه.
__________
(1) في الأصل: في طهارة التي.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه وهو التقرير الثاني في بيان الجواب عن ما أوردوه من الأدلة على نجاسته، وقد تمسكوا بما حكيناه عنهم من الظواهر، الآي القرآنية والأخبار المروية والأقيسة المستنبطة، وقد عارضناها بما تلوناه من الآيات ورويناه من الأخبار وقررناه من علل الأقيسة، وليس بعد الانتهاء إلى هذه الغاية إلا التصرف الأصولي، إما العمل على تساقطها لما كانت متعارضة، والعمل على دليل آخر، وإما ترجيح أدلتنا على أدلتهم، فهذان تصرفان:
التصرف الأول: وهو القول بالتساقط، فإذا حكمنا بتساقط الأدلة من الجانبين جميعاً وجب الرجوع إلى الأصل وهو طهارة الماء؛ لأنه هو الأصل، والحكم عليه بالنجاسة إنما يكون بعارض يعرض له كما رجعنا إلى البراءة الأصلية عند تعارض الأدلة الشرعية المعتبرة، وهكذا هاهنا يجب ما قلناه من الرجوع إلى طهارته، وهو مطلوبنا.
التصرف الثاني: وهو الترجيح لأدلتنا على أدلتهم، فنقول: ما أوردوه من الظواهر إنما سيقت لأغراض أُخَر غير ما نحن بصدده، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}[المائدة:90]. وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. وهكذا ما أوردوه من الأخبار مسوقة لمقاصد مخصوصة، فتناولها لهذا الماء يضعف من جهة كونها مسوقة لبيان غيره، بخلاف ما ذكرناه من الآيات والأخبار فإنها مسوقة لبيان غرض التطهير، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }[الأنفال:11]. وهكذا حال الأخبار التي رويناها فإنها مسوقة من أجل غرض التطهي لا لغرضٍ سواه، كقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً))، وقوله: (( الماء لا يجنب)). وقوله: (( الماء لا ينجس)). إلى غير ذلك من الأخبار المؤدية بالتصريح بالمقصود، فلهذا كان التعويل على ما كان صريحاً دون ما ليس صريحاً.
ثم نقول: الماء الجاري وإن كان قليلاً فإنه يخالف الراكد كما هو محكي عن المنصور بالله، وهو رأي الشافعي وأصحابه وغيرهم من جلة الفقهاء في أنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه مع قلته، فإذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير به فإنه يجوز التطهر به وإن كان قليلاً، فليت شعري أي فرق بين الراكد والجاري، وهل تكون الحوالة على عدم التغير أم على قوة الماء بسبب الجريان، ثم ما حد تلك القوة فإنها تكون مختلفة الأحوال في القوة والضعف؟ فالإحالة عليها يكون رداً إلى عماية وجهالة، فإذا كان التعويل فيما كان جارياً وإن ضعفت جريته على تغيره في التنجيس، فهكذا يكون في الراكد قليلاً كان أم كثيراً من غير تفرقة بينهما.
قولهم في القياس: إنه المردود إلى المتغير بجامع وقوع النجاسة فيه بأقيسة مختلفة في صورها.
قلنا: الجواب عن هذه الأقيسة وإن كانت مختلفة الصور بحرف واحد وهو الفرق بوصف مخيل، وهو أقوى ما يعترض به على الأقيسة في الإبطال، وهو أنا نقول: المعنى في الأصل أنه متغير وهذا غير حاصل فيما ذكرتموه من الماء القليل فإنه لم يتغير بوقوع النجاسة، وهذا الفرق يبطل الجمع الذي ذكرتموه ويُلحق القياس بالعدم والبطلان.
فأما ما يحكى عن الناصر من تأويل مذهب القاسم في طهارته فلا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم لم ينقلوا عنه إلا ما قاله ولو تطرق إليهم الوهم في هذه الحالة لتطرق إليهم الوهم في سائر ما ينقلونه في مذهبه كله، وأيضاً فإنهم وإن كانوا عجماً لا تخفى عليهم مقاصده ومراداته خاصة مع الممارسة الكثيرة وطول الإقامة معه.
وأما ثانياً: فإنما كان يجب تأويل كلامه إذا كان هناك مخالفة لنص قاطع وإجماع متواتر، أو غير ذلك من النصوص المقطوعة التي لا يمكن مخالفتها، فأما وللنظر في المسألة مسرح وللاجتهاد فيها مضطرب فلا وجه للتأويل، بل ينقل مذهبه على حد ما غلب على ظنه بعد توفية الاجتهاد حقه، فإذا كان قد نظر في المسألة وأمعن فكل ما أتى به فهو حق وصواب كما مر تقريره، وهكذا ما يحكى عن السيد الإمام أبي طالب من أن كلام القاسم لا يعول عليه وأن المأخوذ به ما قاله الهادي والناصر وسائر أصحابنا، فإن لكلٍ اجتهاده ولا ضير عليه في المخالفة، ولقد أود أن يكون مذهبهما مثل ما يحكى عن القاسم في أنه لا ينجس القليل إلا بالتغير، فضلاً عن أن يقال: إنه لا يعول على مقالته في ذلك.
قالوا: قد تعارض فيه الحظر والإباحة فوجب حظره.
قلنا: إنا لا نسلم التعارض، بل ما ذكرناه من الإباحة الشرعية أرجح لما مر بيانه، ثم إنا نقول: إذا تعارضا من غير ترجيح، وجب القضاء بالتساقط والعمل على ما هو الأصل من طهارة الماء، وفي ذلك حصول غرضنا.
مسألة: حكم الماء الكثير لا ينجس بملاقاة النجاسة إذا لم يتغير، وحكم الماء القليل أنه ينجس بملاقاتها وإن لم يكن متغيراً على رأي من قال به، فلا بد من بيان حد القليل والكثير ليُعرف هذان الحكمان اللذان يتعلقان به، فأما من لا يقول بالقليل فلا يفتقر إلى معرفة حد القليل والكثير، وإنما الضبط عنده في التنجس وعدمه، إنما هو بما أشار إليه الشرع من التغير قليلاً كان أم كثيراً كما اخترناه فيما مضى.
وقد اختلف العلماء في حد القليل والكثير من الماء ولهم في ذلك مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن ما كان من الماء قلتين فهو كثير وما كان دونهما فهو قليل، وهذا هو قول الإمامين الناصر والمنصور بالله وهو رأي الشافعي وأصحابه، ثم اختلف أصحاب الشافعي في حد القليل(1)، فمنهم من قال: هما خمسمائة مَنا(2) وهو يأتي ألف رطل بالبغدادي، وقال أبو عبدالله الزبيري ): هما ثلاثمائة مَنا وهما ستمائة رطل بالبغدادي، وهو محكي عن القفال )، واختاره المسعودي )، وقال أبو حامد:
__________
(1) هكذا في الأصل، والصواب: في حد القلتين.
(2) الضمير في (هما) عائد على القلتين. والمفرد منه (مَنَا) مقصوراً بفتح الميم، وهو الكيل أو الوزن كما جاء في اللسان، والجمع منه: أَمْنَاء..
(3) أبو عبدالله الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبدالله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام البصري، وقد سبقت ترجمته باسم (أبو عبدالله البصري)
(4) أبو بكر عبدالله بن أحمد بن عبدالله المروزي المعروف بالقفال؛ لأنه كان يصنع الأقفال في ابتداء أمره. قال ابن خلكان: كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً، وله عناية بالمذهب الشافعي، وله تصانيف نافعة. ا.هـ، صار إماماً يقتدى به في مذهب الشيخ أبي زيد الفاشاني المروزي، قيل عنه: لم يكن في زمان القفال أفقه منه. توفي بمرو في جمادى الآخرة سنة417هـ، وعمره تسعون سنة. من تصانيفه (شرح التلخيص) مجلدان، و(شرح الفروع)، وكتاب (الفتاوى). راجع (تهذيب التهذيب، الوفيات، طبقات الفقهاء).
(5) هو أبو عبدالله محمد بن عبد الملك بن المسعود بن أحمد المروزي المعروف بالمسعودي، وفي طبقات الشافعية الكبرى ج4/171: محمد بن عبدالله بن مسعود، ومثله في وفيات الأعيان، كان عالماً، فاضلاً، تفقه على القفال، وشرح (المختصر) توفي سنة نيف وعشرين وأربعمائة. وهو غير المسعودي صاحب كتاب الإبانة الذي كثيراً ما يشتبه به. والإبانة: كتاب في اللغة. راجع طبقات الشافعية لابن هداية اللّه الحسيني ص137.
وأكثر أصحاب الشافعي: هما خمسمائة رطل بالبغدادي وهو المنصوص. قال الشافعي: والاحتياط أن يجعل كل قلة قربتين ونصفاً، والقربة في الحجاز مقدار ما تسعه مائة رطل، فصار ذلك خمسمائة رطل وهل يكون ذلك تقريباً أو تحديداً؟ فيه لهم وجهان:
أحدهما: أنه تقريب، وعلى هذا لو نقص منهما رطل أو رطلان أو ثلاثة لم يضر ذلك.
وثانيهما: أنه تحديد، فلو نقص منهما نصف رطل تنجس بوقوع النجاسة فيه لكونه قليلاً، فإذا تقرر هذا، فإذا وقع في القلتين نجاسة لم تنجس إلا أن يتغير، وإن كان الماء دون القلتين تنجس بوقوع النجاسة وإن لم يتغير، فهذه هي فائدة التحديد بالقلتين وما دونهما.
والحجة على ذلك: ما رواه عمر رضي اللّه عنه عن النبي ً، أنه قال: (( إذا كان الماء قلتين بقلال هجر(1) لم يحمل خبثاً)). وفي حديث آخر: (( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ))(2). ومعنى قوله: لم يحمل خبثاً: أي أنه لا يقبله ولا يلتزمه بدليل الحديث الآخر.
__________
(1) قيل: هجر بفتحتين: مدينة بالبحرين، وقيل: قرية قرب المدينة (المنورة). معجم البلدان لياقوت.
(2) هذا الحديث مروي بعدة ألفاظ منها هاتان الروايتان. ويصفه بعض الرواة ورجال الحديث بالإضطراب في إسناده ومتنه رواه أحمد، والدارقطني، عن ابن عمر. والحاكم، وابن حبان، والدارمي، وغيرهم.
المذهب الثاني: أن حد الكثير من الماء هو الذي جرت العادة في مثله، أنه لا يُستوعَب شرباً وتطهراً، كالأنهار الجارية والبيار النابعة والبرك العظيمة، وحد القليل ما كان دونه وهو الذي يُستوعب في مجرى العادة شرباً وتطهراً، كالحفائر الضيقة والأنهار النزرة والعيون الراكدة، وهذا حكاه السيد الإمام أبوطالب والشيخ أبو جعفر ) من أصحابنا لمذهبهم كالقاسمية، ولم أعرفه قولاً لأحد من الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله من الأمواء إذا كان لا يُستغرق في مطرد العادة في الشرب والتطهر فإنه يوصف بكونه كثيراً، وإذا كان على خلاف ذلك فإنه يوصف بكونه قليلاً، وإنما جعلنا المعيار الضابط في القِلَّة والكثرة بما ذكرناه من اطراد العادة؛ لأن أكثر ما يحتاج الناس الماء في أغلب أحوالهم في الشرب والتطهر، لأنهما هما اللازمان في أكثر الحالات وأغلبها، وما عداهما فليس أمراً غالباً بل هو أمر نادر بالإضافة إليهما، فلهذا وجب ضبطه به.
المذهب الثالث: أن حد الكثير ما كان يغلب على الظن أن النجاسة غير مستعملة باستعماله. والقليل ما كان يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، وهذا هو الذي حكاه الكرخي عن أبي حنيفة، واختاره الأخوان الإمامان المؤيد بالله وأبوطالب للمذهب(2).
__________
(1) محمد بن يعقوب الهوسمي الزيدي، قال في تراجم الأزهار: أبو جعفر العلامة الفقيه، له تصانيف منها: (شرح الإبانة) أربعة مجلدات في مذهب الناصر، و(الكافي) مجلدان، وله: (كتاب الديانات) في علم الكلام، ولم أجد لأبي جعفر تاريخ وفاة. ا.هـ. ملخصاً من تراجم الأزهار.
(2) إذا أطلق المذهب، فالمراد به هنا، قواعد المذهب الزيدي في الفقه خاصة.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من معرفة حد القليل [وهو] تنجيسه وإن لم يتغير، والغرض من معرفة حد الكثير هو أن لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير، وإذا كان الأمر كما قررناه وجب أن يكون للنجاسة مدخل في معرفة حد القليل والكثير، فلأجل ذلك جعلناها أصلاً في معرفتهما لما لهما بها من الاتصال، وجعلنا الظن هو المعيار الفارق بين القليل والكثير في النجاسة؛ لأنه هو المعتمد في الأكثر والمعول عليه في التكاليف العملية في العبادات وغيرها، فإذا تقرر هذا فكل ما وقعت فيه نجاسة وغلب على ظن المستعمل له أنه مستعمل لها باستعماله، فهو قليل ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يكن متغيراً، وكلما وقعت به نجاسة وغلب على ظن من يلابسه ويستعمله أن النجاسة لا يستعملها عند استعماله، فهو كثير لا ينجس بملاقاتها، فلا جرم جعلنا غلب ظنه في الاستعمال وعدمه معياراً فارقاً بين قليل الماء وكثيره، هذا ملخص هذه المقالة وزبدتها وثمرة ما عولوا عليه فيها.
المذهب الرابع: حكاه أبو يوسف عن أبي حنيفة في التفرقة بين قليل الماء وكثيره، وحاصل ما قاله: هو أن الحوض والبركة إذا كانا بحيث إذا تحركت منه ناحية لم تضطرب الناحية الأخرى، فما هذا حاله يكون من الكثير فلا ينجس بوقوع النجاسة عليه، وإذا كان بحيث إذا تحرك منه جانب اضطرب الجانب الآخر فهو قليل متنجس إذا لاقته النجاسة.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله من الأمواء إذا كان قليلاً فإنه يضعف عن احتمال المصاكَّة فلهذا يضطرب كله لقلته، بخلاف ما إذا كان كثيراً فإنه إذا وقعت فيه المصاكة فإنه يحتملها، فلهذا لم يضطرب إلا ما قرب من الضرب دون ما بعد منه، فلأجل ذلك جُعِلَ المعيار الفارق بين قليله وكثيره هو الاضطراب والمُصَاكَّة التي حكيناها، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها بحسب الإمكان.