---
الفصل الأول: في بيان تقسيم الأمواء
وهي منقسمة إلى طاهرة، ونجسة، ومستعملة، فهذه أقسام ثلاثة:

---
القسم الأول: في بيان الأمواء الطاهرة
مسألة: كلما بقي على الخلقة من سماء أو نهر أو بئر أو برد أو ثلج أو بركة أو مستنقع للماء، فما لم تلاقه نجاسة أو تغلب عليه أو يكون مستعملاً في الطهارة، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، ولا يعلم خلاف في هذه الجملة.
أما ماء السماء فالحجة على طهارته: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11].
وأما ماء الأنهار فالحجة عليها: ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ً أنه قال: (( الماء طهور لا ينجسه شيء )) ولأنه ماء لم يشبه شائب فجاز التطهر به كماء السماء.
وأما ماء الأبار فالحجة فيه: ما روي عن النبي ً، أنه توضأ من بئر بضاعة.
وأما البَرَدُ والثلج. فالحجة فيه: ما روى أبو هريرة، قال: كان رسول اللّه ً. يقول في سكوته بين التكبير والقراءة: (( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بماء البَرَد والثلج )) (1). فلولا أنهما مطهران لما جاز الغسل بهما(2).
وأما البُرُك والمستنقعات وغيرهما من الأمواء الطاهرة؛ فالحجة على طهارتها: عموم الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، فأغنى عن إفرادهما بالذكر.
__________
(1) موضوعه الدعاء في الصلاة.
(2) ظاهر الدعاء الشريف أنه استخدم لفظي (البرد والثلج) للمجاز. وهذا قد ينأى بهما عن موضع الاستدلال على جواز التطهر بهما. ثم إنهما ماء تجمد، فأصلهما ماء ولا يمكن التطهر بأيهما إلا بعد أن يعود إلى الماء بتحوله إلى السيولة، من ثم فهما داخلان في حكم الماء وليسا بحاجة إلى حكم واستدلال خاصين بهما.

فأما البَرَدُ والثلج والماء إذا صار صروفاً جامداً، فإذا توضأ به متوضئ نظرت، فإن كانت جامدة على حالها لم يكن التوضؤ بها؛ لأنها يستحيل جريها على الأعضاء، فلا يكون فيها غسل، وإن مسح بها رأسه أجزأه في المسح من جهة أن المسح يكفي به إصابة البلل وهو حاصل فيها، وإن كانت ذائبة أو رخوة بحيث تكون جارية على الأعضاء، جاز التوضؤ بها؛ لأن المقصود من الغسل حاصل بها كالماء. وحكي عن الأوزاعي: جواز التوضؤ بماء البَرَدِ والثلج والجامد وهي على حالها في الجمود إذا أمرَّها على العضو المغسول، وما قاله فاسد بما قررناه، ولأنها جامدة صلبة فلا يجوز التوضؤ بها كالأحجار والخشب، وما قلناه في هذه القاعدة هو قول أئمة العترة والجماهير من الفقهاء لا يختلفون فيه.
مسألة: وهل يجوز التطهر بماء البحر أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجوز التطهر به، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الصدر الأول من الصحابة رضي اللّه عنهم ورأي الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه من الحديث الذي قدمنا ذكره، وهو قوله: (( هو الطهور ماؤه والحل ميتته)) لما سئل عنه، وما رواه أيضاً أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال: (( من لم يطهره البحر فلا طهره الله ))(1).
__________
(1) ذكره في موسوعة أطراف الحديث للدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى. ا.هـ. وحكاه في البحر عن الانتصار.

وثانيهما: ما روي عن عبدالله بن عمر )، وعبدالله بن عمرو بن العاص )، أنهما قالا في ماء البحر: التيمم أعجب إلينا منه. وحكي عن سعيد بن المسيب (3) أنه قال: إذا ألجئت إليه فتوضأ منه. وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: تحت بحركم هذا نار، وتحت النار بحر حتى عدد تسعة أبحر وتسعة أنور(4). وكلامهم هذا دال على
__________
(1) أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب، القرشي، العدوي، أسلم في مكة مع إسلام أبيه وهو ابن عشر، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وكان زاهداً، عابداً، يروى عنه أنه قال: ما ندمت على شيء مثل ندمي على قتال الفئة الباغية (مع الإمام علي)، مات بمكة سنة 73هـ وهو ابن 84 سنة. وهو من أشهر رواة الحديث ومن أصحاب الألوف. روى له الستة. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
(2) أبو محمد عبدالله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي، عالم، فقيه، أحد المكثرين. قيل: أسلم قبل أبيه. روى عن النبي ً وعن كثير من الصحابة. وتوفي عن 72 سنة (تراجم در السحابة 791. د. حسين العمري).
(3) أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر. قال في الطبقات: كان سيد التابعين من الطراز الأول، حدث عن علي عليه السلام وأبي ذر وسلمان، وروى عن أبي بكر مرسلاً، وعن عمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنت عميس، وغيرهم كثير. وعنه ابنه محمد وسالم بن عبدالله والزهري وآخرون. قال قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه، ولما بايع عبدالملك بن مروان لابنيه الوليد وسليمان أبى سعيد أن يبايع فضربه هشام المخزومي ثلاثين سوطاً وألبسه ثياباً من شعر وسجنه. توفي سنة 94هـ، وقد ناهز الثمانين. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب، الطبقات).
(4) الظاهر من السياق أن الكلام لعبدالله بن عمر، وفي المضمون ما يحتمل أن يكون رواه مرفوعاً.

كراهة استعماله للطهارة، وعلى أنه لا يجوز التطهر به إلا عند الضرورة.
والمختار: ما قاله أصحابنا، وهو الذي عليه الجلة من الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وتدل عليه الظواهر القرآنية والأخبار المروية في الأمواء، فإنها دالة بظواهرها على جواز استعماله في التطهر، فأما ما روي عن ابن عمر فإنه يحمل على أنه يصير يوم القيامة ناراً، ويصدقه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }[التكوير:6]. أراد: أُحْمِيَتْ، ومنه تسجير التنور إذا كانت محماة(1)، أو يحمل على أن البحر مهلكة كما أن النار مهلكة.
فإن قال قائل: فهل ينعقد الإجماع بعد هؤلاء الثلاثة على جواز التطهر بماء البحر فلا يجوز لأحد أن يذهب إلى قولهم، أو تكون المسألة خلافية فلا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم؟
جوابه: أن قوماً من الأصوليين زعموا أن الإجماع ينعقد بعدهم، وأنه لا يجوز العمل على قول من خالف بعد إجماع مَن بَعْدَه على خلاف قوله، وهذا فاسد، فإن الإجماع منعقد على جواز الأخذ بقول كل واحد ممن خالف في هذه المسألة، فلو انعقد الإجماع من بعدهم لحرم اتباعهم، وفي ذلك تناقض الإجماعين فلهذا نقول: فلو أجمع من بعدهم فلا يكون إجماعاً؛ لأن الإجماع صادر عن بعض الأمة، بالإضافة إلى هذه المسألة، فلا جرم كان الحق جواز العمل على قول من سبق ولا ينعقد الإجماع على مخالفته.
__________
(1) المعروف أن (التنور) يلفظ مذكراً، كما في قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّور}.

مسألة: ذهب علماء العترة وفقهاء الأمة: أبوحنيفة وأصحابه و الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء إلى أن الماء إذا خالطه شيء يُتَطَهَّر به، وتغير به فإنه لا يخرجه عن كونه طاهراً يُتَطهر به، وهذا نحو الملح البحري فإن أصله ماء، لكنه انعقد فصار كالملح إذا ذاب، وكالماء الجامد إذا خالط ماء آخر، وكالتراب إذا خالط الماء فإنه لا يخرجه عن كونه طهوراً مع تغيره، فإن طرح التراب في الماء لم يؤثر فيه وكان طهوراً كما كان قبل اتصاله فيه؛ لأنه يوافق الماء في كونه طهوراً.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه من الظواهر الشرعية، من جهة الكتاب والسنة فإنها دالة على جواز التطهر بما هذا حاله من الأمواء، ولا يُعْرَفُ فيه خلاف بين الأمة.
وإن خالطه طاهر لا يُتطهر به ولم يكن مغيراً لشيء من أوصافه نظرت، فإن كان عدم تغيرها لأجل قلته(1)، لم يمنع التطهر به عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، ولا يعرف فيه خلاف، كقطرة ماء ورد وزعفران لا يظهر عليه أثر لقلته، أو غير ذلك من المائعات الطاهرة التي هي غير مغيرة له، من جهة أن الماء باق على إطلاقه فكان مندرجاً تحت الظواهر الشرعية الدالة على أن ما هذا حاله فإنه يكون طاهراً مطهراً.
وإن كان عدم تغيره لموافقته لما في طعمه ولونه ورائحته كماء ورْدٍ انقطعت رائحته، فالذي عليه أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أبوحنيفة وأصحابه: أنه إذا كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به.
والحجة على ذلك: هو أن اسمَ الماء المطلق جارٍ عليه فلأجل هذا جاز كونه طاهراً يُتَطَهَّر به.
وإن كانت الغلبة للمخالط لم تجز الطهارة به لزوال اسم الماء عنه.
__________
(1) أي: لقلة المخالط.

وللشافعي قول آخر، وحاصله: أنه إذا كان قدراً لو كان مخالفاً للماء في صفاته لم يغيره، لم يكن مانعاً للتطهر به، وإن كان قدراً لو كان مخالفاً له غَيَّره، فإنه يكون مانعاً عن التطهر به؛ لأنه لما لم يكن اعتباره بنفسه لأجل مماثلته للماء ومشاكلته له فيما ذكرناه من الأوصاف، اعتبر بغيره كما نقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر على الحر لما لم يكن اعتبارها بنفسها، اعتبرت بغيرها. إما بتقريبها من الموضحة وإما بحال الجناية على العبيد كما سنقرره بمعونة اللّه في الجنايات. والتفرقة بين الضبطين في الوجهين ظاهرة، فإن الأول اعتبار بحال نفس الماء من كونه غالباً أو غير غالب، بخلاف الثاني فإنه يعتبر بخلاف غيره، وهو الأمر المخالف للماء.
والمختار: ما قاله أصحابنا في الضد بخلاف نفسه؛ لأن حال نفس الماء في الغلبة وعدمها أخص من حال غيره وأمس للمقصود، فلهذا كان التعريج عليه أكثر.
مسألة: وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو ريح نظرت، فإن كان من الأمور التي لا يمكن صون الماء عنها كالتي تكون في أصله كالنورة والزرنيخ والشب والكحل والطحلب وغير ذلك(1)، فما هذا حاله يجوز التطهر به عند أئمة العترة وهو قول الفقهاء ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة عليه: أن مثل هذا يتعذر صون الماء عنه فرفع حكمه كالنجاسة اليسيرة وكالعمل القليل في الصلاة، ولأن اجتناب هذا يكون فيه حرج ومشقة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]. ولأنه يعسر تجنبه، وقد قال ً: (( بعثتُ بالحنيفية السمح ة ))(2).
__________
(1) النورة: الجص. والشب: بشين معجمة مفتوحة فباء موحدة تحتانية مضعفة وهو ملح معدني. والطحلب: الذي يطفو على الماء نتيجة طول مكثه وركوده. والزرنيخ: مادة سامة تختلط مع الكلس وتستخدم لحلق الشعر.
(2) أورده ابن الأثير في النهاية ج1/451.

وإن كان المغير من الأشياء التي يمكن صون الماء عنها كالزعفران وماء الورد الذكي في الرائحة والحنا والعصفر والأشنان(1) وغير ذلك من الأمور المغيرة لأوصافه وإن لم تكن غالبة عليه، فهل يجوز التطهر به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يجوز التطهر به، وهذا هو قول بعض أئمة العترة ومحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس مطهراً مع استغناء الماء عنه فلم يجز التطهر به كماء اللحم وماء الباقلا.
فقولنا: بالمخالطة. نحترز به عما ليس مخالطاً ولكنه مجاور كالماء المبخر بالعود والعنبر.
وقولنا: ما ليس مطهراً. نحترز به عما إذا خالطه التراب والملح البحري، فإنه لا يمنعه من التطهير مع تغيره.
وقولنا: مع استغناء الماء عنه. نحترز به عما إذا تغير الماء بما في أصله ومقره مما يتعذر صونه عنه، فإنه لا يمنع من تطهيره.
وثانيهما: أنه يجوز التطهر بما هذا حاله، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه ومحكي عن الإمامين: القاسم بن إبراهيم والمنصور بالله عبدالله بن حمزة ).
__________
(1) الأشنان: جمع شَنّ. وهو الأديم من جلود الحيوانات.
(2) أبو محمد الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن علي بن حمزة بن أبي هاشم الحسني القاسمي، ولد بعيشان سنة 561هـ ونشأ نشأة عظيمة في العلم والزهد والورع، وله مؤلفات تنوف على الأربعين وأشهرها: (الشافي)، وهو من أشهر المؤلفات. وهو شاعر وأديب، برع في علوم شتى، واشتهر بالشجاعة والفروسية. قال عن نفسه في (الشافي): أنا أحفظ خمسين ألف حديث. بويع له سنة 594هـ على خلاف في ذلك. وتوفي محصوراً في كوكبان سنة 614هـ، ودفن بها ثم نقل إلى ظفار المطل على ذيبين. (مقدمة الأزهار، والبحر).

والحجة لهم على ذلك: هو أن المغير إذا لم يكن غالباً للماء فالحكم للماء فصار كاليسير الذي لم يغيره من هذه الأشياء؛ لأن اليسير إنما لم يكن له حكم لما كان الماء غالباً له فهكذا حال الماء إذا تغير وكان غالباً جاز به التطهر.
والمختار: ما قاله أصحاب أبي حنيفة وما قاله الإمامان القاسم والمنصور بالله، من أن الطاهر إذا كان مخالطاً للماء غير غالب له، فإنه يجوز التطهر به؛ لأنه إذا كان غير غالب له فإطلاق اسم الماء باق عليه، ولأن الإجماع منعقد في المخالط إذا لم يظهر له أثر فلا عبرة به، كاليسير من الزعفران الذي لا يظهر له أثر في الأوصاف الثلاثة، فهكذا المخالطة وإن ظهر أثرها فلا حكم له إلا أن يكون غالباً، فإن كان المغير الطاهر غالباً على الماء في الكثرة لم يجز التطهر به عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه و الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن التطهير إنما يكون متعلقاً باسم الماء، وفي هذه الصورة قد زال عنه اسم الماء لَمَّا كان غالباً عليه، فأما قول أصحابنا والشافعي: أنه قد خالطه ما ليس مطهراً، فلا يجوز التطهر به كماء الباقلاء.
قلنا: هذا غير مُسَلَّم، فإنا ننكر أن يكون مطلق المخالطة مانعاً من التطهر، بدليل أن اليسير مما يكون مخالطاً لا يمنع وإنما المانع هو الغلبة لغير الماء فهي المانعة، ولهذا لم يجز التطهر بماء اللحم وماء الباقِلاء لما كانا غالبين للماء فافترقا، والباقِلاء - هو حب الفول -، فإذا شُدِّدت لامه فهو مقصور، وإذا خُفِّفَ فهو ممدود، هكذا قاله الجوهري.

مسألة: والماء إذا خالطه شيء من الأشياء الطاهرة فغيَّر أوصافه أو بعضها كالقَرَضِ(1) والحِنَّا والأشنان والدقيق وغير ذلك، حتى صار غالباً عليه فإنه لا يجوز التطهر به كما أسلفنا تقريره، لخروجه عن كونه ماء، ويجوز شربه واستعماله في العجين وعقد الأدوية وغير ذلك، عند أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك، ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: هو أن المأخوذ فيما يجوز شربه ليس إلا كونه طاهراً لا يضر من شربه.
وقولنا: طاهر. نحترز به عن سائر النجاسات فإنه لا يجوز شربها.
وقولنا: لا يضر [من شربه]. نحترز به عن السمومات فإنه يحرم(2) تناولها كما نقرره في الأطعمة بمعونة اللّه تعالى، ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيْمَاً }[النساء:29] وما ذكرناه ليس فيه واحد من هذين الأمرين، فلهذا جوزنا شربه واستعماله فيما ذكرناه، بخلاف التوضؤ به والغسل، فإن التعبد وارد في التطهير أن يكون بالماء منحصر فيه كما مر تقريره فافترقا.
وإن وقع في الماء مالا يختلط به فغير رائحته كالدهن المطيب والعود والكافور، فهل يجوز التطهر به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: يجوز التطهر به، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن هذا التغير إنما كان بالمجاورة دون المخالطة فلهذا لم يكن مانعاً من التطهر به؛ لأن ما يعبق به من الرائحة إنما هو على جهة الانفصال.
وثانيهما: أنه لا يجوز التطهر به، وهذا هو الذي حكاه البويطي عن الشافعي، والأول حكاه المزني عنه.
والحجة فيه: هو أنه ماء متغير فلا يجوز الوضوء به كما لو تغير بما يخالطه كالزعفران.
__________
(1) القَرَض: بفتحتين على القاف والراء، وهو ورق شجر القرض أو الغضا، تدبغ به الجلود.
(2) في الأصل: لا يحرم تناولها، وهو خطأ واضح لعله من النسخ.

27 / 279
ع
En
A+
A-