والحجة لهم على ذلك: هو أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة ولا يفهم من جهة الشرع وجوب إزالة النجاسة إلا من أجلها، والمعنى الذي من أجله وجبت لأجل الصلاة غير معقول ولا ترشد إليه مخائل المعاني ولا تجري فيه مسالك الأشباه، وفي هذا دلالة على أنها غير معقولة، ويؤيد كونها غير معقولة المعاني، وجوب الاغتسال من المني دون البول والغائط، وهما أكبر وأقذر منه، فدل ذلك على انسداد معانيها بكل حال، ولأن إزالة النجاسة طهارة تراد للصلاة وتقصد من أجلها، فلا يجوز فهم معناها كالوضوء، وإذا كانت غير مفهومة المعنى تعين الماء لها، فلا يجوز إزالتها بغير الماء، وهذه هي الفائدة في كونها غير معقولة المعنى، وزعم أبو حنيفة وأصحابه أن طهارة النجاسة معقولة المعنى، وأن مقصود الشرع منها إزالة عينها واستئصال أثرها، وهذا يحصل بما كان يرفع ويقلع من المائعات كالخل واللبن، فقد حصل معناها المعقول، وإلى هذا ذهب أبو عبدالله الداعي ).
والحجة لهم على ما قالوه: ما ذكرناه من تقرير معناها المعقول من الرفع والقلع، وإذا كان معناها معقولاً وهو حاصل بكل ما كان يرفع أثرها ويزيل عينها من المائعات، فقد تقرر مقصود الشرع بفهم المعنى، وينوي على هذا إزالتها بغير الماء من كل مائع رافع لها.
__________
(1) أبو عبدالله محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الإمام المهدي بويع له بالإمامة ثم كاتبه أهل الديلم فوصل إليهم سنة 353هـ.، وهو الذي أظهر في الديلم أن كل مجتهد مصيب. وكانت الناصرية تخطئ القاسمية والعكس، فرجعوا إلى قوله بعد مناظرات كثيرة، ولم يزل مجاهداً حتى قبضه اللّه بهوسم مسموماً سنة 360هـ. ومن مشائخه في الفقه: أبو الحسن الكرخي، وفي علم الكلام: أبو عبدالله البصري. (مقدمة الأزهار).
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والشافعي ومن وافقهم في كونها غير معقولة المعنى، ومن أجل ذلك تعين لها الماء، ولم يجز إزالتها بغيره من سائر المائعات. ويدل على ذلك أنها جارية على صرف التعبد والاحتكام، فلا تفهم فيها مخائل المعاني وطرقها منسدة فيها، فلا يُضطَرَبُ فيها بالخطوات الواسعة لضيق مسلكها ودقة مجراها، وما هذا حاله فإنه يجب الجمود فيها على حكم الشرع واقتراحه، لما كان معناها غير مُفْهَم فيجب قصر الإزالة على الماء.
الانتصار: يكون بتزييف(1) ما اعتمدوه.
قالوا: الغرض والمقصود هو الإزالة، فتجب إزالتها بكل قالع للأثر.
قلنا: هذا فاسد فإنا لا نُسَلِّمُ أن المقصود هو الإزالة، فإنه قد تجوز الصلاة مع الآثار النجسة وإن بقي أثرها بعد غسلها بالماء كما سنوضح الأمر فيه، ثم إنا وإن سلمنا أن الغرض هو الإزالة، لكن لا نُسَلِّم أنه كل المقصود، بل هو المقصود مع نوع تعبد، كما أن الغرض بالعدة هو براءة الرحم، لكن ليس كل المقصود منها. وإذا كان الأمر كما قلنا من كونها غير معقولة المعنى، وجب تَعَيُّنُ الماء لها، وهذه هي الفائدة بكونها غير معقولة المعنى. والذي يقطع شجارهم ويحسم مادة سعيهم، أنا نقول لهم: إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة، فأخبرونا عن وجه وجوبها للصلاة.
فإن قالوا: المفهوم من جهة الشرع أن المصلي مأمور بأن يأخذ في الصلاة أبهى زي وأحسن هيئة فهكذا يكون مأموراً بالتنقية من الأقذار والنجاسات أحق وأولى.
قلنا: هذا تكرير للسؤال، فلم تجب التنقية في الصلاة؟ وعنه نسأل.
__________
(1) بمعنى كشف زيف (عدم صحة) ما اعتمدوه.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن اشتراط إزالة النجاسة في الصلاة لا يعقل معناه، بل هو جار على صرف التعبد فهكذا حال النجاسة نفسها لا يعقل معناها. وإذا كان أمرها جارياً على ما ذكرناه من التعبد، وجب تعين الماء لها كما قررناه من قبل، لأجل إشارة ظواهر الشرع إلى قصره على الماء فلا وجه لإعادته، وإزالة النجاسة ليس من قبيل العبادات فلا تكون مفتقرة إلى النية، وتصح تأديتها ممن ليس من أهل العبادة كالكافر والصبي. وإن نوى التقرب بها كان مثاباً على فعلها؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، كما جاء في الحديث، وهو رأي أصحابنا والفقهاء لا يختلفون فيه، والوجه فيه ما أشرنا إليه.
---
المسألة الخامسة: في بيان حكم الطهارة من الحدث هل يعقل معناها في ذلك أم لا؟
ذهب علماء العترة ومتبعوهم إلى أن طهارة الحدث غير معقولة المعنى، وأرادوا بما ذكروه من ذلك هو أنها جارية على صرف التعبد من جهة اللّه تعالى، منسدة عنها مسالك المعاني ومنحسمة فيها طرق القياس، وعن هذا قالوا: إنها مقصورة على الماء بحيث لايقوم غيره في تحصيلها من المائعات مقامه، وبه قال: أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ولايختلفون في ذلك.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة من الأحداث مختصة بأوقات وجارية على كيفيات مقررة من جهة الشرع، بحيث لاتهتدي العقول إلى معرفة أسرارها ولاتنتهي إلى غاياتها، فخصها بوقت الحدث دون غيره، وأوجبها في أعضاء مخصوصة عن موضع الحدث، ثم أوجب غسلها من غير نجاسة فيها لأجل نجاسة خارجة من غيرها، ثم أوجب غسل الأكثر منها، ومسح بعضها على هيئة مقدرة وكيفية مرتبة لاتخفى، وكل ماذكرناه من هذه التصرفات الجارية من جهة الشرع، فيها دلالة على أنها جارية على جهة التحكم من غير أن يكون للعقول إليها تطلع في فهم معناها، ومن أجل ذلك احتُكِمَ فيها بأنه لايجرى غير الماء في تأدية المقصود منها مجراه.
وذهب بعض متبعي الشافعي إلى أن طهارة الحدث معقولة المعنى، وزعموا أن الغرض هو تنقية هذه الأعضاء من القاذورات، وعن هذا قالوا: تجوز بغير الماء لَمَّا كان المعنى فيها مفهوماً، كماء الورد وغيره من الأمواء الطاهرة. وحكي عن الأوزاعي ): جواز التوضؤ بجميع الأنبذة بخلاف ماقاله أبو حنيفة فإنه قصره على نبيذ التمر دون غيره من سائر الأنبذة، وقد حكى عنه ابن أبي مريم ): رجوعه عن جواز التوضؤ به.
وحكي عن الحسن بن حي ): جواز التوضؤ بالخل وماء الورد ونحوه.
__________
(1) أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي الأوزاعي الحافظ شيخ الإسلام وإمام أهل الشام، وقيل عنه: عالم الأمة وإمام عصره، ولد عام 88هـ، واشتغل بالعلم ودراسة الفقه والحديث حتى أصبح له مذهب مميز في الشام. سكن آخر عمره ببيروت مرابطاً، وتوفي بها ثاني صفر 157هـ. (مقدمة البحر).
(2) أبو رجاء محمد بن أحمد بن الربيع بن سليمان بن أبي مريم الأسواني. قال ابن يونس: كان أديباً فقيهاً على مذهب الشافعي، وكان فصيحاً (وشاعراً) له قصيدة يذكر فيها أخبار العالم وقصص الأنبياء نبياً نبياً، قيل: إنها بلغت ثلاثين ومائة ألف بيت، وأنه قال بعد هذا: بقي عليَّ فيها أشياء احتاج إلى زيادتها، ونظم فيها الفقه وكتاب المزني وكتب في الطب والفلسفة، توفي في ذي الحجة سنة 335هـ (طبقات الشافعية).
(3) أبو عبدالله الحسن بن صالح بن حي الهمداني الكوفي، الإمام القدوة الفقيه العابد. قال أبو زرعة: اجتمع في الحسن بن حي إتقان وفقه وعبادة وزهد، وكان عالماً وصاحب رأي مستقل وزيدياً. وإليه تنسب الصالحية من الزيدية.
والحجة لهم على ما قالوه من كونها معقولة المعنى: هو أن الغرض من الطهارة التنقي عن الأدران، والنظافة عن الأوضار وإزالة الغبرات، ولا شك أن الأعضاء الظاهرة في المهن والتصرفات هي الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان، والإنسان في تصرفاته في مهنه وتقلباته في قضاء مآربه، يصادم الغبرات وتعلق به الأدران، فورد الشرع بغسل هذه الأعضاء على كيفيات مخصوصة وأوقات محددة مقدرة، والرأس لما كان مستوراً بالعمامة غالباً، خفف الشرع وظيفته فجعلها مسحاً. وقرروا هذا الاستدلال بقوله جل جلاله، في سياق آية الوضوء: {وَلَكِنْ يُرِيْدُ لِيُطَهِّرَكُمْ }[المائدة:6]. فأشار بذلك إلى التوقي عن القاذورات والبعد عن مصادمة الغبرات. هذا ملخص ما قالوه في تقرير هذه المقالة.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والفريقان من الحنفية والشافعية: في أن طهارة الحدث لا يعقل معناها، ويدل على ذلك أن الطهارات كما أشرنا إليه، جارية على منهاج العبادات البدنية التي لا يلوح فيها معنى مخصوص ولكنها مشتملة على أمور غيبية استأثر اللّه تعالى بعلمها وأحاط علمه بها.
نعم.. قد يخيل منها معانٍ كلية ومقاصد عامة تحمل على المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر اللّه وصرف النفوس عن المطالب الدنيوية، والحض على أخذ الأهبة لدار الآخرة، وقد أشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ }[البقرة:222]. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ }[العنكبوت:45]. فهذه أمور مفهومة ولكنها غير منحصرة في أنفسها فلا يمكن القياس، ويتعذر استنباط المعاني المختلفة التي يتقرر القياس عليها. وإذا كانت المعاني منسدة طرقها ويصعب جريها فيها بطل استعمال الأقيسة فيها فلا يلحق بها شيء، ويبطل أن يقوم مقام الماء غيره في تأدية العبادات به لانحسام مسالك القياس وجريها على مرارة التعبد، وفي ذلك بطلان ما قالوه. ويؤيد ما ذكرناه، هو أن أبا حنيفة لَمَّا لمْ يَصْفُ له المعنى في طهارة الحدث وافقنا في كونها غير معقولة المعنى، وأن غير الماء لا يقوم مقامه في تأديتها بخلاف طهارة النجس، فإنه قد زعم كونها معقولة المعنى، وأن الغرض القلع للآثار والتنحية لها، وهذا حاصل بما يقلع من المائعات كما أوضحناه من قبل.
الانتصار عليهم: يكون بإبطال ما توهموه.
فأما ما زعموه من المعنى الذي توهموه في إيجاب غسل هذه الأعضاء ومسحها، فهو من الإقناعات التي يقبلها من ليس له قدم راسخة في علم الأصول، وحاصلها خيال منقشع بأدنى مطالبة، ويبطل ما قالوه بما قررناه من قبل من كونها جارية على مذاق التحكمات الجامدة، فلا ينقدح فيها معنى معقول فيقاس عليه، ثم نبطل ما ذكروه بالمعارضة بأمرين:
أحدهما: أنا نقول: لو استقام ما ذكرتموه في الوضوء وأن الغرض به التنقي عن كل ما يعرض من القاذورات والتنزه عنها، لكان يلزم فيمن أسبغ وضوءه وأتمه بكماله ثم عمد إلى تراب فتعفر به وتلطخ بالطين الطاهر ثم صلى وهو على تلك الحالة، أن لا تكون صلاته صحيحة؛ لأن سر الوضوء ومعناه غير حاصل، فلو صح المعنى الذي زعموه لما كانت صلاته صحيحة وهو مخالف للإجماع.
وثانيهما: أن التيمم هو تعفير الوجه بالتراب وإزالة رونقه بملابسته ومسحه به، فلو صح ما ذكرتموه من معنى الطهارة لكان لا وجه لكونه مشروعاً عند عدم الماء؛ لكونه مناقضاً لمعنى الطهارة وسرها.
فهذان الأمران مبطلان لهذه القاعدة التي ذكروها، وتنخل من مجموع ما ذكرناه، أن طهارة الحدث والنجس لا يعقل معناهما، وأن المعنى الذي ذكره أبو حنيفة في طهارة النجاسة وهو القلع، يبطل بما سلمه في طهارة الحدث، فإن التعميم حاصل فيها بماء الورد وقد منع منه، فهكذا يمنع مما كان مانعاً للأثر، ويجب قصرهما على التطهير بالماء كما أشرنا إليه، وممن قال معنا بأنهما لا يعقل معناهما، الشيخ عبدالملك الجويني وتلميذه أبو حامد الغزالي.
فهذا ما أردنا ذكره من المسائل التي اشتمل عليها اللقب في قولنا: كتاب الطهارة.
ونشرع الآن في الأبواب التي اشتمل عليها الكتاب مستعينين بالله وهو خير معين، وجملة ما يشتمل عليه من الأبواب عشرة
---
الباب الأول في المياه
واعلم أن أنظار الفقهاء مختلفة في تقديم الأسبق من أبواب الطهارة في التصانيف،
فمنهم من يقدم الكلام في آداب قضاء الحاجة؛
لأن الطهارة إنما تقصد للصلاة وأول ما يشتغل(1) به الإنسان هو قضاء الحاجة ليحصل بعدها التطهير، وهذه طريقة المحدثين في كتب الأحاديث ويسمونه باب التخلي، وباب الاستطابة، ويعنون به قضاء الحاجة.
ومنهم من يقدم الكلام في الاستنجاء؛ لأن أول التطهير هو الاستنجاء، وهو غسل الفرجين،
وهذه هي طريقة السيد أبي طالب في التحرير(2) وشروحه.
ومنهم من يقدم الكلام في المياه؛ لأن أعظم ما يقع به التطهير هو الماء من بين سائر المطهرات، وهذه هي طريقة أكثر الفقهاء، وهذا هو المختار، لأن الاعتبار بذكر الطهارات المائية هو الذي تكون لأجله تأدية الصلوات في أغلب الحالات، ولأنه أحق المطهرات بالتطهير وما عداه بدل منه، فلهذا كان أحق بالتقديم، والأمر فيه قريب وليس فيه كبير فائدة.
ثم إن الطهارة مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فهو رأي أصحابنا والفرق الثلاث الشافعية والحنفية والمالكية، خلافاً لشذوذ(3) من الفقهاء، وطوائف قد ذكرناهم من قبل، وأما في طهارة النجس كما رأى أصحابنا والشافعي ومالك خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه.
وجهة اختصاصه بذلك من وجهين:
أما أولاً: فمن أجل كونه مختصاً بنوع من اللطافة والرقة وتفرده بتركيب لا يشاركه فيه غيره من الجوهرية والصقالة.
__________
(1) في الأصل: (يستعمل) استبدلنا (يشتغل) بها لعدم تناسب الأولى مع موضوعها، ولعله خطأ من الناسخ.
(2) كتاب معروف في الفقه. (وهو تحت الطبع).
(3) شذوذ هنا، جمع شاذ. وهي صيغة يجتمع فيها المصدر وجمع المذكر المكسر. مثل حضور.
وأما ثانياً: فلأنه تعبد في صفة لا يعقل معناه، وهذا هو الأقوى كما مر تقريره، ودليله ماورد من الإشارات الشرعية بكونه مطهراً وانحصار التطهر به، كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11].
وقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً ))
إلى غير ذلك من الظواهر الشرعية الدالة على التعبد في التطهير به من سائر المائعات.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر تقسيم الأمواء، ثم نردفه بذكر ما يجوز الوضوء به وما لا يجوز، ثم نذكر كيفية الاجتهاد عند الشك في طهارة الماء ونجاسته، ثم نذكر حكم الآنية في الاستعمال، فهذه فصول أربعة: