وحكي عن أبي حنيفة: أنه إذا خالف القياس كان توقيفاً من جهة الرسول ً ومثاله: ما استدل به أصحاب أبي حنيفة فيمن اشترى شيئاً بثمن ثم باعه بأقل من ذلك الثمن قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول، أن ذلك غير جائز، لما روي أن عائشة (رضي اللّه عنها) أنكرت ذلك على زيد بن أرقم )، وقالت لأم ولده: أخبري زيداً أنه أحبط جهاده مع رسول اللّه ً إلا أن يتوب، فدل ذلك على أنها لم تغلظ في القول بإحباط الجهاد والإثم إلا عن توقيف، وهذه تسمى العينة(2).
وحكي عن مالك: أنه حجة مع مخالفة القياس كمقالة الشافعي في القديم.
وقد عول أصحابنا على ما قاله أبو حنيفة من حجة أن قول الصحابي إذا كان موافقاً للقياس، فظاهر الحال أنه على رأي له فلا يكون فيه حجة، بخلاف ما إذا كان مخالفاً للقياس فلا تكون مخالفته للقياس إلا لأمر أحق من القياس وأولى وهو التوقيف من جهة الشارع.
والمختار: أنه لا يكون حجة معتمدة؛ لأنه لا دلالة على كونه حجة من جهة أدلة الشرع، وإنما يكون صالحاً للترجيح لا غير، ولأنه كما لا تعويل عليه إذا وافق القياس، فهكذا لا تعويل عليه مع مخالفة القياس أيضاً، والجامع بينهما: أنه قول من لا دلالة على كون قوله حجة.
__________
(1) أبو عمرو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، صحابي غزا مع رسول اللّه ً سبع عشرة غزوة، وروى عنه ً وعن علي وأنس وغيرهم، وهو الذي أنزل اللّه تصديقه في سورة المنافقين، وشهد صفين مع علي عليه السلام وكان من خواصه. مات بالكوفة أيام المختار سنة 66هـ، وقيل: غير هذا. (تهذيب التهذيب 3/341).
(2) وقد روي نهي الرسول عن بيع العينة. والعينة: بكسر العين وهي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها منه به، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العين. ا.هـ (فتح الغفار) ملخصاً ج2/43.

قولهم: إنه مع مخالفة [القياس] يدل على التوقيف لأجله خالف القياس.
قلنا: هذا فاسد، فإنه لو كان هناك توقيف لوجب ذكره في ذلك الوقت أو في وقت آخر.
قولهم: إن عائشة أغلظت عليه فيدل على التوقيف.
قلنا: هذا فاسد، فإنه قد يحصل التغليظ في الاجتهاد كما روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه: من أراد أن يقتحم جراثيم(1) جهنم فليقض بين الجد والأخوة برأيه، أو كما قال ابن عباس(2): ألا يتقي اللّه زيد بن ثابت ) بأن يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً. فالتغليظ قد
__________
(1) الجراثيم: جمع جرثومة، وهي أصل الشيء وأسفله. والمراد منها هنا: قعر جهنم.
(2) هو أبو العباس عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن هاشم، حبر الأمة، وابن عم رسول اللّه ً توفي رسول اللّه ً وله ثلاث عشرة سنة، ومات بالطائف سنة 68هـ عن إحدى وسبعين سنة. دعا له رسول اللّه فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) فاستوعب الكتاب والسنة تفسيراً وتأويلاً ورواية، وكان أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها وأمثالها ولغتها، وكان يعود في تفسير القرآن إلى اللغة، وإلى الشعر في توثيق اللغة. وهو القائل: الشعر ديوان العرب، فما التبس علينا من لغتهم رجعنا إلى ديوانهم. روى له السيوطي إجابات مرتجلة في مقام واحد على ثلاثمائة سؤال ألقاها عليه نافع بن الأزرق من غريب القرآن، وكان يستشهد في إجابته عن كل سؤال بالشعر، وهو من أشهر الصحابة رواية للحديث. قال عنه ابن عمر: ترجمان القرآن ابن عباس.
(3) أبو سعيد وأبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي النجاري المقرئ الفرضي، كاتب الوحي، وأحد فقهاء الصحابة. حين قدم النبي ً المدينة، كان ابن إحدى عشرة سنة، وكان عالي الذكاء، تعلم العبرية بأمر النبيً، وكان يكتب بها وبالعربية، وله كتابات في الفرائض والديات، وكان عمر يستخلفه على المدينة إذا حج، وهو أحد الذين جمعوا القرآن. مات عام 45هـ. (در السحابة 663).

يرد على جهة المبالغة في مسائل الاجتهاد كما أوضحناه والله أعلم.
المأخذ السابع: في شرع من قبلنا من أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، هل يكون شرعاً لنا إذا لم ينسخ عنا أم لا؟ فيه خلاف بين العلماء.
فالذي ذهب إليه أصحابنا والشافعي جواز ذلك، ولهذا سوغوا أن تكون المنافع مهراً بما في قصة شعيب ً، حيث قال لموسى صلى اللّه عليه وسلم: {إِنِّيْ أُرِيْدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن ِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ }[القصص:27]. وقالوا: إن شرع من قبلنا لازم لنا ما لم ينسخ عنا وأستعملوه في كثير من المسائل الفقهية.
وكما قال الشافعي في تسوية القصاص في الأطراف بين المرأة والرجل محتجاً بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ }..الآية[المائدة:45]، ولأنها كتب منزلة من السماء على ألسنة الرسل فما لم ينسخ فهو شرع في حقنا كالقرآن.
وأبى ذلك أبو حنيفة وأصحابه محتجين بأن الرسول ً، شريعته ناسخة لجميع الشرائع وذلك معلوم من دينه بالضرورة.
والمختار عندنا: ما قاله أبو حنيفة وأصحابه ويدل على ذلك وجوه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الرسول ً، لم يُعلم من حاله أنه كان يطالع شيئاً من الكتب المتقدمة في شيء من الحوادث، ولا كان يسألهم عن ذلك، فلو كان ذلك شرعاً في حقنا لكان يعرفنا ما هو المنسوخ من ذلك من غير ما يكون منسوخاً، فلما علمنا إعراضه عنها، دل على أنه لا يكون شرعاً في حقنا.
وأما ثانياً: فلأنه رأى يوماً في يد عمر كراسة من التوراة فاحمر وجهه وتغير لونه وقال: (( والله لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ))(1).
__________
(1) مختصر العلوم ص61 بلفظ: ((والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)).

وأما ثالثاً: فلأن ما كان من شرعنا مطابقاً لحكم التوراة وغيرها من الكتب فإنما يكون بتقرير الشارع له وتنصيصه عليه لا بحكم التوراة على الإطلاق، وفي هذا دلالة على أنها غير معتمدة في كونها شرعاً لنا، وهذا هو مطلوبنا.
المأخذ الثامن: الاستدلال بالقرائن، وهو محكي عن المزني من أصحاب الشافعي، ومثاله: استدلال أصحاب أبي حنيفة، وهو محكي عن بعض أصحابنا، في نجاسة الماء المستعمل، بأن الرسول ً قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه ))(1). ففرق بين البول فيه والاغتسال فيه، لما كان البول فيه ينجسه ويفسده، وهكذا حال الاغتسال. ومثل هذا لا يعد طريقاً لتقرير الأحكام الشرعية من جهة احتماله؛ لأن عطف الشيء على غيره لا يوجب أن يكون حكمه مثل حكمه؛ لأن المعطوف يغاير المعطوف عليه، فقد يعطف المستحب على ما يكون محرماً كقولك: لا تظلم أخاك ولا تؤاخذه بذنبه. فإذا كان كما قلناه، لم تكن القرينة وهي اتصال أحدهما بالآخر على جهة العطف، دالة على تساويهما في الحكم، بل لابد هنالك من علة جامعة أو دلالة منفصلة تدل على تنجيس الماء بالاستعمال من غير ما ذكروه، وقد عول أصحاب أبي حنيفة على هذه القرينة في غير هذه المسألة، وزعموا أن عطف الخاص على العام يوجب تخصيصه، كما قالوا في قوله عليه السلام: (( لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده))(2) فلما أوجب أن يكون الثاني مخصوصاً بالكافر الحربي لتساوي دماء أهل الذمة، وجب أن يكون الأول مخصوصاً أيضاً بالكافر الحربي، وجوزوا على أثر هذا أن يقتل المسلم بالذمي، وقد أوضحنا الرد عليهم في الكتب الأصولية وأبطلنا مقالتهم هذه.
__________
(1) سيأتي في محله.
(2) سيأتي في محله.

المأخذ التاسع: زعم بعض الأصوليين، أن نسخ بعض أحكام الآية يكون نسخاً لها، فلا يجوز الاحتجاج بها فيما وراء ذلك. وهذا فاسد. ومثال ذلك: استدلال القاسمية(1) على وجوب النفقة للمتوفى عنها زوجها أخذاً من قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُوْنَ أَزْوَاجَاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعَاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة:240]. فنسخ الحول لا يدل على نسخ المتاع، فإذا كان الحول منسوخاً بالأربعة الأشهر فلا وجه لنسخ النفقة، بل هي واجبة بنص الآية، ومن أسقطها فإنما يسقطها بدليل آخر كما هو رأي الفقهاء والمؤيد بالله لا من جهة أن بعض أحكام الآية منسوخ فيجب نسخ جميعها. وكاستدلال أصحابنا والشافعي على كون المهر يجوز أن يكون منفعة الحر بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}[القصص:27]. فإذا نسخ كون المهر للأب كانت الآية الحجة فيما وراءه ولم يكن نسخ بعضها نسخاً لجميعها كما زعموه.
__________
(1) أصحاب القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ٍ.

المأخذ العاشر: تأخر البيان عن وقت الخطاب لا يكون دليلاً على عدم الحكم أصلاً؛ لأن تأخر البيان عن وقت الخطاب جائز كما قررناه في الكتب الأصوليه، ومثاله: استدلال أصحابنا والحنفية على إسقاط الكفارة في قتل العمد، بأن اللّه تعالى ذكر العمد ولم يوجب فيه كفارة، فلو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في قتل الخطأ، فلما لم يذكرها، دل على عدم الوجوب فيها، فما هذا حاله لا يكون معتمداً في نفي وجوبها وإنما يؤخذ عدم وجوبها من دلالة أخرى غير هذه، خلافاً لرأي الشافعي في وجوبها، لأنه لا يمتنع كونها واجبة لكن بيان وجوبها متأخر عن بيان قتل الخطأ انتظاراً لوقوع الحاجة، وهذا يخالف الاستدلال على أن المرأة لا يجب عليها كفارة الظهار، من جهة أن الرسول ً أوجبها على الرجل ولم يوجبها على المرأة، فلو كانت واجبة لذكرها؛ لأنه لو لم يذكرها لكان في ذلك تأخير للبيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز، فظهرت التفرقة بينهما بما ذكرناه.
ولا أورد من الأحاديث إلا ما صح بطريقة شرعية يعتمدها أهل الحديث ويستقويها الأصوليون، ولا اعتمد من الأقيسة إلا ما كان ظاهر الإخالة قوي المشابهة من غير تعريج على حديث ضعيف أو قياس طردي ركيك.
ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على مالا يعتمد من الأدلة في تقرير الأحكام الاجتهادية ففيه كفاية، وبتمامه يتم الكلام على ما أردنا ذكره من هذه المقدمات التي يحتاج إليها الفقيه الخائض في الفقه من غير أن يكون له حظوة وافرة في علم الأصول والحمد لله.

---
كتاب الطهارة
وهو مشتمل على مسائل خمس:
المسألة الأولى: في لفظ الطهارة
وهي مصدر من قولهم: طَهَر الشيء يَطهر، نحو كَتَب يكتب، وطَهُرَ يَطْهُر، نحو شَرُفَ يَشْرُف، طهارة.
والاسم: الطهر، وطهرت الشيء تطهيراً، وتطهرت بالماء تطهراً.
ومعناها: التنزه من الأدناس.
قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقيَّة ... وأوجههم بيض المسافر غران(1)
وطهارى: جمع طاهر، على غير قياس كأنه جمع لطهران، نحو كسلان وكسالى، وحيران وحيارى(2)، والمَسَافِرِ: جمع مسفر، وهو ما ظهر من الوجه.
والتفرقة بين المصدر والاسم، هو أنك إذا قلت: طهارة، فإنها مشعرة بالفعل، كأنك قلت: طهر الشيء طهارة، بخلاف قولك: الطهر، فإنه غير دال على الفعل ولا مشعر به، فهو في إطلاقه كإطلاق الرجل في عدم إشعاره بالفعل ودلالته عليه، فهذه هي التفرقة بين المصدر والاسم إذا أطلقه الفقهاء وأهل اللغة، وتحتها أسرار وفوائد لا يخفى حالها على الأذكياء.
والطاهر في اللغة: هو الجاري على نعت الاشتقاق من غير أن يكون فيه مبالغة كالضارب، فإنه الفاعل للضرب من غير مبالغة.
والطهور هو الجاري على جهة الاشتقاق مع اختصاصه بالمبالغة، كضروب وضحوك، فهو في إفادة ما ذكرنا من المبالغة كفَعَّال، نحو ضَرَّاب وقتال.
فالطاهر ما كان مختصاً بالطهارة في نفسه لا غير.
والطهور هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره.
__________
(1) جاء في لسان العرب: وجمع الطاهر: أطهار وطهارى والأخيرة نادرة، وثياب طهارى على غير قياس، كأنهم جمعوا طهران. قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غُرانُ
ا.هـ لسان ج4/504. وهكذا ورد لفظ البيت في ديوان امرئ القيس، لا كما أورده المؤلف.
(2) لا يبدو أن (كسالى) من هذا الباب؛ لأنه مضموم الأول، إلا أن الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} قال: قُرئ بضم الكاف وفتحها. ا.هـ كشاف.

فالطاهر: وصف لا زم غير متعد إلى غيره.
والطهور يتعدى إلى غيره، وهو أنه مطهر لغيره، ونعني بتعديته أمرين:
أحدهما: من طريق التأثير، وهو أنه مؤثر في غيره التطهيرَ، كما أن الضارب، مؤثر في غيره الضرب والقاتل مؤثر في غيره القتل، فتأثيره حاصل في جهة الغير كما ذكرناه.
وثانيهما: من جهة اللفظ، وهو أنه متعد إلى مفعول بحرف جر، كقولك: مررت بزيد، بخلاف قولنا: طاهر فإنه لا يفيد واحداً من هذين الوجهين فلهذا كان لازماً، فهذا هو مراد الفقهاء بقولهم: إن الطاهر لازم، والطهور مُتَعَدٍ. وهل يفترقان من جهة الحكم أم لا؟ فيهما مذهبان:
أحدهما: أنه لا تفرقة بينهما، وعن هذا قالوا: إن كل شيء من المائعات كان طاهرا فإنه يجوز التطهر به للجنب والنجس، دون الحدث(1) كالخل واللبن وغيرهما، وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة وأصحابه وأبي بكر بن داود الأصم ).
والحجة لهم على ما زعموه: ما عرف من عادة العرب من عدم التفرقة بين فاعل وفعول في الإطلاق، فما كان الفاعل منه لازماً فالفعول مثله في اللزوم، كالقاعد والقعود، والنائم والنؤوم، وما كان الفاعل منه متعدياً فالفعول مثله في التعدي، كالضارب والضروب والقاتل والقتول، وهكذا حال الطاهر والطهور لا تفرقة بينهما، وإن كانا في اللزوم على سواء، فلهذا قضينا بأن كلَّ ما كان طاهراً فهو طهور من غير تفرقة.
__________
(1) لعله يقصد دون الاستنجاء من الحدث.
(2) أبو بكر عبدالرحمن بن كيسان الأصم. عده الإمام المرتضى من الطبقة السادسة (طبقات المعتزلة ص56) وقال: وكان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم خلا أنه كان يخطئ علياً عليه السلام في كثير من أفعاله ويصوب معاوية في بعض أفعاله. قال القاضي (عبدالجبار): ويجري منه حيف عظيم على أمير المؤمنين، وكان بعض أصحابه يعتذر له.. وله تفسير عجيب، وكان جليل المقدار يكاتبه السلطان. ا.هـ. ملخصاً ولم يذكر تاريخ وفاته.

وثانيهما: وجوب التفرقة بينهما، فالطاهر ما كان طاهراً في نفسه كما مر تقريره، والطهور ما كان مطهراً لغيره، وعن هذا قالوا بأن غير الماء من المائعات لا يكون طهوراً لما كان غير مطهِّرٍ لغيره، وهذا هو رأي أئمة الزيدية ومن تابعهم من فقهائهم، وهو مذهب الشافعي وأصحابه.
والحجة لهم على ذلك: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَا ً }[الفرقان:48].
ووجه الحجة من الآية: هو أن الآية واردة مورد الامتنان بما أنعم اللّه به من نزول الماء للتطهير وخصه بالذكر وجعله من أعظم النعم، فلو كان الطاهر والطهور على سواء لكان لا فائدة في تخصيصه بالذكر ووروده على جهة الامتنان، وقوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابَاً طَهُوْرَاً }[الإنسان:21].
ووجه الحجة للدلالة من هذه الآية هو: أنها واردة على جهة المدح والثناء على شراب أهل الجنة وتميزه عن شرابات الدنيا، بأن شراب أهل الجنة طاهر في نفسه مُطَهِّر لغيره كالماء، بخلاف شراب الدنيا فإنه ليس على هذه الصفة، فلو كان الطاهر والطهور سواء لكان الشرابان مستويين في ذلك، وفي هذا دلالة في حصول التفرقة بينهما.

والمختار: ما عول عليه أصحابنا و الشافعي لما رواه أبو هريرة ) قال: سأل رجل رسول اللّه ً فقال: إنا نركب رماثاً لنا في البحر - الرِّمَاثُ جمع رَمَثٍ بالتحريك وهو زورق صغير يركب عليه في البحر - ومعنا القليل من الماء إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: (( هو الطهور ماؤه والحل ميتته ))(2). فخص الماء باسم الطهور، وفي هذا دلالة على أن غيره لا يطلق عليه اسم الطهور، وكما هو دلالة على ما ذكرناه من اختصاصه من اسم الطهور، ففيه دلالة أيضاً على أن الماء يُتَطَهَّر به؛ لأنهم سألوه عما يُتَطَهَّر به، فأجابهم بأنه طهور، وما رواه أبو سعيد الخدري )
__________
(1) عبدالرحمن بن صخر الدوسي، أسلم في فتح خيبر وهو أكثر من روى الحديث من الصحابة حتى زاد عدد الأحاديث التي رواها على خمسة آلاف حديث، وهو من أكثر من روى عنه الستة، شكك في بعض أحاديثه عدد غير قليل من أصحاب المسندات، أخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة أنها قالت لأبي هريرة: ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي ً؟ هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟ فقال: يا أُمَّه إنه كان تشغلك المرآة والمكحلة وما كان يشغلني عنه شيء. وقال عن نفسه: حفظت من حديث رسول اللّه أحاديث لو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالحجارة، أخرجه الحاكم أيضاً. وأنكر عليه ابن عمر حديثاً حدَّث به في فضل من تبع الجنازة فاستشهد أبو هريرة بعائشة على صحة الحديث. (المستدرك، در السحابة).
(2) قال في هامش البحر ما لفظه: عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول اللّه ً فقال: يا رسول اللّه إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال رسول اللّه ً: ((هو الطهور ماؤه والحل ميتته) أخرجه مالك في (الموطأ) وأبو داود والترمذي والنسائي.ا.هـ ج2 ص30.
(3) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري (أبو سعيد الخدري) أحد أصحاب رسول اللّه ً وأعلام الأنصار، استصغر يوم أحد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة، روى عن النبي ً وعن علي وزيد بن ثابت وأبي قتادة الأنصاري وجابر وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابن عباس وابن عمر وجابر وزيد بن ثابت وغيرهم. قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله أفقه من أبي سعيد. توفي سنة 64هـ عن 74سنة على خلاف في تاريخ وفاته. (تهذيب التهذيب).

23 / 279
ع
En
A+
A-