فنقول: أما مالك بن أنس فإنه لا يُشَقُّ غباره في ضبط الأخبار وتمييز صحيحها ومعرفة قويها من ضعيفها، وكان شديد الاحتراز في الرواية والتصون في النقل وحصر وقائع الصحابة (رضي اللّه عنهم). ولا تُدْرَكُ آثاره في انتقاد الرواة ومعرفة أحوالهم، وهو أول من عني في جمع الأحاديث وضبطها في كتابه (الموطأ) وكان كثير التعظيم للعلم، شديد الورع، خلا أنه استرسل في القول بالاستصلاح حتى أداه ذلك إلى إهدار الدماء، وإتلاف الأموال لمصالح إيالية(1) وانتهى حاله إلى تقرير أمور منوطة بالسياسة، حتى آل نظره في ذلك إلى أن قال: (اقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها)، وهذا يعد في الخطأ، فإنا نعلم بالضرورة من حال الصدر الأول انكفافهم عن مثل هذا وتصونهم عن الفتوى بمثل هذا، ونعلم من حالهم أنهم لا يتجاسرون على إراقة كفٍ من دم إلاّ بحقها.
وأما الشافعي محمد بن إدريس، فنظره لا يجارى وفضله لا يبارى، في تقدير أصول الأدلة وتنزيلها منازلها وترتيبها على أحسن هيئة، وفي ذلك دلالة على سعة علمه وتبحره في علوم الشريعة مع حدة نظره وجودة ذكائه، وتشهد لفضله مسائله التي أنشأها، وعلله التي قررها واستنبطها، ولقد كان عمره يقصر عن إحراز مثل فضله، فاخترم وقد نيف على الخمسين، لكنه قال بالرؤية ونقلها عنه البويطي من أصحابه، وهذا خطأ في الاعتقاد. فإن كانت الرؤية مكيفة أدى ذلك إلى التشبيه؛ لأن المرئي لا يُعْقَل إلا متحيزاً أو حاصلاً في المتحيز، وكله محال على اللّه تعالى، وإن كانت الرؤية غير مكيفة فهو لا يعقل على كلا الوجهين فلا يخلو عن خطأ.
__________
(1) من الفعل: آل يئول. والمراد هنا من كلمة (إيالية) تأسيس الإمام مالك بعض الأحكام باعتبار ألاء يالة وهي السياسة.

وأما أبو حنيفة النعمان بن ثابت فلا يُنْكَرُ فضله في اتقاد القريحة وجودة الفطنة وإدراك الأسرار الشرعية واستنباط المسائل الدقيقة واستيلائه على الإحاطة بأسرار الحكومات والأقضية، والتمكن من وضع المسائل والتصدي للأسئلة والجوابات في المضطربات الاجتهادية، لكنه قد حُكي عنه القول بإيجاب القدرة، وهذا خطأ، فإن مثل هذا يجر إلى الجبر وبطلان الاختيار للعبد ويؤدي إلى تكليف مالا يطاق، وهذا يطرق خللاً في قاعدة الحكمة(1)، وحُكي عنه بطلان القصاص بالمثقل(2)، وهذه تهدم عصمة الدماء، وحُكي عنه حل
__________
(1) أورد الإمام المهدي في مقدمة (الأزهار) مسألة صحة العقائد لدى الأئمة الأربعة فجاء في شرح الأزهار: (ولم يسمع عن أحد من الناس أنه نقل عن واحد من مجتهديهم - يعني أئمة أهل البيت - ما يخالف العدل والتوحيد، بخلاف الأئمة الأربعة فإنهم وإن كانوا منزهين سيما أباحنيفة والشافعي ومالك، فقد نقل عنهم آحاد من الناس ما يقتضي الخطأ في مسائل أصول الدين، فأشرنا إلى ذلك، بقولنا: وننزههم عما رواه البويطي من أصحاب الشافعي وغيره عن غيرهم، وذلك الغير هو الشافعي وأبوحنيفة ومالك وابن حنبل ..) إلى أن قال: (أما القول بإيجاب القدرة فروي عن أبي حنيفة، وأما تجويز الرؤية فرواه البويطي عن الشافعي، والتجسيم مروي عن ابن حنبل. وأما المصالح فروي عن مالك. قال مولانا عليه السلام: ونحن ننزهم عن هذه الرذائل؛ لأنها تقتضي اختلال الإيمان، ونحن من إسلامهم على يقين فلا ننتقل عن هذا اليقين إلا بيقين. ولا يقين، في مثل ذلك إلا التواتر ولا تواتر عنهم بذلك سيما الثلاثة، لكن قد قيل في المثل: من يسمع يخل).ا.هـ. ج1/16. مقدمة الأزهار.
(2) بضم الميم فثاء مثلثة مفتوحة وتضعيف القاف (المُثَقَّل) ويعني القتل بالمثقل من الحجر أو نحوه. ولعل تعليل أبي حنيفة ببطلان القصاص بالمثقل، بأن المثقل ليس من أدوات القتل عادة وعرفا، فتنتفي بذلك نية القتل عن القاتل.

المُثَلَّثِ والمُنَصَّفِ، وقد عُلم من جهة الشرع والعقل قطعاً صيانة العقول عن الإهدار والإفساد.
وإذا تأملت عُلوم العترة وجدتها مصونة عن مثل هذه الأشياء التي حكيناها عن غيرهم، وفي هذا دلالة على عصمة اللّه لهم عن الوقوع في مثل هذه المواقع التي يعلم خطؤها، وأنهم باقون على رسوم الشريعة غير خارجين عن حدودها في اعتقاد ديني، ولا خطأ في مضطرب اجتهادي، وما ذاك إلا من لطف اللّه تعالى بهم وتأييده لهم في كل إقدام وإحجام وقول وفعل.

فحصل من مجموع ما ذكرناه صحة تقدمهم في هذه الخصال العالية في الدين والورع والتقوى، ومناقب العترة أكثر من أن تحصى، وقد أفرد فيها العلماء كتباً على حيالها ولكنا سمحنا من ذلك بمقدار ما يليق بترجيح تقليدهم على تقليد غيرهم من علماء الأمة في الأمور العملية، وكيف لا يكون تقليدهم راجحاً على تقليد غيرهم من علماء الأمة؟ وقد قال ً: (( تعلموا من قريش ولا تعلموها ))(1) وفي حديث آخر: (( ولا تعالموها)) وأراد: ولا تغالبوهم في علومهم، وقال عليه السلام: (( عالم قريش يملأ الأرض علماً ))(2)، وقال ً: (( الناس في هذا الشأن تبع لقريش ، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم))(3). فلا جرم كان اتباعهم أحق من اتباع غيرهم لما قررناه من الأدلة على فضلهم، وهم السر والخلاصة واللباب من قريش، ولم نرد بما ذكرنا من حال فقهاء الأمة وعلمائها في الاعتقادات الدينية وانحراف أنظارهم في المسائل المجتهدة حطًّاً لما رفع اللّه من منارهم، ولا وضعاً لما أشاد اللّه من رفع أقدامهم(4)، ولكن غرضنا الكشف عما اختص به علماء العترة من إصابة الحق والهداية لوجه الإصابة في معتقداتهم ومجاري أنظارهم، مع علمي بأنهم الغواصون على علوم الشريعة والخائضون في بحور أسرارها.
ولا يقال: فمن الآل والأهل من الذرية والعترة؟ وهل من تفرقة بين هذه الألفاظ من جهة اللغة أو من جهة الشرع؟
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة ج12/169، وابن حجر في المطالب 4171.
(2) العجلوني في كشف الخفاء ج2/68.
(3) أورده السياغي (رحمه اللّه) في (الروض النضير) ج5/19 عن أبي هريرة بلفظ: (الناس تبع لقريش). دون بقيته.
(4) لعلها: (.. من رفع أقدارهم)، وإذا كانت (أقدامهم) فالمراد: درجاتهم.

لأنا نقول: أما الآل والأهل فهما سواء في صحة إطلاقهما على الزوجات والعيال، والهاء مبدلة من ألف الآل، خلا أن الآل قد تطلق على الأتباع، قال اللّه تعالى: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر:46]. وأهل البيت وآل النبي سواء لما ذكرناه، وهما عبارتان عن هذه البطون الأربعة: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، لما روي عن النبي ً أنه لما قيل له: من أهل بيتك يا رسول الله؟ قال: (( آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس ))(1).
وأما العترة والذرية فهما سواء، وهما عبارتان عن أولاد الرجل، خلا أن العترة قد تطلق ويراد بها رهط الرجل الأدنون منه، وعترة الرسول ً وذريته هم أولاد فاطمة، الحسن والحسين وأولادهما،لما روى جابر ) عن النبي ً أنه قال: (( إن اللّه عزوجل جعل ذرية كل نبي من صلبه ، وذريتي من صلبك يا علي))(3). فإذا كانت العترة والذرية هم الأولاد كما قررناه، فلا يعلم ولد للرسول ً إلا من فاطمة، فلهذا كانوا هم العترة والذرية لا محالة، فأما لفظ العشيرة فإطلاقه على القبيلة الأقرب والأبعد، لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ }[الشعراء:214] فخص الأقربين لما لهم من الحق بالعلاقة بالنسب مع صحة إطلاقه على الأبعد.
__________
(1) أخرجه الكنجي والنسائي من رواية زيد بن أرقم.
(2) جابر بن عبدالله الأنصاري السلمي (بفتحتين) صحابي جليل من علماء الصحابة، غزا مع رسول اللّه ً تسع عشرة غزوة، وتوفي بالمدينة بعد سنة سبعين من الهجرة عن أربع وتسعين سنة. وهو من أكثر الصحابة الذين يروى عنهم الحديث.
(3) أورده الشوكاني في (در السحابة..) برقم 25 في منا قب علي. قال: وأخرج الطبراني عن جابر: أنه ً قال: ((إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وإن الله تعالى جعل ذريتي في صلب على بن أبي طالب)).

تنبيه: نجعله خاتمة لهذه المقدمات، في معرفة ما يعتمد من الأدلة المتقدمة في تقرير الأحكام الشرعية وإثبات الأمور العملية في المسائل الخلافية ومواقع الأنظار في المضطربات الاجتهادية، وقد أسلفنا ما يعتمد من الأدلة الشرعية، ونردفه بما لا يعتمد منها بمعونة اللّه تعالى.
واعلم أن هاهنا أموراً قد وقع الخلاف فيها بين العلماء، هل تكون عمدة لتقرير الأحكام الشرعية أم لا! فلا بد من ذكرها ليكون الناظر متمكناً من معرفة ما وقع فيه الخلاف مما ليس فيه خلاف، وجملة ما نورده من ذلك مآخذ عشرة:
المأخذ الأول: يتعلق بالقرآن.
وحاصل الأمر أن كل ما كان منقولاً بطريق الآحاد فإنه لا يعد قرآناً، ولا يكفر من رده، ولا يكون متلواً مثل ما تواتر نقله.
وهل يعول عليه في تقرير الأحكام العملية أم لا؟ فيه تردد وخلاف بين العلماء، ولنورد من ذلك ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: ما روته عائشة ) في عدد الرضعات قالت: كان فيما أنزل اللّه، عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن. ومات رسول اللّه ً وهي مما يتلى في القرآن. فاعتمده الشافعي في تقرير مذهبه في تحريم الرضاع بخمس، وأباهُ أصحابنا وأبو حنيفة لأمرين:
أما أولاً: فلأن القرآن إنما يثبت بطريق التواتر دون الآحاد.
وأما ثانياً: فلأنه لو كان قرآناً لكان متلواً من جملة القرآن مكتوباً في المصاحف، فلما بطل ذلك تعذر كونه معدوداً في القرآن.
__________
(1) أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة. زوج رسول اللّه ً تزوجها قبل الهجرة وهي بنت ست، وقيل: سبع، ودخل بها بالمدينة وهي بنت تسع. توفيت بالمدينة سنة 55هـ. وقيل: 58هـ عن خمس وستين سنة ودفنت بالبقيع. وهي من أكثر الرواة رواية للحديث. (مقدمة الأزهار).

المثال الثاني: ما روي [عن] ابن مسعود ) رضي اللّه عنه: أنه كان يقرأ: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ - مُتَتَابِعَاتٍ - }. فاعتمده أصحابنا وأبو حنيفة في إيجاب التتابع في كفارة اليمين، وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: لولا أن يقال: زاد عمر آية في كتاب اللّه، لكتبت آية الرجم: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة والله عزيز حكيم}. وقال: لا تتركوا آية الرجم فتهلكوا، أي لا تتركوها عن العمل بها فتهلكوا، فأثبتها من طريق الحكم دون التلاوة.
المثال الثالث: ما روي عن أبيِّ بن كعب ) أنه كان يقرأ في آية الإيلاء: {فَإِنْ فَاءُوُا - فِيْهِنَّ - فَإِنَّ اللّهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}. فاستدل به أبو حنيفة وأصحابه على أن الفيئة إنما تكون في مدة الإيلاء، وأباهُ أصحابنا والشافعي وأجازوا الفيئة بعد تقضي مدة الإيلاء.
فما هذا حاله لا خلاف في أنه غير معدود في القرآن لما ذكرناه، وإنما الخلاف في أنه: هل يجوز تقرير الأحكام العملية به أم لا؟ فأما كونه قرآناً فلا يثبت بحال.
__________
(1) أبو عبدالرحمن عبدالله بن مسعود الهذلي صحابي جليل، ومن أشهر من يُروى عنه الحديث من الصحابه. وروي أن علياً عليه السلام قال عنه: علم القرآن والسنة. وروى يزيد بن عميرة عن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قيل له: أوصنا. قال: التمسوا العلم عند أربعة وذكر منهم عبدالله بن مسعود، وهو ممن شهد بدراً، ولد لبضع وثلاثين قبل الهجرة، وتوفي بالمدينة سنة 32هـ.
(2) أبو المنذر أُبيّ بن كعب بن المنذر بن كعب أنصاري من بني النجار، مات سنة 22هـ على أصح الأقوال، وهو صحابي جليل عني بحفظ الكتاب والسنة حتى أصبح من أبرز من يروى عنه الحديث، وكانت له مكانة عظيمة لدى الصحابة، وكان يقضي في كثير من القضايا ويفتي في كثير من المسائل التي يرجع إليه فيها.

المأخذ الثاني: زعم بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي أن النافي لا دليل عليه، وجعل هذه طريقة في الاستدلال بأن يقول: أنا نافٍ فلا يلزمني إقامة دليل على ما نفيته، وإنما يتوجه الدليل على من كان مثبتاً لشيء من الأحكام، وقرر هذا بأن قال: من نفى نبوءة غيره لم يلزمه إقامة دليل على ذلك، وإنما يلزم من كان مثبتاً للنبوءة، وهذا فاسد في الاستدلال لا يعول عليه، فإن القطع بالنفي لا يجوز التعويل عليه إلا بدلالة، كما أن القطع بالإثبات لا بد فيه من دلالة، فهما مستويان في تقرير الدلالة عليهما، ولهذا فإن النفي قد يكون معلوماً بالضرورة، فإنا نقطع بأنا لسنا في لجة بحر ولا جناح نسر، ويُعلم بالنظر، فإنا قطعنا بأن المطلقة غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوْهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَا }[الأحزاب:49]. ويستدل على أنه لا نفقة للمتوفى عنها زوجها بأن النفقة تكون في مقابلة الاستمتاع وقد انقطع بالموت.
قوله: بأن النافي للنبوة لا دلالة عليه.
قلنا: هذا خطأ، فإن المنفي عليه دلالة، وهو عدم المعجز الدال عليها(1) فإذا عدم كانت منتفية لا محالة، فبطل التعويل على مثل هذه الطريقة في تقرير الأحكام كما زعموا.
__________
(1) النبوة.

المأخذ الثالث: سكوت صاحب الشريعة وتقريره من غير أن يكون له شعور بالفعل وتفطن به، ومثاله: ما يزعمه بعض أهل الظاهر (1) في إسقاط الغسل من الإيلاج من غير إنزال، لما روي عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نكسل على عهد رسول اللّه ً ولا نغتسل، وفي هذا دلالة على أنه لا يجب الغسل منه، وما هذا حاله من الاستدلال يضعف ولا يُلتفت إليه؛ لأن هذا أمر يفعل على جهة الخفية ولم يشعر به الرسول ً فيقر عليه أو ينكره، والأمر فيه محتمل، فلا يجوز تقرير الحكم بما فيه احتمال، وعن هذا قال عمر رضي اللّه عنه لمن احتج بهذا، وجرى الخوض بحضرة الصحابة: هل علم رسول اللّه ً بذلك فأقركم عليه؟ فقالوا: لا. فرده. فدل ذلك على أن هذه الطريقة غير معتمدة ولا تعويل عليها، ولأن الحجة بما يصدر من جهة الشارع، وهاهنا لم يصدر من جهته شيء أصلاً فيعول عليه في كونه شرعاً.
المأخذ الرابع: استصحاب الإجماع في محل الخلاف.
فما هذا حاله من الاستدلال غير معتد به؛ لأن حاصل أمره عند التحقيق في الصحة إبطاله، وما هذا حاله من الأدلة فلا عبرة به، وهذا نحو استدلال بعض أصحاب الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء وهو في الصلاة، فإنه زعم أنه يمضي فيها ولا يخرج، محتجاً بأنا أجمعنا على صحة إحرامه وانعقادها صلاة، فأنا أستصحب هذا الإجماع في إثباتها، فمن زعم أنه برؤية الماء يبطل إحرامه فإنه يفتقر إلى الدلالة.
وقد بطل ما عول عليه من الاستدلال، فإن أصحابنا و أبا حنيفة يبطلونه من جهة أن الإجماع إنما كان منعقداً قبل رؤية الماء فأما مع رؤيته فلا إجماع هناك؛ لأن الإجماع لا يمكن تقريره مع الخلاف، فكأنه أراد أن يصحح الإجماع فأبطله لاستعماله في محل الخلاف، فلهذا قلنا: إن في تصحيحه إبطاله.
__________
(1) الذين يتمسكون بظاهر الأدلة، وهم أتباع داود المشهور بالظاهري، ومن أعلامهم: ابن حزم صاحب كتاب (المحلى).

المأخذ الخامس: استعمال العموم مع قيام المخصص، ومثاله: استدلال الشافعي على وجوب المتعة في حق المدخول بها بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوْفِ }[البقرة:241] . فما هذا حاله يكون مردوداً؛ لأنه استدلال بالعموم مع قيام دلالة التخصيص وهو قوله ً: (( فلها المهر بما استحل من فرجها )) فأوجب للمدخول بها المهر لا غير، فلا تكون مندرجة تحت قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوْفِ} فلا يصح الاحتجاج به مع قيام ما ذكرناه من المخصص، وإنما يكون دلالة فيما عداه، وهو المطلقة غير المدخول بها ممن لم يسم لها مهر، ويبطل هذا الاستدلال بما ذكرناه من استصحاب الإجماع في محل الخلاف؛ لأنهما سيان في الإبطال؛ وكمن يحتج بقتل المرتدة بقوله ً: (( من بدل دينه فاقتلوه )). فما هذا حاله في الرجال والنساء على العموم، فيجب قتله بظاهر هذا العموم، وهذا غير صحيح، فإن قوله ً: (( نهيت عن قتل النساء )). قد أخرجه عن العموم فلا يصح الاحتجاج بالعموم مع وجود هذا المخصص؛ لأنه يدل على خروجه عنه فلا يكون مقصوداً به.
المأخذ السادس: قول الواحد من الصحابة، هل يكون حجة أم لا؟
فحكي عن الشافعي في القديم: أنه جعله حجة وقدمه على القياس، ومثاله: ما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال فيمن ظاهر من نسوة له أربع: إنه يلزمه كفارة واحدة عن جميعهن، ورجع الشافعي في الجديد عن هذا وقال: إنه لا يكون حجة بحال.

22 / 279
ع
En
A+
A-