أولها: أن يعلل الحكم المخصوص بعلة مخصوصة فيجب طرد(1) الحكم مع تلك العلة أينما وجدت؛ لأنه قد نص على العلة، والحكم تابع للعلة سواء كان قائلاً بتخصيص العلة أو مانعاً من تخصيصها؛ لأنه إذا كان مانعاً من التخصيص كان الحكم مساوياً للعلة في كل محل من محالها، وهكذا إذا كان قائلاً بالتخصيص؛ لأنه إنما يقول بالتخصيص لدلالة، فإذا لم توجد هناك دلالة، كان مذهبه التعميم لا محالة، فهذا وجه في معرفة مذهب المجتهد وإن لم يكن ناصاً عليه.
وثانيها: أن يعلم من جهته بتصريحه أنه لا يفرق بين المسألتين، أو ينعقد الإجماع من جهة على أنه لا تفرقة بينهما، ثم إنه نص على إحدى المسألتين فإنه يعلم بما ذكرنا أن حكم إحداهما حكم الأخرى، ومثاله أن يقول: الشفعة للجار، فيندرج تحت ذلك جميع الصور في الجيرة؛ لأنه قد حكم بالشفعة للجار على طريقة العموم فلا يجوز تخصيصه إلا لدلالة ولا دلالة ها هنا قائمة، فلهذا كان مذهبه التعميم في جميع الصور، أو يحكم مثلاً بالشفعة لجار الدار، فيعلم بذلك أن مذهبه وجوب الشفعة في جار العقار والأراضي إذ لا أحد من الأمة فصل بينهما، فعلمنا بمذهبه في شفعة الجار مع انضمام قرينة ألا أحد فصل بينهما من الأمة.. وجوب كونه قائلاً بالشفعة في كل جار من غير تفرقة بينهما.
__________
(1) يعني إجراء الحكم طرداً مع العلة.
وثالثها: أن يُعلم له مذهب مقرر في الأصول، فيفرع على ما يذهب [إليه] من ذلك وإن لم يصرح به، ومثاله: إذا كان يقول ويعرف من مذهبه القول بالعموم، وهو أن في اللغة صيغة موضوعة له، فإذا ورد قوله عليه السلام: (( كل مسكر حرام )). فنقول: مذهبه تحريم كل مسكر مما سوى الخمر؛ لأنه من القائلين بالعموم ولا مخصص هناك، فنعلم مذهبه في ذلك. وهكذا إذا ورد قوله ً: (( الشفعة في كل شيء )). فإنا نقول: يكون من مذهبه وجوب [الشفعة] في المنقولات؛ لأن هذا عموم وهو من القائلين به فيجب القضاء بأنه من مذهبه وإن لم يكن مصرحاً به، فهذا جملة ما يعرف به مذهب المجتهد إما من جهة التصريح، أو من جهة الإضطرار إلى قصده، أو بطريق الاستدلال على ما فصلناه لانسداد الاحتمالات فيها، وأنه لا محمل له إلا أنه قائل به فيجب كونه مذهباً له.
---
البحث الثاني: في بيان حكم التخريج على مذهب المجته
اعلم أن من الأصوليين من زعم أنما عدا ما قدمناهُ من الأوجه الثلاثة فإنه لا يعد مذهباً للمجتهد ولا ينسب إليه.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه، وهو أن كل ما كان يقتضيه قياس قول الإمام أو المجتهد في المسائل الفقهية والمضطربات الاجتهادية، فإنه يجوز أن يجعل قولاً له، وإن لم ينص عليه إذا كانت أصوله دالة عليه وتقريراته تشير إليه وتفهم من تصرفاته. نعم .. إنما يكون منسوباً إليه على جهة التخريج ولا بد من التصريح بذلك إذا عزي إليه لئلا يكون موهماً للكذب، فيقول المخرج: هذا يكون مذهباً له على جهة التخريج. وليكون تفرقة بين ما يكون صريحاً من مذهبه وبين ما يكون على جهة التخريج. والبرهان على صحة ما قلناه هو: أن الأمة مجمعة على جواز ذلك وحسنه فيجب كونه معمولاً عليه مقبولاً. وإنما قلنا: إن الأمة مجمعة على ذلك؛ فلأن جميع الفرق من الزيدية والحنفية والشافعية مطبقون على تخريج المسائل التي هي غير منصوصة على ما يكون أصلُ واحدٍ من الأئمة مقتضياً له و[على] بيان ذلك. أما أئمة الزيدية فلأن أصحاب القاسم )
__________
(1) الإمام القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ٍ أبو محمد ترجمان الدين. ولد سنة 170هـ، وروى عن أبيه وآخرين. وكان إمام زمانه ومن رواد تقعيد المسائل الفقهية ومن أوائل الدعاة إلى الاعتماد على العقل في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها، روى عنه أولاده محمد والحسن والحسين وداود، وكذا محمد بن منصور وجعفر النيروسي وغيرهم. قال في الطبقات: كان مبرزاً في أصناف العلوم و(بارعاً) في تصنيفها.. وكان عالماً مجتهداً دقيقاً في انتزاع الأحكام وترتيب الأخبار ومعرفة الرواة والمذاهب والآراء، وبارعاً في الكلام واستخلاص حقائقه وإبراز نتائجه. بويع بالإمامة سنة 220هـ.، في بيت محمد بن منصور، وكان ممن بايعه أحمد بن عيسى بن زيد، وعبدالله بن موسى، والحسن بن يحيى فقيه الكوفة، ثم سكن جبل الرس شمال المدينة. اعتمد حفيده الهادي يحيى بن الحسين على الكثير من تراث القاسم الفكري في الاجتهاد والرأي والرواية، وهذا واضح في الجامعين (الأحكام والمنتخب)، لحق القاسم بربه عام 244هـ في الرس. (مقدمتا الأزهار والبحر والطبقات).
ناقلون لمذهبه، مخرجون على ما تقتضيه أصوله مما لم ينص عليه ويصرحون بذلك، وهكذا القول في حال الناصرية (1) فإنهم قد دونوا نصوصه في كتبه، وما زالوا مخرجين على تلك النصوص ملحقين بمذهبه على جهة التخريج مالم يقل به وجعلوه من جملة مذهبه في الصحة والعمل. وأما اليحيوية(2) فإنهم إيضاً مخرجون على رأيه محصلون له على ما يفهمون من تصرفه وعلى حد ما يعهدون من أدائه في الحوادث المنصوص عليها من جهته، وأعظم من عني في التخريج على أصول هؤلاء الأئمة وعنى في ذلك بجده ومبلغ جهده، السادة الثلاثة: المؤيد بالله و أبو طالب )
__________
(1) الناصر: الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين السبط، أبو محمد الإمام الناصر (الكبير) المعروف بالأطروش. ولد سنة230هـ، وإليه تنسب الناصرية. كان عالماً ورعاً شجاعاً، وكان جامعاً لعلم القرآن والكلام والفقه والحديث والأدب والأخبار واللغة جيد الشعر، أسلم على يديه خلق كثير. توفي في شعبان سنة 304هـ.
(2) اليحيوية: أتباع مذهب الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، أول أئمة الزيدية باليمن ومؤسس مذهبها، خرج إلى اليمن بدعوة من زعمائها عام 283هـ، وكان بالرس من أعمال المدينة المنورة وبايعه الناس على الجهاد في سبيل اللّه وإحياء علوم وأحكام الشريعة، وتمركز بمدينة صعدة ويسمى إمام الأئمة، وهو أشهر أئمة اليمن بدون استثناء قضى حياته في الجهاد والعلم والتعليم، وله مؤلفات أشهرها (الأحكام) و(المنتخب والفنون) مطبوع. ترجم له كل المؤرخين ومؤلفي السير. وحياته ملخصة في كتاب (سيرة الهادي) توفي عام 298هـ، وقبره مشهور مزور بمسجده بصعدة.
(3) هو يحيى بن الحسين بن هارون، أبو طالب، الناطق بالحق أخو المؤيد بالله، له مؤلفات من أشهرها: (التحرير) في الفقه، وله تخريجات على مذهب الهادي، وكان يرى أن مالم يوجد فيه نص للهادي فمذهبه فيه كأبي حنيفة، وله (المجزي) في أصول الفقه، وفي علم الكلام (الدعامة في الإمامة)، وكتاب (الأمالي) المشهور بأمالي أبي طالب، مولده حوالي سنة 340هـ . بويع له بعد موت أخيه المؤيد بالله سنة 411هـ، وتوفي بآمل بطبرستان سنة 424هـ (مقدمتي البحر، والأزهار).
و أبو العباس ). وغيرهم من أصحاب كل إمام من هؤلاء الأئمة الثلاثة، فإن نصوصهم قليلة بالإضافة إلى المسائل المخرجة على أصولهم، وربما تختلف آراؤهم في التخريجات على حسب ما يعن من فهم مراده في تلك الحادثة، ويأتي كل واحد منهم بما يغلب على ظنه أنه غرضه ومراده.
__________
(1) أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. عالم، زاهد، ورع، قال عنه المنصور بالله عبدالله بن حمزة: هو الفقيه المناضل المحيط بألفاظ العترة أجمع غير منازع، حدَّث عن أبي زيد عيسى بن محمد العلوي، وعبدالرحمن بن أبي حامد ويحيى بن محمد بن الهادي، وعليه سمع كتابي الهادي (الإحكام والمنتخب) في الفقه، ومنه اتصل إسناد أهل اليمن، وروى عنه الأخوان (المؤيد بالله وأبو طالب) جميع كتب الزيدية، وله مؤلفات منها: (شرح الأحكام) و(شرح الإبانة) و(المصابيح)، وكان إمامياً ثم رجع إلى مذهب الزيدية، وقيل: لم يرجع. توفي سنة 353هـ.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فنصوصه وإن كانت كثيرة في المسائل، لكن أبا يوسف ) ومحمد بن الحسن الشيباني، في غاية الجد والجهد في تقرير مذهبه وتلخيص مسائله وإلحاق غير المنصوص بالمنصوص، وهكذا حال الشيخ أبي الحسن الكرخي والجصاص )، فإن هؤلاء هم العمدة في نقل مذهب أبي حنيفة والتخريج عليه، وغيرهم من عظماء الحنفية وزعمائهم الذين أصلوا مذهبه وفصلوا مسائله وأظهروا أسراره، وهكذا الطحاوي ) فإنه كان إماماً في مذهب الرجل(4) وكلهم جاهد في ضبط المذهب، وتقرير قواعده وتفريع مذهبه على حد ما يفهمون من آرائه وشيمه وأخلاقه، وعلى فهم مذهب صاحبهم في الأصول. فيكون ذلك مفرعاً عليه كما تراه في تصرفاتهم الفقهية.
__________
(1) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي صاحب أبي حنيفة، قاضي القضاة وهو أول من دعي بهذا اللقب، تفقه على يد أبي حنيفة، قال عنه المزني: أبو يوسف اتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن معين: كان أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء في كل يوم مائة ركعة، وقال: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف. توفي في بغداد في ربيع الآخر سنة 182هـ. (مقدمتي البحر والأزهار).
(2) زياد بن أبي زياد الجصاص الواسطي أبو محمد بصري الأصل. محدث مجمع على ضعفه، روى عن الحسن ومعاوية بن قرة. وعنه: هشيم ومحمد بن يزيد وعبدالوهاب الحفاف.
قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وتركه النسائي والدار قطني. ا.هـ. د. حسين العمري: تراجم، در السحابة للشوكاني.
(3) الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامه الطحاوي الأزدي أبو جعفر، صاحب التصانيف البديعة، كان شافعياً، تفقه على المزني، وانتقل إلى جعفر بن عمران. وانتهت إليه رئاسة الحنفية. وكان ثقة وثبتاً وفقيهاً عاقلاً كما وصفه ابن يونس، توفي في مستهل القعدة سنة 321هـ.
(4) يعني: أبا حنيفة.
وأما أصحاب الشافعي المتقدمون كالبويطي ) وحرملة ) والحسين الكرابيسي ) والمزني ) وغيرهم ممن عاصره فإنهم إما مخرجون(5) على نصوصه مع كثرتها وانتشارها، أو يستنبطون مسائل لم ينص عليها في أصوله المقررة، ومسائله المدونة عندهم. وهكذا القول في المتأخرين من أصحابه كأبي بكر بن الحداد (6)
__________
(1) يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري، قال في طبقات الشافعية: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من أبي يعقوب، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. ا.هـ . أبى أن يقول بخلق القرآن فسجن وقيد حتى مات سنة 231هـ ببغداد. ا.هـ . ط. ش. ج1/71 . ط. الشيرازي ص109.
(2) أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبدالله بن حرملة بن عمران التجيببي، أحد الحفاظ المشاهير من أصحاب الشافعي وكبار رواة مذهبه الجديد. قال الشيرازي: كان حافظاً للحديث وصنف (المبسوط) و(المختصر)، ولد سنة 166هـ، ومات في شوال سنة ثلاث وقيل: أربع وأربعين ومأتين. والتُجيْبي: نسبة إلى تُجِيب بتاء مثناة من أعلى مضمومة وقيل: مفتوحة، ثم جيم مكسورة بعدها مثناة من تحت ثم باء موحدة: وهي قبيلة نزلت مصر. (طبقات الشافعية، طبقات الفقهاء).
(3) أبو علي الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الكرابيسي، كان جامعاً بين الحديث والفقه، سمي بالكرابيسي؛ لأنه كان يبيع الكرابيس وهي الثياب الخام (الأقمشة). مات سنة 245هـ. (طبقات الفقهاء 191، طبقات الشافعية ج1/63).
(4) إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي أبو إبراهيم البصري، أخذ عن الشافعي وأخذ عنه الطحاوي. كان فقيهاً عالماً، وله مؤلفات كثيرة، ومذهب مستقل، وهو أكبر أصحاب الشافعي، خرَّج له المرشد بالله، وهو منسوب إلى مزينة. توفي في رمضان سنة264هـ.
(5) مخرجون بالتضعيف من خَرَّج، وهو تخريج الرأي ونسبته إلى صاحبه من مجمل نصوصه.
(6) أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر الكناني المصري المشهور بابن الحداد، قال عنه صاحب طبقات الشافعية: كان إماماً مدققاً في العلوم سيما في الفقه، وكان كثير العبادة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويختم القرآن في كل يوم وليلة، صنف كتاب (الباهر) في الفقه في مائة جزء، وكتاب (الفروع المولدات). مات بمصر لأربع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. عن تسع وسبعين سنة، ودفن في سفح جبل المقطم عند أبويه. (طبقات الشافعية).
وابن الصباغ ) صاحب (الشامل) وأهل العراق أيضاً، فما من واحد من هؤلاء إلا وقد خرج على مذهبه، وألحق بالمسائل المنصوصة في (الأم)(2) أكثر منها، وما يزالون في الأعصار الخالية والآماد المتمادية مخرجين على نصوصه لا يصرفهم عن ذلك صارف. وأصحابه أدق الفقهاء نظراً، وأكثرهم خوضاً، وأحكمهم في تقرير القواعد وتحرير الضوابط.
وأما أصحاب مالك فأول من صنف في الحديث مالك؛ فإنه وضع (الموطأ)(3) وقرأ عليه وسمعه الناس، وقد عني أصحابه بمذهبه أشد العناية، وخرجوا وأصلوا وفصلوا وأكثر أهل المغرب على اتباع مذهبه؛ وكان مستوطنا المدينة ولكنه شاع مذهبه في ناحية المغرب، وولع حذاق المغاربة به، ولهم تصانيف في الأصول والفروع كلها على رأي مالك.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا، أن الأمة مجمعة على القول بالتخريج وعلى جوازه وحسنه، وفي هذا دلالة على كونه معمولاً به على رأي كل ذي مذهب من المذاهب كما أشرنا إليه، وإذا كان الأمر كما قلناه، كان صحيحاً وكيف لا؟ وقد قال صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه): (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )). فهذه دلالة تقرر ما ادعيناه من صحة القول بالتخريج والعمل عليه. لا يقال: فإذا خرج بعض أصحابه ذلك الإمام على مذهبه وخرج آخر ما يخالفه، فعلى أي التخريجين يكون عمل العامي الذي يقلده، وما يكون حكم الفتوى على رأيه، والحال ما ذكرناه؟
__________
(1) أبو نصر عبد السيد بن محمد البغدادي المعروف بابن الصباغ الشافعي، برع في علوم الفقه والحديث حتى اشتهر، وهو ثقة حجة، من مصنفاته كتاب (الشامل)، وهو من أجود وأشهر كتب الشافعية، كف بصره في آخر عمره، وتوفي ببغداد سنة477هـ.
(2) كتاب حديثي فقهي مطبوع في خمسة مجلدات.
(3) كتاب (الموطأ): مسند مالك، مطبوع في مجلد واحد.
لأنا نقول(1): إذا كان هذان المخرجان عالمين بمذهبه مخلصين له، فتخريجهما مقبول لا محالة، ويجب نقلهما للعامي ويخير في العمل بأحدهما كما لو كان له في المسألة قولان والتبس التاريخ بينهما، فإنهما ينقلان للعامي يعمل بأيهما شاء، فهكذا هذا من غير تفرقة بينهما، والله أعلم بالصواب.
ولابد أن يكون بين المسألة المخرجة والمخرج عليها قرب ومداناة، بحيث لا يكون التخريج مبايناً لما خَرَّج عليه ولا مناقضاً له، جارياً على نعت الملائمة لنصوصه وتصرفاته.
نعم.. إذا قال المجتهد في الحادثة بقول، ثم قال بعد ذلك: ولو قال قائل فيها كذا وكذا لكان مذهباً، فإن ما هذا حاله لا يكون مذهباً له بمجرد قوله هذا، ومن أصحاب الشافعي من زعم أنه يكون مذهباً له، ولكن إنما يكون مذهباً له إذا كان جارياً على أصوله ملائماً لها جاز ذلك لا بمجرد قوله وحكايته بما ذكرناه. وهكذا لو نص على واقعة بحكم معين، ونص في مثلها على نقيض ذلك الحكم، لم يجز نقل أحد القولين إلى الآخر، ومثاله أن يقول: الوضوء يفتقر إلى نية، ثم يقول: الغسل لا يفتقر إلى النية. فهذان قولان متنافيان في هاتين المسألتين لا يجوز نقل أحدهما إلى الأخرى لما فيهما من المخالفة، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي جواز نقل حكم إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على القولين، وهذا يكون على التفصيل الذي أشرنا إليه.
__________
(1) في الأصل: (لا نقول).
---
البحث الثالث: في كيفية القولين للمجتهد في المسألة الاجتهادية وحكمهما
اعلم أن من الأصوليين من جوز أن يقال: للمجتهد في هذه الواقعة قولان، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق وقال: إنه لا معنى لذلك.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه؛ إذ لا وجه للنفي أو للإثبات على الإطلاق، والحق الذي نعول عليه في القول بأن للمجتهد في المسألة قولين، هو أنه إذا نظر في المسألة فحدث له فيها قول، ثم عاود النظر فيها مرة أخرى فقال فيها بقول آخر، لكن جُهِل التاريخ بينهما ولم يُعرف المتقدم منهما من المتأخر، فلا جرم نحكي القولين جميعاً عنه من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يحمل عليه قول العلماء: إن للمجتهد في المسألة قولين، وعلى هذا ينقلان للعامي المقلد له في المسألة، ويخير بينهما إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وإذا كان الأمر كما قلناه، وجب أن يحمل ما يحكى عن المؤيد بالله وغيره من أصحابنا من اختلاف القولين أو الأقوال، ويحمل ما يحكى عن الشافعي من اختلاف القولين أو الأقوال، فمتى عرف المتقدم منهما على المتأخر(1) فإنه يكون العمل عليه واجباً ويكون ناسخاً له، أو يعرف الصحيح منهما من الفاسد، فيكون القول هو الصحيح دون غيره، فأما ما لا يعرف فيه التاريخ ولا يعلم صحة أحدهما من فساد الآخر، فإنه يقال فيه: إن له قولين على هذا الوجه، وأكثر أقوال الشافعي قد ميزها أصحابه، وعرفوا المتقدم منها من المتأخر، وأوضحوا الصحيح منها من الفاسد، والذي اعتاص عليهم فيها تاريخ تقدم أحدهما على الآخر هي مسائل قليلة حكاها أبو إسحاق الأسفرائيني )
__________
(1) في الأصل: (الآخر).
(2) إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإمام ركن الدين أبو إسحاق الإسفرائيني المتكلم، الأصولي، الفقيه، شيخ أهل خراسان، له مصنفات كثيرة منها: (جامع الحلي) في أصول الدين خمسة مجلدات، وله مؤلفات أخرى. توفي يوم عاشوراء سنة 418هـ. ا.هـ ملخصاً من طبقات الشافعية برقم 131.