وقد حكي عن بعض المتفقهة: إنكاره، وأنه لا يكاد يوجد، وأظنه أبا علي الطبري ) من أصحاب الشافعي، وهو فاسد(2)، فإنا لا نريد بالنص: ما كان الاحتمال منتفياً عنه من جميع الوجوه، وإنما نريد به: ما لا يحتمل التأويل في المعنى الذي هو صريح فيه. وقد تكون الآية الواحدة مشتملة على النص والظاهر والمجمل. ومثاله قوله تعالى:{أَقِيْمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ }(3).[البقرة:43، 83، 110] فإنهما نص في مطلق الطلب لما أمره به، وهما ظاهران في الوجوب؛ لأنه يحتمل غيره، وهما مجملان في كيفية المأمور بها.
فما كان منصوصاً عليه لا يجوز العدول عنه إلا بأمر ينسخه أو يعارضه.
وأما الظاهر: فهو ما كان محتملا لأمرين: أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر.
فما كان له ظاهر في اللغة فإنه يحمل على ظاهره إلا لدلالة، وهذا كقوله تعالى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بَأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ }[ البقرة: 228]. فإنه ظاهر في كل مُطَلَّقة لغة، لكنا أخرجنا الآيسة من الحيض لصغر أو كبر، والحامل والمرتدة.
وما كان ظاهراً بالشرع، فإنه يحمل على ظاهره شرعاً إلا لدلالة، وهذا نحو الصلاة، فإنها تحمل عند الإطلاق على ظاهرها الشرعي إلا لدلالة؛ لأنها صارت ظاهرة في معناها الشرعي، فلا تصرف عنه إلا لأمر يقتضيه ويدل عليه، فلا تحمل الصلاة على الدعاء إلا لدلالة خاصة، وهكذا القول في الصوم وغيره، تحمل على معانيها الشرعية عند إطلاقها.
__________
(1) أبو علي الحسن بن القاسم الطبري، يعرف بصاحب (الإفصاح) وهو شرح على (المختصر). وله مصنفات في الأصول ومسائل الخلاف والجدل. مات سنة خمسين وثلاثمائة للهجرة. ويعد من فقهاء بغداد كونه تفقه بها. ومن فقهاء طبرستان التي ينسب إليها. (طبقات الشافعية، وطبقات الفقهاء).
(2) يعني: الرأي لاصاحبه.
(3) هكذا في الأصل بدون الواو قبل {أقيموا} ولم نجدها في القرآن الكريم مجردة من الواو.

وأما المجمل: فهو الذي لا يفهم المراد من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره. ثم هو على وجهين:
أحدهما: لا عرف فيه من جهة اللغة، ومثاله قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }[الأنعام: 141]. لاعرف فيه من جهة اللغة. فما(1) هذا حاله [فهو] مجمل لا يمكن الاحتجاج به؛ لأنه لا يمكن فيه معرفة جنس الحق ولا قدره فلا يمكن العمل عليه إلا لدلالة موضحة لقدره وجنسه وكيفية تأديته.
وثانيهما: أن يكون له عرف من جهة اللغة. وما هذا حاله يمكن العمل عليه فيما كان متعارفاً فيه. ومثاله قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }[ النساء: 23]. فإن ما هذا حاله يمكن العمل عليه؛ لأنه قد صار متعارفاً في الاستمتاع من كل الوجوه فيمكن امتثاله، ولا يكون مجملا لما ذكرناه، فهذه جملة أدلة الكتاب التي تدل عليها.
فأما العموم فلا حاجة إلى إفراده بالذكر، لاندراجه تحت ما ذكرناه من الظاهر؛ لأن دلالة العموم من جهة الظهور، ولا يكون نصاً إلا في صورة قد ذكرناها في الكتب الأصولية، وهو : إذا كانت الاحتمالات منسدة إلا احتمالاً واحداً.
الضرب الثاني: أدلة السنة. ودلالتها على ما تدل عليه إما من جهة القول، وإما من جهة الفعل، وإما من جهة التقرير.
أما القول: فهو نص وظاهر ومجمل كما ذكرناه في دلالة الكتاب.
فالنص: كقوله ً: (( في كل أربعين من الغنم شاة ))(2). وكقوله ً: (( في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة )) (3). فهذا وما أشبهه نص في الحكم يجب المصير إليه ولا يجوز العدول عنه بتأويل؛ لأنه لا يحتمله وإنما يجوز تغييره بناسخ أو معارض له.
__________
(1) في الأصل: فأما ما.
(2) سيأتي في محله في كتاب الزكاة.
(3) سيأتي في محله.

والظاهر من السنة: فهو جميع الأوامر الشرعية، فإن ظاهرها دال على الوجوب وليس نصاً في الوجوب، كقوله عليه السلام لأسماء: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ))(1). وكقوله: (( إذا فضخت(2) الماء فاغتسل )). وهكذا جميع المناهي الشرعية فإنها دالة بظاهرها على التحريم كقوله: (( لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن )). مع احتماله لغيره.
والمجمل: كقوله عليه السلام: (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)). فما هذا حاله مجمل لا يمكن الاحتجاج به إلا بدلالة توضح ما ذكره من الحق الذي استثناه.
وأما الفعل: فهو شرع لدلالة العصمة عليه(3)، ثم إما يرد مستقلاً بنفسه، وإما يرد بياناً لغيره.
فإن ورد على جهة الابتداء فإن لم يكن فيه قربة فهو دال على الجواز كالبيع والشراء، والأكل والشرب؛ لأن أدنى درجاته الجواز، فأما الحظر فلا يجوز في حقه لأجل العصمة.
وإن كان فيه قربة فقد وقع فيه تردد بين العلماء، فمنهم من حمله على الوجوب، ومنهم من حمله على الندب، و منهم من وقف في حاله وجوز الأمرين جميعاً. هذا كله إذا ورد على جهة الإبتداء والاستقلال.
وإن كان وارداً على جهة البيان فحاله معتبر بالمبين في الوجوب والندب والجواز عند قوم، ومنهم من قال بأنه إذا كان بياناً فهو واجب بكل حال، سواء كان بياناً لواجب أو مندوب أو جائز؛ لأن البيان لا بد منه على كل حال وإلا كان الخطاب لغواً لا فائدة فيه.
وأما التقرير: فهو على وجهين:
__________
(1) سيأتي في محله.
(2) فضخت: قال في اللسان: الفضخ: كسر كل شيء أجوف نحو الرأس والبطيخ.. وانفضخ الدلو: إذا دفق ما فيه من الماء ج3/45 - 46.
(3) على الرسول ً .

أحدهما: أن يرى رسول اللّه ً أمراً فيقر عليه، فما هذا حاله يكون جائزاً؛ لأنه لو كان قبيحاً لم يجز أن يقره عليه، ومثاله: ما روي أن قيس اً(1) صلى ركعتين بعد الفجر، فقال ً: (( ما هاتان الركعتان ))؟ فقال: هما ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه.
وثانيهما: أن يُفْعَل بعهده ً لا بحضرته، فإن كان من الأمور الظاهرة التي لا يخفى حالها، فيكون بمنزلة ما لو فُعل بحضرته وسكت عليه؛ لأن الغرض هو علمه به وتقريره عليه، وإن كان مما يجوز أن يخفى، لم يدل على جوازه، ومثاله: ما روي عن بعض الصحابة أنهم قالوا: كنا نجامع ونكسل. [والإكسال: هو الإيلاج من غير إنزال]. على عهد رسول اللّه ً ولا نغتسل. فما هذا حاله [فهو]مما لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنه من الأمور الخفية، ويجوز أن يكون الرسول ً لم يشعر به، ولهذا لم يعمل به الصحابة ولم يرجعوا إليه.
فهذه وجوه أدلة الكتاب والسنة.
الضرب الثالث: دلالة الإجماع، وهو في دلالته على وجهين:
أحدهما: أن يكون إجماعاً عاماً، وهذا نحو إجماع الأمة كافة على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، فما هذا حاله يجب المصير إليه والعمل به، ومن خالف ذلك مع العلم به فإنه يحكم بكفره؛ لأن ذلك معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة صلوا ت الله عليه فمخالفه يجب الحكم بردته وخروجه عن الدين.
وثانيهما: إجماع خاص، وهو إجماع الأمة، أو العترة على حكم الحادثة، فما هذا حاله يجب العمل به والمصير إليه عندنا.
__________
(1) قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الساعدي صاحب رسول اللّه وابن صاحبه، سيد وأمير وقائد ووالٍ وعاقل كريم. كان صاحب لواء النبي ً في بعض مغازيه. شهد فتح مصر، ووليها لعلي، ثم لزم علياً حتى استشهد فبايع الحسن بن علي، ثم رجع بعد الصلح إلى وطنه، ومات في آخر حكم معاوية على الأصح. (در السحابة 664).

فأما إجماع الأمة فمتى حصل على حكم من الأحكام فإنها تحرم مخالفته؛ لكونه قاطعاً ويفسق المخالف له لما في ظاهر الآية من الوعيد على من خالفه(1). وأدنى الدرجات في الوعيد الفسق، ويحرم وقوع الاجتهاد على مخالفة حكمه من جهة أن الاجتهاد على مخالفة المقطوع ممنوع، كما لو اجتهد على مخالفة النص كان فاسداً فهكذا هاهنا.
وأما إجماع العترة فهو حق وصواب لظاهر الآية والخبر(2) ولا يفسق من خالفه لعدم الدلالة على فسقه. والفسق إنما يكون بدلالة قاطعة شرعية، وليس في ظاهر الآية والخبر ما يدل على فسق من خالفه(3).
وهل يكون قاطعاً فيما تناوله أم لا؟ فيه نظر وتردد، والأقرب أن دلالته ظنية كالظواهر القرآنية ونصوص السنة المنقولة بالآحاد، وكالإجماعات من جهة الأمة التي نقلت على طريق الآحاد لما في ظاهر الآية والخبر - الدالين على كونه حجة - من الاحتمال، وإذا كان مظنوناً جاز مخالفته بالاجتهاد، ولهذا فإنك ترى كثيراً من المسائل التي وقع فيها إجماع العترة، الخلاف من جهة الفقهاء فيها ظاهر، والاجتهاد فيها مضطرب من غير نكير هنا في المخالفة ولا تأثيم للمخالف ولا تحريج عليه، ولو كان إجماعهم قاطعاً لحرم الاجتهاد ولكان الخطأ مقطوعاً به. وفي هذا دلالة على كونه ظنياً وأنه لا يحرم الاجتهاد.
وهذا ما أردنا ذكره في تقرير أدلة الخطاب من الكتاب والسنة والإجماع.
المرتبة الثانية: في بيان دلالة المفهوم من الخطاب
__________
(1) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}.
(2) الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والخبر: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي)).
(3) ولكن الدلالة في مفهومهما.

وهو أن يكون الحكم مستفاداً من غير ظاهر اللفظ وصريحه، فما كان على هذه الصفة فهو في لسان الأصوليين يقال له: المفهوم. ثم إنه يأتي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول منها: فحوى الخطاب.
وحقيقة هذا الضرب آيلة إلى أن المسكوت (عنه) يكون أقرب إلى الفهم من المنطوق به، ودلالة اللفظ عليه من جهة التنبيه، ومثاله قوله تعالى في حق الوالدين: {فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ }[الإسراء: 23]. فنص بتصريح اللفظ على المنع من التأفيف، ونَبَّه بطريق الفحوى على منع الضرب والشتم وسائر الإيذاء من طريق الأولى، ومثله قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِيْنَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ }[آل عمران: 75]. فنص على القنطار ونبه به على ما دونه من جهة الأحق والأولى، ونص على الدينار ونبه على ما فوقه بطريقة الأولى. وكقوله عليه السلام: (( لا تضحوا بالعوراء ولا بالعرجاء )) فنص على العور والعرج، ونبّه بذلك على ما فوقه من العمى وقطع الرجلين من طريق الأَولى، فما هذا حاله (فهو يُفهم) عند الخطاب لا من جهة الخطاب وصيغة لفظه.. ثم تردد الأصوليون، فمنهم من قال: إن المنع من الضرب مستفاد من جهة عرف اللغة، ومنهم من زعم أنه مفهوم من جهة معنى اللفظ وفحواه، وهل يسمى قياساً أم لا؟ فمنهم من جوز ذلك ومنهم من منعه، وحكي عن الشافعي أنه سماه: القياس الجلي.

والمختار عندنا: أن هذه المعاني كلها مفهومة من جهة فحوى اللفظ لا من جهة صيغته؛ لأنه ليس هناك صيغة تدل عليها، وفي هذا دلالة على ما قلناه من أخذها من جهة المعنى دون اللفظ، وأن ما هذا حاله يسمى قياساً أيضاً؛ لأن حقيقة القياس، فهم المسكوت (عنه) من شيء منطوق به، وهذا ها هنا حاصل على هذه الصفة، ولا يضر في تسميته قياساً كونه مفهوماً بطريق الأحق من المنطوق به؛ لأن في بعض الأقيسة ما يكون جلياً وبعضها يكون غامضاً، فلا يمنع كونه جلياً سابقاً إلى الفهم من تسميته قياساً. والله أعلم.

الضرب الثاني منها: لحن الخطاب، وهو المضمر الذي لا يتم ويكون مفيداً إلا به، ومثاله قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَاْنَفَلَقَ }(1)[ الشعراء: 63]. ومعناه: فضرب فانفلق. فحذف قوله: فضرب لدلالة الكلام عليه من جهة لحنه. ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر }[ البقرة: 184]. والمعنى: فيه فأفطر. فحذفه لما كان الكلام لا يكون تاماً إلا بتقديره، وهذا من باب حذف المسبب لدلالة السبب عليه، ولهذا جاءت الفاء منبهة على المسببية. ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكثيراً ما يقع في الكلام الفصيح كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ ال قَرْيَةَ }(2)[يوسف:82]. المراد: أهل القرية؛ لأن القرية يتعذر سؤالها وخطابها، فلو لم يقدر المضاف لم يكن للكلام فائدة ولا أفاد معنى ولهذا كان تقديره واجباً، هذا كله إذا كان غير تام(3) من دون تقديره وجب تقديره، فأما إذا كان الكلام يتم من دون إضماره فلا وجه لإضماره، وهذا كقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ }[يس:78]. فلا يجوز أن نقول: المراد منه أهل العظام إلا بدلالة منفصلة من جهة أن الكلام مستقل فصيح من دون إضمار، فلا حاجة إلى الإضمار من غير دلالة تدل عليه.
__________
(1) تمام الآية: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّودِ العَظِيْمِ} وأول الآية: {فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوْسى أَنِ...}.
(2) تمام الآية: {الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون}.
(3) هذه الكلمة استبدلنا بها كلمة جاءت في الأصل غير مفهومة، ولكن معناها هو: (غير تام) كما يفهم من السياق.

الضرب الثالث: دليل الخطاب، وهو أن يكون معلقاً على شيء مذكور فيدل ذلك على انتفائه عما عداه، وقد يكون الحكم معلقاً إما على الصفة كقوله عليه السلام: (( في سائمة الغنم زكاة )). فدل ذلك على نفيها عن المعلوفة. وإما على العدد كقوله ً: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا ً )). فدل ذلك على أنه إذا كان الماء دونهما فإنه يحمل الخبث، وإما على جهة الشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }[الطلاق: 6]. فدل ذلك على أن من كانت خلواً عن الولد فلا نفقة لها إذا طُلِّقَت. وبين الأصوليين نزاع فيما هذا حاله، فحكي عن أبي العباس بن سريج أن تعليق الحكم بأحد الوضعين لا يدل على انتفاء الحكم فيما عداه. وهو محكي عن أصحاب أبي حنيفة )
__________
(1) هو النعمان بن ثابت التيمي الكوفي فقيه العراق وزعيم أهل الرأي، اشتهر بكنيته. قال عنه ابن المبارك مقولته المشهورة: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال عنه مالك: رأيت أبا حنيفة لوكلم في سارية من سواري المسجد أنها من ذهب لقام بحجته. وله مناقب كثيرة أفردها الذهبي في جزء خاص. وهو من أوائل من وضعوا أسس الفقه واشتهر مذهبه بالاحتجاج والرأي. ومن أشهر مؤلفاته: مسنده في الحديث. كان زاهداً في سلوكه يتكسب ولا يقبل جوائز السلطان، وقد أبى أن يتولى القضاء فضربه يزيد بن عمر بن هبيرة وسجنه. التقاه الإمام زيد بن علي وقرأ عليه بعضاً من مسائله الفقهية ونسب إليه قوله: قرأ عليَّ زيد فاستفدت منه أكثر مما استفاد مني. وعند خروج زيد وإعلانه الدعوة والثورة أيده أبو حنيفة، وعضده وظل يفتي الناس بالخروج مع زيد. وتلتقي الزيدية والحنفية في الفقه في كثير من مسائله الأصولية وفي الفروع، حتى قال الباحثون: الزيدية أحناف في الفقه. كما تلتقي الفرقتان في كثير من مسائل علم الكلام (أصول الدين) حتى اشتهرت في المدرسة الزيدية مقولة: أكثر علماء المعتزلة أحناف. توفي سنة 150هـ. (مقدمة الأزهار، مقدمة البحر، المحقق).

. ومن أصحاب الشافعي (1) من زعم: أن الحكم المعلق على الاسم دال على نفي ما عداه، والأكثر منهم على أنه غير دال.
والمختار عندنا: أن دلالة المفهوم مختلفة وأعلاها الشرط والغاية، فهذان يدلان على نفي الحكم عما عداهما وأدناه الاسم واللقب، فإنهما غير دالّين على نفي الحكم عما عداهما، والمتوسط بينهما هو الصفة، فكل هذه درجات المفهوم بعضها أقوى من بعض كما أشرنا إليه، وكلها مأخوذة من مفهوم اللفظ دون لفظه وصريحه، وهذه الدرجات قد أشرنا إلى تفاوتها وحصرها في الكتب الأصولية بحمد الله.
المرتبة الثالثة: في بيان دلالة المعقول، وهو القياس في أنواعه وضروبه.
__________
(1) أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي المكي نزيل مصر. شهرته معروفة بلغت الآفاق علماً وفقهاً واجتهاداً ورواية ورأياً. وعُرف الإمام الشافعي بالبحث المستمر، وهذا واحد من أسباب شهرته بتعدد الأقوال في المسألة الواحدة، تتلمذ على مالك وحفظ كتابه الموطأ، وبلغ درجة من العلم وهو صبي، وأفتى وهو ابن 15سنة. ويعتبر من الرواد في تقعيد أصول الفقه، وكان واحداً من دعاة الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنى، وقد امتحن بسبب ذلك. ولد عام 150هـ ليلة اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة، بمدينة غزة. وتوفي يوم الجمعة آخر شهر رجب سنة 204هـ بمصر ودفن بالقرافة الصغرى. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).

16 / 279
ع
En
A+
A-