وذهب الشيخان أبو الحسين ) ومحمود الخوارزمي ) إلى أن هذه الأحكام ليست أمراً زائداً على ذات الأفعال على حد ما يقوله الشيوخ من أصحاب أبي هاشم
فالحسن عندهما: ليس إلا أنه لا حرج على فاعله في فعله.
والقبيح: أمر يستحق عليه الذم. فقبح الظلم: ليس إلا أنه يستحق عليه الذم.
وحسن التفضل: ليس إلا أنه لا حرج على فاعله.
ووجوب شكر المنعم: ليس إلا أنه يستحق الذم(3) بتركه، وهكذا القول في سائر الأحكام كلها.
__________
(1) أبو الحسين، محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي. قال الإمام يحيى بن حمزة: هو الرجل فيهم. وقال ابن خلكان: كان جيد الكلام، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته، وله التصانيف الفائقة، منها (المعتمد) في أصول الفقه، ومنه أخذ الرازي كتاب (المحصول)، وله (تصفح الأدلة) في مجلدين و(غرر الأدلة) في مجلد كبير و(شرح الأصول) وكتاب في الإمامة، وله مذهب في علم الكلام منفرد عن البهشمية (أتباع أبي هاشم الجبائي).وله كتاب(الانتصار) في الرد على ابن الراوندي. توفي يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخرة سنة 437هـ ببغداد (مقدمة الأزهار).
(2) أبو محمد، محمود بن محمد بن العباس بن رسلان الخوارزمي. أحد علماء المعتزلة، وأعلام علم الكلام. قال في (طبقات الشافعية) عنه: إنه مهر في الأصول، وصار فريد الزمان في انتزاع البرهان من الأصول العقلية والقرآن. ولد بخوارزم في رمضان سنة 492هـ، له كتاب (الكافي). توفي في صفر سنة 503هـ عن أربعين سنة .ا.هـ ملخصاً من (طبقات الشافعية ج2/351).
(3) في الأصل: الظلم.

والمختار عندنا: ما عول عليه الشيخان: أبو الحسين والخوارزمي من المعتزلة (1).
ويدل على ما اخترناه: هو أن هذه الأحكام في الحقيقة راجعة إلى أمور سلبية والسلب نفي، والنفي لا يكون أمراً ثبوتياً، فضلاً عن أن يكون صفة زائدة على الفعل، وحكماً راجعاً إليه.
وبيان ذلك: أن المرجع بالحسن ليس إلا أنه لا حرج على من فعله كالأكل والشرب.
والمرجع بالقبح: هو أنه يحسن ذم فاعله ولا حرج على من ذمه عليه.
ويرجع بالوجوب على أنه لا حرج على من ذم تاركه.
وترجع حقيقة الندب: إلى أنه يحسن فعله ولا حرج على تاركه.
والمكروه: راجع إلى أنه لا يستحق تاركه ولا فاعله مدحاً.
والمباح: لا حرج على من فعله أيضاً ولا على من تركه.
فإذا كانت هذه الأحكام راجعة إلى ما ذكرناه من هذه السلوب(2) فلا وجه لجعلها أموراً ثبوتية وصفات راجعة إلى هذه الأفعال، وإنما تكون مزايا وإضافات تختص بالأفعال من غير أن يكون هناك وصف زائد على الفعل يختص به زائداً على ذاته لما أشرنا إليه.
فإذا تقرر أن الحكم المرجع به إلى ما ذكرناه، فالذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة البصرية والبغدادية، أن هذه الأحكام منقسمة إلى ما يستقل العقل بدركه، وإلى ما لا يستقل العقل بدركه.
__________
(1) سميت بالمعتزلة؛ لاعتزال واصل بن عطاء لحلقة الحسن البصري عند الخلاف في الحكم على مرتكب الكبيرة، أمؤمن أم كافر! كما جاء في سؤال أحد الداخلين إلى المسجد على الحسن البصري، وقبل أن يجيب قال واصل: إن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه في منزلة بين منزلتين، ثم قام واعتزل الحسن إلى إحدى اسطوانات المسجد فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي وأصحابه بالمعتزلة. وأبرز ما يميزهم: قولهم باختيار الإنسان في أفعاله.
(2) السلوب هنا، ربما قصد المؤلف بها جمع سَلْب، وهي بمعنى سالبة، أي نقيض: موجبة.

فالذي يستقل به العقل ينقسم أيضاً إلى ما يكون معلوماً بالضرورة، فلا يفتقر إلى نظر وتفكر، وهذا هو نحو قبح الظلم والعبث، ونحو وجوب شكر المنعم وحسن الإنصاف، وغير ذلك من الأحكام التي تُعلم ضرورة من جهة العقل.
وإلى: ما يكون معلوماً بنظر العقل وتفكره، وهذا نحو قبح الكذب النافع، وحسن الصدق الضار، فإن ما هذا حاله يحتاج إلى تأمل وفكر، فإن هذا الكذب يكون قبيحاً مع كونه نافعاً؛ لأن الوجه في قبحه كونه كذباً، سواء كان معه نفع أو لم يكن، وهكذا القول في حسن الصدق الضار، فإن الوجه في حسنه ليس إلا كونه صدقاً، سواء كان ضاراً، أو لم يكن ضاراً. فلا بد من تقرير البرهان على ما ذكرناه من حسن هذا وقبح ذاك، والرد لهما إلى الأصل في قبح أحدهما وحسن الآخر.
وأما الذي لا يستقل العقل بدركه: فهو سائر المقبحات والمحسنات الشرعية، فقبح الزنا والربا وشرب المسكر قبيح من جهة الشرع لا مجال للعقل فيه بحال، وحسن الصلاة والصوم والحج معلوم من الشرع لا تصرف للعقل فيه، ولا له هداية إليه، بل هو تحكم جامد للشرع لا يهتدي العقل إلى تفاصيل هذه المحسنات والمقبحات الشرعية.
والذي عليه محققو الأشعرية وجميع فرق المجبرة(1): أن الأحكام كلها شرعية، وأنه لا مجال للعقل في تقريرها وإثباتها، لا بضرورته ولا بنظره، وإنما مستندها الأدلة الخطابية، والأمور النقلية قطعيّها وظنيّها، وزعموا أنه لا حكم للعقل أصلاً، وإنما التصرف كله للشرع.
والمختار عندنا: ما عول عليه أصحابنا والمعتزلة.
__________
(1) المجبرة أو الجبرية: نسبة إلى القول بالجبر، وهو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى اللّه تعالى. والجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة هي القائلة بهذا، والمتوسطة التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، والجبرية التي تثبت للقدرة الحادثة أثراً في الفعل وتسميه كسباً، وهي الأشعرية. راجع (الملل والنحل) للشهرستاني ج1/85.

ويدل على ما اخترناه: هو أن هذه الأحكام لو كانت شرعية لكان لا يعلمها إلا من علم طريقها، ونحن نعلم قطعاً أن منكري النبوات والشرائع قاطعون بصحة هذه الأحكام من استحسان الصدق، وتقبيح الكذب والظلم، ونعلم بالضرورة كونهم عالمين بها ولو كان مستندها النقل لانْسَدَّ عليهم العلم بها.
وفيما ذكرناه كفاية على التنبيه في تحسين العقل وتقبيحه، وهو المقدار اللائق بالكتب الفقهية. وقد أودعنا الكتب العقلية ما فيه كفاية، ورددنا على الشيخ أبي حامد الغَزالي وغيره من نظار الأشعرية، وكشفنا عن غلطاته والحمد لله تعالى.
المطلب الثاني: في صحة نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع.
واعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة من علماء الأمة في جواز ذلك وصحته، وما يحكى عن الصيمري ) من أن دلالة اللفظ على معناه لذاته، فلا يصح نقله، فلا يلتفت إليه لضعفه؛ لأن حقيقته آيلة إلى تغير الدواعي وهو تابع للاختيار، سواء قلنا: إن إفادة الألفاظ لمعانيها بالتوقيف أو بالمواضعة، فلا مانع من مثل هذا، ولا حرج من جهة العقل أن يختار مختار نقل اسم من معناه إلى معنى آخر لغرض من الأغراض، وإنما الخلاف في وقوعه سمعاً. وقد وقع فيه تردد ونزاع بين العلماء.
__________
(1) أبو عبدالله، أحد معتزلة بغداد، وكان في بداية أمره بصرياً إلاً أن كراهته لأبي هاشم جعلته يرحل إلى بغداد. وقال القاضي عبدالجبار: وله الكثير من التصانيف في علم الكلام، والصيمري في الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة.

فالذي ذهب إليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة أن في الشرع أسماء منقولة عن معانيها اللغوية إلى معان أُخَر قد وقعت المواضعة الشرعية، وصار نقلها تاماً، حتى صارت معانيها اللغوية نسياً منسياً لا تفهم منها بحال، ثم تنقسم إلى أسماء شرعية، نحو الصلاة والزكاة والحج والصوم .. وغير ذلك من الأسماء المفيدة لمعانٍ شرعية. وإلى دينية، نحو قولنا: مؤمن، كافر، فاسق، منافق. ونعني بكونها دينية هو أنها قد صارت تفيد مدحاً وذماً بتصرف الشرع ونقله.
وحكي عن بعض فرق المرجئة(1): أنها باقية على معانيها اللغوية من غير أن يكون للشرع تصرف فيها بحال، وعلى هذا قالوا: بأن الفاسق مؤمن لكونه مصدقاً بالله ورسله، وإلى هذا ذهب بعض النظار من الأشعرية، كما هو محكي عن أبي بكر الباقلاني ).
__________
(1) المرجئة: قال الشهرستاني: وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. ا.هـ (الملل والنحل ج1/139).
(2) أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني، متكلم الأشعرية. توفي سنة (403هـ). شذرات الذهب. ج3/16، الفلك 217 هامش، ألَّفَ أكثر من خمسين كتاباً في الفقه وأصول الأشعرية والدفاع عنها والرد على المذاهب الأخرى. منها (التمهيد) و(الأصول الكبيرة) و(هداية المسترشدين) وكتابه المعروف (إعجاز القرآن).

وحكي عن الشيخ أبي حامد الغَزالي أنه قال: لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسماء، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن معانيها اللغوية بالكلية. وحاصل هذه المقالة أنها دالة على معانيها اللغوية مع اشتراط أمور من جهة الشرع، كالصلاة مثلاً، فإنها كما هي دالة على الدعاء بوضعها اللغوي، فهي دالة على هذه الأفعال من الركوع والسجود والأذكار وسائر معانيها. وحكي عن ابن الخطيب الرازي من الأشعرية: أنها دالة على هذه المعاني الشرعية من جهة المجاز، وعلى معانيها اللغوية على جهة الحقيقة. وحاصل هذه المقالة أنها دالة على المعنيين جميعاً: أحدهما بطريق الحقيقة، والآخر من طريق المجاز. والتفرقة بين مذهبه ومذهب الغَزالي، أن الغَزالي يقول: بأنها مفيدة للمعنيين جميعاً على جهة الحقيقة ولا مجاز فيها، بخلاف مقالة ابن الخطيب كما ترى.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إلى أسراره وهو: أن هذه الأسماء وإن أفادت معاني شرعية قد دلت عليها بتقرير الشارع عليها، لكنها دالة على معانيها اللغوية، وغير خارجة عن كونها دالة عليها.
ويدل على ما اخترناه من ذلك: هو أن دلالتها على معانيها اللغوية هو الأصل، فمن يدعي إخراجها عنها فهو مدعٍ خلاف الأصل، فلابد من دلالة على ذلك. فإذا دل الشرع على إفادتها لمعانٍ شرعية فليس بينهما تعارض ولا تدافع، فيجب القضاء بحصولهما جميعاً، فتكون دلالة الصلاة على الدعاء بالوضع اللغوي، وتكون دلالتها على هذه الأفعال المفترضة فيها بالاصطلاح الشرعي، ولا معنى للاقتصار على معناها اللغوي كما هو رأي بعض فرق المرجئة، ولا وجه للاقتصار على معناها الشرعي كما هو رأي أصحابنا والمعتزلة.

فأما من زعم أنها دالة على معناها اللغوي بطريق الحقيقة، وعلى معناها الشرعي بطريق المجاز، فهو تحكم لا وجه له كما حكيناه عن ابن الخطيب الرازي؛ لأن معناها الشرعي سابق إلى الفهم فلا وجه لعده في المجاز كما زعم، فلا غنى للفقيه عن هذه المسألة، وقد اقتصرنا على ذكر الوجه المختار بدليله، وأعرضنا عن ذكر أدلة المخالفين ونقضها؛ لأنها مترددة بين المباحث الكلامية والأسرار الأصولية، فهي بمعزل عن المباحث الفقهية التي تصدينا لكشفها وبيانها والله تعالى الموفق للصواب.

---
المقدمة الثانية: في بيان المستند لنا في تقرير أحكام الشريعة التى قدمنا ذكرها
واعلم أن الذي نذكره في هذه المقدمة، هو الكلام في بيان الأصل في تقرير هذه الأحكام الفقهية، وفي بيان التفرقة بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية، فهذان فصلان تحتهما فوائد جمة لابد للخائض في المسائل الخلافية من إحرازها.

---
الفصل الأول: في بيان عمدتنا في تقرير الأحكام الفقهية
والمعتمد في تقريرها هو الرسول وما يصدر عنه.
والصادر عنه: إما خطاب، أو مفهوم الخطاب، أو معقول الخطاب، أو استصحاب، فهذه مراتب أربع لا يخلو مستندنا في الأحكام الشرعية عن واحدة منها، نذكر ما توجه في كل واحدة منها بمعونة اللّه تعالى.

---
المرتبة الأولى: في تقرير الأدلة الخطابية
ونعني بالخطاب: ما كان مأخوذاً من لسان صاحب الشريعة، إما بنفسه كالكتاب والسنة، أو ما يكون مستنداً إليهما كالإجماع؛ فإنه وإن لم يكن من الخطاب، لكنه معتمد على الكتاب والسنة في تقرير كونه حجة، فلهذا كان لاحقاً بهما وإن لم يكن خطاباً. فهذه ضروب ثلاثة معتمدة في تقرير الأحكام.
الضرب الأول منها: أدلة الكتاب، ولا خلاف في كونه عمدة في تقريرها، ودلالتنا عليها: إما من جهة النص، وإما من جهة الظهور، وإما من جهة الإجمال، وقد أورد بعض الأصوليين دلالة العموم، وزادها على ما ذكرنا ولا وجه له، فإن دلالة العموم إنما هي ظاهرة فهي مندرجة تحت الظاهر، فلا وجه لإفرادها بالذكر من الظواهر.
فأما النص: فهو اللفظ الذي لا يحتمل التأويل بحال قريباً كان أو بعيداً، وهذا كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة: 163] وغير ذلك مما لا يحتمل سوى معناه الموضوع من أجله.

15 / 279
ع
En
A+
A-