- الطعن في طريقة الاستدلال التي يستخدمها مخالفه.
- إلزام المخالف من متن دليله، بدلالة أخرى تخالف مذهبه أو قوله في مسألة أخرى أو في جانب آخر من نفس المسألة.
- رده عن طريق العلاقة بين العام والخاص أو الأولويات.
- صرفه عن غرض المخالف بسبب لغوي لتفسير بعض مفرداته، أو لما يتعلق بحيثياته.
- الاحتجاج عليه بدليل أقوى منه لدى المخالف.
- بتساقط الأدلة عند استوائها في القوة والدلالة.
- بإحدى الأولويات المعروفة، كأولوية الحاظر على المبيح، والخاص على العام.
3- كما يلحظ ما هو أبعد من هذا، وهو إيراده واحتجاجه ببعض الأحاديث التي لم تصح لديه لأي سبب، ولكنه لا يعتمد على شيء منها إلا إذا كانت دلالته ثابتة لدى المؤلف بأدلة أخرى، أو جاء الحديث متطابقاً مع المقاصد والحيثيات العامة للمسألة بما يوافق أصله فيها، أو جاء لإثبات فرع في مسألة يستوي طرفاها لدى المؤلف في اختيار الأخذ به.
…وإيراد المؤلف للحديث في مثل هذه الأحوال، يمكن اعتباره إلى الاستئناس بالدليل، أقرب منه إلى الاستدلال، علماً بأن طريقة الاستئناس بالنص، ظهرت مصطلحاً جديداً في القانون تطلق على إيراد نص من قانون قد ألغي، أو نسخ أو عُدِّل بقانون تالٍ له.
4- ومثل براعة المؤلف في بحث ومناقشة وتعليل الأدلة النقلية، فهو نموذج متميز في المناقشة والتحليل والكشف والاستنباط وأساليب الاحتجاج، ورده في مجال الاستدلال العقلي، مستخدماً قدراته الواسعة في اللغة والمنطق وأصول القياس ومبادئ العقل والنظر.
المعلم الثالث: مداخل الاختلاف في القول.
كما سبق الحديث مركزاً عن اتساع الآراء والأقوال في المذهب الزيدي، وعن الاختلاف في الفروع (الفقه) بين أئمته وعلمائه بصورة قد لا توجد بين أعلام المذاهب الفقهية الأخرى.. فإن كتاب (الانتصار) ربما يدل أكثر من غيره لتوسعه في الأقوال والحجج وطرق الاستدلال، يدل على مداخل عامة للاختلاف الذي يكثر بين أقوال أئمة الزيدية وعلمائها وفقهائها. وقبل أن أورد نماذج من هذه المداخل، أشير إلى أن الاختلاف بينهم في حد ذاته، يؤكد أمرين:
أحدهما: الاعتماد على البحث والنظر في اختيار كل مجتهد لرأيه في المسألة؛ كونهم لا يجيزون التقليد للمجتهد ولا يوصدون طريقاً عنه إذا توفرت شروطه، ولأنهم يرون في قواعدهم وأصولهم، (أن الاجتهاد هو مطلوب اللّه تعالى من عباده)(1).
وثانيهما: غنى واتساع وعمق المذهب الزيدي بالكتب والمؤلفات والبحوث، في مختلف فنون وعلوم الفكر الإسلامي.
ونورد الآن نماذج من هذه المداخل، وهي مجرد أمثلة على المداخل التي يبدأ منها اختلاف الأقوال في الفروع بين طرفين قد يكون كلاهما مقراً بمبدأ الاحتجاج في أصل تلك المسألة:
1- الأحوط في مقابل الأصل، وذلك في مثل النجاسة الخفية، متى جفت فإن وجودها يصبح حكماً شرعياً فقط، لا وجوداً مادياً، وبالتالي فإن النجاسة لا تنتقل منها بواسطة الرطوبة، ومع اتفاق الطرفين على هذا الأصل، فإن أحدهما يذهب إلى ترجيح اعتبارها منجسة من باب الأحوط، وهو أحوط غير مطلق، بل لا يخلو في الأغلب من دليل عام، فيأتي في مثل هذه الحال بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}. والهجر لا يتحقق إلا بتجنب موقع النجاسة حتى يزول حكمها بغسلها.
2- الاجتهاد في قضية من قضايا العبادات. ويرى الطرف الآخر أن الاجتهاد غير وارد فيها بوصفها من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه تعالى بها، وذلك في مثل الفعل الكثير في الصلاة أو تحديد بلوغ الصبي بالعقل.
__________
(1) أصول المذهب، مقدمة شرح الأزهار ص46.
3- الاحتجاج بقول الصحابي. ويكون الاختلاف في أن يرى أحد الطرفين أن قول الصحابي في المسألة اجتهاد، واجتهاد الصحابي لنفسه لا يلزمنا الأخذ به، ويرى الطرف الآخر أن قول الصحابي هذا، لا يكون إلا توقيفاً من جهة صاحب الشريعة...إلخ.
---
المحور الثالث: شخصية المؤلف
هذا هو المحور الثالث والأخير من المحاور العامة لمقدمة الكتاب. وكنا في بداية المحور الثاني قد قسمناه ضمن تصنيف منهج المقدمة، إلى قسمين:
أولهما: ملامح عامة عن الكتاب، وهو الذي انتهى ببداية هذا المحور.
وثانيهما: نُبذٌ من أقوال وآراء المؤرخين والباحثين في الكتاب، وقد تجاوزنا القسم الأخير لإدراجه ضمن هذا المحور اختصاراً للمقدمة، وتجنباَ لتكرار الأقوال والآراء عن الكتاب مرة، ثم عن المؤلف أخرى، لتَوَحُّد هذه النبذ عن الكتاب والمؤلف في موضع واحد، ثم للترابط اللصيق بين ما كتبه المؤرخون والباحثون عن الموضوع بشقيه.
هذا.. لمجرد التنبيه عن التجاوز وتداركه. ونعود إلى شخصية المؤلف في جوانب ثلاثة لهذا المحور تتناول شخصية المؤلف وحياته ومؤلفاته:
أولا: شخصية المؤلف:
لعل هذا هو الجزء الوحيد من هذه المقدمة، الذي نجد العجز عن القول فيه بأي لون من ألوان القول المتاحة للذهن أن يمد القلم بشيء منها؛ لأن النظرة الخاطفة إلى مقام هذا الإمام الذي تجمعت فيه خلال قلما تجتمع لغيره، تخرس الألسن والعقول، وتجعل العالم النحرير يتطلع مذهولاً إلى جوانب شخصيته التي يبدو في كل جانب منها فارساً فذا وعلماً متميزاً، في علمه واجتهاده وجهاده ومؤلفاته وإخلاصه وورعه وشجاعته، وفي زهده وتنسكه وتقواه، وفي كل واحدة من هذه الفضائل تتركز وتجتمع كل فضائله وخلاله المميزة، وهذه الفضائل والخلال، لم تكن أو شيء منها صفات خلعها عليه مديح شاعر، أو إطراء ناثر، أو حب قريب لصيق، أو إعجاب تلميذ أو شهادة صديق، بل كانت تعبيراً عن شمائل شخصيته، وترجمة لسيرة حياته.
وأمام شخصية تذهل العالِمَ النحرير، فكيف بنا ونحن أحوج إلى قراءة شيء من مؤلفاته، والتأمل في جانب من أسلوبه ومنهجه، واستقراء جزء من هممه ومثابرته، منا إلى ما يمكن أن نقول عنه؟
ولذا نصمت برهة لنطالع خلالها نُبَذاً ملخصة مما كتب المؤرخون والباحثون عن هذه الشخصية، ونكتفي بما رُوي عن المتنبي في الإمام علي بن أبي طالب، جد هذا الإمام.
وتركت مدحي للوصي تعمدا .... مذ صار نوراً مستطيلاً ماثلاً
وإذا استطال الشيء قام بنفسه .... وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
---
نسبه
ترجم للمؤلف فضيلة الوالد العلامة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي في كتابه (التحف شرح الزلف)، فقال:
(هو الإمام المؤيد بالله أبو إدريس، يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر الزكي بن علي التقي بن محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن سيد (زين) العابدين علي بن الحسين السبط ابن الإمام الوصي (علي بن أبي طالب) عليهم السلام)(1).
هذه نعتبرها الرواية المعتمدة لنسبه.
أولاً: لأن المؤلف (العلامة مجدالدين) معروف بطول الباع في أنساب الأئمة وسيرهم، وذلك هو موضوع كتابه هذا (التحف) إضافة إلى علمه الجم في سائر علوم الفكر الإسلامي وتاريخه ولغته.
ثانياً: فإن ما جاء في (التحف)، يتفق مع (مشجر) الأنساب الذي يحتفظ بنسخ وأجزاء منه، بعض الأسر في اليمن(2).
والتركيز نوعاً ما على هذه النقطة، ناتج عن ما لا حظناه من نقص وخطأ في بعض المراجع التي أوردت نسب المؤلف، ومنها مثلاً: (البدر الطالع) للعلامة الشوكاني (3). وكذا في كتابي الدكتور الباحث المعروف أحمد محمود صبحي، وهما: (الإمام يحيى بن حمزة وآراؤه الكلامية)(4) و (الزيدية)(5) وهو لاشك سقط عابر لا رأياً في رواية النسب، ولعله حدث أثناء الطباعة.
ويضيف في (التحف) عن ترجمته:
__________
(1) ص185 الطبعة الثانية.
(2) المشجرات في اليمن تطلق على تسلسل أنساب الأسر التي تصمم على شكل شجرة تبدأ بالجد الأعلى من الجذع ثم من يليه في شكل فروع وأغصان الشجرة. ومن هنا سميت: مشجرات.
(3) محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. وكتابه (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) طبع في مجلدين عام 1348هـ، وطبع عام 1990م.
(4) طبع في مجلد واحد.
(5) الزيديه في اليمن) صدر في عدة طبعات أولاها سنة 1984م.
(.. ولما بلغت دعوته بعض العلماء قام خطيباً، وحث الخلق على إجابته، وأقسم بالله ما يعلم من أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) إلى وقته، من هو أعلم منه..).
---
مولده وحياته
ترجم له كثير من المؤرخين اليمنيين تراجم مختلفة، ولكنها تتفق في إضفاء وصفه بالإمام العالم المجتهد المجاهد الزاهد الناسك. ونقتصر كما قلنا على نبذ من هذه التراجم، بما يعطي أبرز المعالم عن المؤلف. ومن المترجمين له:
1- الشوكاني:
يقول عنه العلامة محمد بن علي الشوكاني في (البدر الطالع): (ولد بمدينة صنعاء، سابع وعشرين من صفر سنة669هـ تسع وستين وستمائة، واشتغل بالمعارف العلمية وهو صبي، فأخذ في جميع أنواعها على أكابر علماء الديار اليمنية، وتبحر في جميع العلوم، وفاق أقرانه، وصنف التصانيف الحافلة في جميع الفنون، فمنها: الشامل، ثم ذهب يورد مؤلفاته، ويعقب عليها بالقول: (..وله غير ذلك من المصنفات الكثيرة حتى قيل: إنها بلغت إلى مائة مجلد، ويروى أنها زادت كراريس تصانيفه على عدد أيام عمره، وهو من أكابر أئمة الزيدية بالديار اليمنية، وله ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان، وسلامة صدر، وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل، ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذَّب عن أعراض الصحابة المصونة (رضي اللّه عنهم) وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله..)(1).
ثم يواصل العلامة الشوكاني الحديث مختصراً عن دعوة المؤلف إلى نفسه، وعن معارضيه، وينتهي إلى القول: (.. ولكن أجاب الناس في الديار اليمنية دعوة صاحب الترجمة، ولم يلتفتوا إلى غيره، وكان من الأئمة العادلين الزاهدين في الدنيا المتقللين منها، وهو مشهور بإجابة الدعوة، وله كرامات عديدة، وبالجملة فهو ممن جمع اللّه له بين العلم والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومات في سنة 705هـ خمس وسبعمائة بمدينة ذمار، ودفن بها، وقبره الآن مشهور مزور)(2).
__________
(1) ج2/331
(2) ومدينة ذمار من أشهر مدارس الزيديه في اليمن.
ويلاحظ أن هناك خطأ في تاريخ وفاته المضبوطة في هذا الكتاب؛ إذ إن تاريخ وفاته كان في عام 749هـ تسعة وأربعين وسبعمائة للهجرة، أي بعد التاريخ الوارد هنا بأربعة وأربعين عاماً وهذا يكاد يتفق عليه المؤرخون لحياته والمترجمون لشخصيته، ولم نجد فيما بين أيدينا من المراجع ما يخالف هذا التاريخ لوفاته (749هـ) فيما عدا كتاب (غاية الأماني) ليحيى بن الحسين، الذي عد وفاة المؤلف ضمن أحداث عام747هـ(1). فالمؤلف لم ينته من تأليف كتابه (الانتصار). إلا في أواخر عام748هـ. وكذا تتفق الروايات على أن تاريخ دعوته إلى الإمامة، كانت في عام729هـ، عقب وفاة الإمام محمد بن المطهر.
2- يحيى بن الحسين بن القاسم:
يعيد يحيى بن الحسين بن القاسم في كتابه (غاية الإماني في أخبار القطر اليماني)، دعوة المؤلف إلى أحداث عام 730هـ، (..وفيها كان قيام أربعة أئمة من أئمة العترة الزكية ٍ وهم: علي بن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين، والإمام الأعظم المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والواثق بالله المطهر بن الإمام محمد بن المطهر بن يحيى، وأحمد بن علي بن أبي الفتح..)(2).
(...وأما الإمام يحيى بن حمزة فظهر في جهات صنعاء، وبلغت دعوته بلاد الظاهر وصعدة، والشرف، واستقر في حصن هران قبلي ذمار..).
(..وكان الإمام يحيى بن حمزة أفضلهم وأشرفهم علماً وعملاً، له التصانيف المفيدة، والمناقب العديدة..)(3).
3- العلامة مجدالدين بن محمد المؤيدي.
__________
(1) غاية الأماني ـ ج2ـ ص511.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر.
وعن دعوة الإمام يقول مؤلف التحف: (.. قال في دعوته: إني قد تسنمت غارب هذه الدعوة مستكملاً لشرائطها، غير خارج عن استحقاقها، وقد لزمتكم الإجابة، ولكم البحث والاختيار..) إلى آخر كلامه. قال السيد الهادي بن إبراهيم (1) في كتاب (كاشف الغمة): (قال الإمام الناصر صلاح بن علي بن محمد: وكان الواجب عليهم اختياره؛ لأنه الأسبق بالدعوة، وكلامه داع إلى الصوب سالك منهج السنة والكتاب..)(2).
4- الدكتور حسين عبدالله العمري:
وقال عنه الباحث اليمني الدكتور حسين العمري، في كتابه (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني): (.. الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، أحد أعاظم أئمة اليمن، وأكابر علماء الزيدية. ولد بصنعاء، واشتغل بالمعارف الإسلامية من صغره، دعا لنفسه بالإمامة عقب موت الإمام المهدي محمد بن المطهر سنة 728هـ ..)(3). (.. أما كتبه ومصنفاته فكثيرة، ويروى أن كراريس تصانيفه زادت على عدد أيام عمره، ولعل أجلها كتاب (الانتصار) في 18 مجلداً...) (4)، (..يعتبر كتاب الانتصار من أعظم كتب الفقه عند الزيدية، بل لقد وصِف بأنه لا نظير له في كتب المتقدمين والمتأخرين..)(5).
5- الأستاذ عبدالله محمد الحبشي:
__________
(1) الهادي بن إبراهيم بن علي الوزير المتوفى سنة 822هـ.
(2) التحف شرح الزلف) ص185 الطبعة الثانية.
(3) ص176 الطبعة الأولى.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.