الأول: علم المؤلف في اللغة، وهو عَلَم من أعلامها كما سبق ذلك، وباعه الطويل وبحثه الواسع وآراؤه المميزة في علوم اللغة العربية، كل هذه وغيرها جعلت من هذا الإمام إماماً في نهجها، وواحداً من الرواد في كشف أسرارها واجتلاء حقائقها، ومدرسة في فنونها مميزة بمعالمها، ومن يبحث في كتابه (الطراز) الآنف الذكر، يعتقد أن مؤلفه لم يشغل حياته بغير اللغة العربية.. نحوها وصرفها ومفرداتها ومعانيها وبديعها وقواعدها وأقيستها وعروضها وشعرها ومؤلفاتها وأعلامها.
ونعرض هنا لنموذج ثلاثي من آرائه المميزة:
1- من القواعد التي أثبتها المؤلف في كتابه (الطراز) أن المفردات أسماء وصفات وأفعالاً، المنقولة من معناها اللغوي (الأصلي) إلى الدلالة على معان شرعية مثل الصلاة والزكاة والحج والمسلم والمؤمن والكافر والفاسق وغيرها وما تصرف عنها.. تعبر عن معانيها الشرعية هذه تعبيراً حقيقياً، وتعتبر فيها حقيقة لغوية، لا مجازية كما يقول جمهور الأشاعرة وغيرهم.
وجاء في (المطلب الثاني) من التمهيد لبداية هذا الكتاب، فأكد هذه القاعدة وعللها وأورد آراء المخالفين وناقشها، وهذه المسألة موضوع بحث ونقاش وخلاف واسع بين أعلام ومدارس الفكر الإسلامي، وهي وإن كانت قضية لغوية وبداية الخلاف فيها لغوياً، فإن جوهرها وجوهر الخلاف حولها، يجعلها قضية أساساً في (أصول الدين) و (أصول الفقه) والفقه.
2- في مسألة الخلاف في مسح كل الرأس في الوضوء، من حيث دلالة صيغة آية الوضوء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم}، هل توجب الآية الكريمة مسح كل الرأس، أم بعضه؟ فذهب جمهور الفقهاء تقريباً، إلى الدلالة على البعضية، بحجة أن (الباء) في {بِرُؤُوسِكُم}، تأتي في مثل هذا المكان للتبعيض، وتدل عليه في دلالتها ومعناها اللغويين، وعارض المؤلف هذا القول رأياً وتفسيراً، وذهب يعرض أوجه الاستدلال ضد مخالفيه بطريقة شيقة بقدر ما هي شاملة وعميقة ومقنعة وواضحة، في أوجه ثلاثة:

أولها: أن الباء تأتي للإلصاق، وهو معناها الأصلي الذي يجب الرجوع إليه، فهي تعني عكس ما ذهب إليه مخالفوه، وهو إلصاق المسح بكل جزء من الرأس.
ثانيها: استشهد بابن جني، وهو واحد من أبرز فلاسفة اللغة العربية والمجددين في علومها.. وأورد رأي ابن جني الذي قال فيه: (ومن زعم أن الباء للتبعيض، فشيء لا يعرفه أهل اللغة، ولا ورد في شيء من كلام العرب منظومه ولا منثوره) (1).
وثالثها: أورد المؤلف قاعدة في غاية الدقة والأهمية، ومفادها، أن الباء في {بِرُؤُوسِكُم}، تدخل على المفعول به لغرض التعميم لا التبعيض، ذلك أن الفعل إذا كان متعدياً بنفسه فله حالتان:
الأولى: إذا جاء دون تعديته بالباء في مثل: مسحته، فإنه هنا يفيد التعميم والتخصيص.
والثانية: إذا جاء مع الباء في مثل (مسحت به) فإنه لا يفيد إلا التعميم؛ لأن الفعل المتعدي بنفسه لا يحتاج إلى الباء لغرض التعدية، ولكن لتفيد معنى جديداً هو التعميم.
ثم يؤكد بأن (باء التبعيض) لم ترد في القرآن الكريم على الإطلاق.
__________
(1) راجع كتاب (الخصائص) للعلامة ابن جني، مطبوع في ثلاثة مجلدات.

3- وكما أثبت القاعدة السلبية السالفة في القرآن الكريم بعدم وجود الباء للتبعيض فيه، أثبت قاعدة مماثلة أخرى في القرآن، هي عدم وجود العطف على المحل، وذلك في تفسير آية الوضوء في {وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْن} منصوبة، بأن نصبها ليس عطفاً على المحل من {بِرُؤُوسِكُم} بفعل {وَامْسَحُوا}. فهو يرى أن (.. الظاهر من قراءة النصب هو الغسل من غير تأويل، والظاهر من قراءة الجر هو المسح من غير تأويل، ولا تعارض بين القراءتين ولا تنافي بينهما..). ثم يقول: (وطريقة الجمع بينهما، هو أن النصب في الأرجل إنما كان على طريقة العطف على الأيدي). وذلك بالفعل {فَاغْسِلُوا}، من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا..} ثم يمضي في توضيح القاعدة (.. والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه شائع أو (سائغ) كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍٍ فِيْهِ قُلْ قِتَال فِيهِ كَبِيْر وَصَدٍّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْر بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَام}. وإنما عطف المسجد الحرام على الشهر الحرام؛ لأن توجه السؤال إنما كان عن القتال فيهما..). ولذلك فإن عطف {الْمَسْجِد الْحَرَام} كما يقول، على {عَن سَبِيلِ الله}، غير جائز لمجيء التعاطف في الجواب، طبقاً لتوجه السؤال.
وأتوقف هنا قليلاً للتنبيه على أمرين أراهما جديرين بذلك في هذا الموضع:

الأمر الأول: أن علوم اللغة العربية في منهج الزيدية، أساس العلوم ومفتاحها وفأسها، ولذا فإنهم يبدأون باستيعابها والتحقيق الدقيق والعميق فيها، في سن مبكرة، فلا يكاد أحدهم يصل إلى درجة الاجتهاد، إلا وقد أصبح واحداً من كبار أعلام اللغة في شتى فنونها وعلومها وآدابها، لأنهم يرونها رائدة كل العلوم الأخرى، والسبيل والوسيلة الوحيدين لفهم ومعرفة العلوم معرفة كافية، وفهماً صحيحاً وسليماً يُسَهِّلُ كشف حقائقها وإبراز دقائقها على أقوم الطرق وأصح الوجوه، أي أن اللغة العربية لديهم كالعقل، فكلاهما يحظى لدى الزيدية بالاعتماد عليه رائداً لكل العلوم، فإذا كانت اللغة في منهجهم بمنزلة اليدين في تناول العلوم، فإن العقل فيه بمنزلة العينين المبصرتين في الإنسان، سواء بسواء.
الأمر الثاني: أن لدى الزيدية مصطلحات في تسمية العلوم تبين مدى نظرتهم إلى كل علم ودرجة اعتمادهم عليه وموقعه في أولويات منهجهم. ومن هذه المصطلحات، الأسماء:
1- (أصول الدين) لعلم الحقائق الإلهية أو علم الكلام، ومفهوم التسمية أن الدين يقوم على هذه الأصول، وهو لديهم كذلك.
2- (أصول الفقه)، لعلم الاستدلال وأصول الأدلة وأنواعها وأوجه وحالات الدلالات فيها ومصطلحات التشريع.. أو مصادر التشريع.
…وسر تسميتها بـ(أصول الفقه) توحي بدلالتها على أن الفقه يقوم عليها، وأن فقهاً بلا أصول كبناء بلا أساس، لا يمكن أن يقوم و إذا قام شيء منه، فلا يلبث أن يتداعى وينهار.
3- (الأصولان) بمعنى علمي الأصول: أصول الدين وأصول الفقه.
4- (علم الآلة) لعلوم اللغة العربية وعلم المنطق. وتوحي التسمية بأن علوم اللغة بمنزلة الآلة لكل العلوم لا تتحقق معالجتها بدونها.
5- (الفروع) وتطلق على الفقه. وهي تسمية آتية من تأثير المقابل فيها، وهو الأصول أو الأصولان.
الثاني. من نماذج لغة الكتاب.. أسلوبه العام.
وفي الأسلوب العام للغة الكتاب، ميزات ثلاث:

أولاها: الأسلوب العام لعصره ومدرسته، من ميل إلى الجزالة في اللفظ، والاهتمام بجمال التعبير وبلاغة القول.
ثانيتها: تميز المؤلف بأن أسلوبه في جزالة لفظه وبلاغة تعبيره يأتي مقروناً بأسلوب العالم الحصيف في اختيار مفرداته، بحيث يستوعب ويستفرغ توظيف كل منها معناها الكامل، وأن يظهر جمال التوظيف وبلاغة التعبير، ضمن سياق متسق ومتناغم وسهولة ظاهرة وراقية وبعيدة عن الهبوط، قدر بعدها عن أي تعقيد أو تكلف.
ثالثتها: قِصَرُ الجمل المتتابعة في السياق، مع قدرة فيها على دقة التعبير واستيعاب المعاني المقصودة بما تفيده مباشرة وإيحاء وتصريحاً وإشارة، منطوقاً ومفهوماً. إلى جانب سرعة تناولها للموضوعات الكبيرة والصغيرة والأصلية والفرعية، وما يترتب عليها من دقائق وتنبيهات وفوائد وتوخي احتمالات وتساؤلات واردة، وتوقي أية ثغرات أو شروخ أو تجاوز قد يحدث أو يحتمل حدوثه أو يفهم احتماله.
الثالث من النماذج الثلاثة - مصطلحاته المميزة:
للمؤلف مصطلحات مثل غيره من أمثاله خاصة به، ولا نقصد بذلك أنها مصطلحات بالمفهوم العلمي المنهجي، وإنما نعني بذلك جُمَلاً وتعابير يكثر إيرادها في مواضعها مما لا يجعلها تظهر تكراراً، بل هي من نوع تلك التعابير التي لا يلبث القارئ أن يستحليها ويولع بها ويحفظها ويرتاح لاستعارتها وترديدها، وهذا لون من التعبير تُطلق عليه عموماً، صفة (السهل الممتنع). وفيه دلالة على الأصالة الفنية وغنى القاموس اللغوي وسرعة البديهة وتألق الذاكرة، وكل هذا الكلام قليل في ذاته كثير في قصوره عن استيعاب صفة من صفات هذا الإمام العالم الجليل، بالرغم من أننا نقول هذا عنه، وهو في عقد الثمانين من عمره، قد آدت كاهله السنون، وأنقضت ظهره تبعات العلم والتعليم والجهاد والدعوة إلى الله. ومن جُمَلِهِ التي تجدها أينما ذهبت في صفحات كتابه (الانتصار)، هذه التي نوردها مثالاً تلقائياً، لم نتوخَّ فيها انتقاء أو ترتيباً:

- (وهذه من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه بها، فلا مجال فيها للعقل أو النظر أو الاجتهاد). يورد هذه العبارة في أماكن الحاجة إليها مثل موضع الرد على من يحاول تعليل شيء من العبادات ثابت بالدليل السمعي فقط، مثل عدد الركعات في الصلاة، وغُسل الجنابة، والتثليث في غَسل أعضاء الوضوء.
- (قلنا عن ذلك وجهان: أما أولاً..). في بداية رده على أقوال مخالفيه.
- (والمختار تفصيل نشير إليه..).
- (وقد ذكرناه في موضعه، وذكرنا فيه تقرير المختار والانتصار، فأغنى عن الإعادة).
- (قلنا: دليلنا حاظر، ودليلكم مبيح، فلا جرم كان الأخذ بالحاظر أحق وأولى).
- (الانتصار يكون بإبطال ما عولوا عليه، أو ما جعلوه عمدة لهم).
- (وقد نجز غرضنا من هذا الباب، ونشرع الآن بعون اللّه في الباب الذي يليه).
الملمح الثاني من ملامح الفقرة الثالثة: عنصرا الاستدلال: (النص والعقل).
غني عن التوضيح القول: بأن منهج المؤلف في استخدام هذين العنصرين الرئيسيين في الاستدلال، هو منهج أئمة وعلماء الزيدية عموماً، وهو أسلوب في منهج الاستدلال، اشتهرت به الزيدية بين المدارس الإسلامية الأخرى، وهو أسلوب تميزت به الزيدية كما يشهد بذلك أعلام وباحثون من خارج هذه المدرسة. ولكن الذي قد يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للإستغراب، أن نسمع من يحاول قلب هذه الميزة، لغرض الطعن بها في هذا المنهج الزيدي من ناحيتين بصفة عامة، يظهر التزيد أو الجهل في كلتيهما:
أولاهما: القول بأن الزيدية يقدمون العقل على النص.
ثانيتهما: انصرافهم إلى الفقه وكتب الفقه عن مسندات الحديث وكتب السنة.

ولئن كانت هذه المسألة تتردد في هذا العصر، فإن علماء وأعلام مدرسة الزيدية، قد فرغوا من مناقشتها والبت فيها في الكثير من كتبهم وكتاباتهم، ولسنا بمن يُنتظر تصديهم للرد عنها بالقول الفصل وفصل الخطاب، ولكنا وجدناها على جادة منهج هذه المقدمة، قضية تطرح نفسها من جديد، فكان لا بد من المرور عليها مرور الكرام بما قد يسد ثغرة في هذا المنهج، ويصل فقراته ويحافظ على اتساق سياقه. ولا نريد أن نستطرد في المناقشة بأكثر مما يحقق الغرض المشار إليه ضمناً، وذلك بحصرها في ثلاث نقط:
الأولى: أن القول بأن الزيدية يقدمون العقل على النص، هو ادعاء غير دقيق؛ كونه يتضمن عدة معان محتملة من حيث منطق صيغته ومفهومه المباشر.
فهل يعني أنهم يأخذون برأي العقل، ويتركون النص؟ فهذا غير وارد ولا يقبله عقل قائله؛ لأن العقل الذي يأخذ برأيه ويترك النص، لا يمكن أن يكون عقلاً ولكنه الهوى وحده؛ لأن العقل لدى الزيدية، من بعض صفاته أنه الذي يهدي به اللّه تعالى صاحبه إلى الحق والصواب، والحق والصواب هو التمسك بالدليل السمعي مهما أمكن ذلك، أما ترك النص والإعراض عنه، فإنه اتباع الهوى الذي يقود إلى الضلال.
أم يعني أنهم يأخذون بالعقل، فإذا لم يجدوا فيه ما يريدون عادوا إلى النص؟ وهذا قول يرفضه الإسلام عقيدة وأصولاً وفقهاً وأدلة وعقلاً ونقلاً وتشريعاً وعملاً.

الثانية: وبصرف النظر عَمَّا قد يمكن طرحه من احتمالات أخر، فإن العقل لدى الزيدية، ولدى كل أمة محمد كما هو مفروض، لا يسبق الدليل السمعي ولا يتجاوزه، ولكنه يرتبط به ارتباطاً مباشراً، بوصفه وسيلةَ تَلَقِيّ النص وفهمه وتحديد موجبه وعلاقته بما قد يوجد من نظائره ونقائضه، وتفاوتها قوة وضعفاً وتمايزها عموماً وخصوصاً، ثم تحديد حالات وكيفية تطبيقه وإعماله أو إسقاطه وإهماله بحسب مدى ثباته من عدمه، وهذا كله يتم طبقاً لقواعد ومنهج علم أصول الفقه المعتمدة لديهم ولدى علماء الأمة، مع عدم الالتفاف إلى ما يعتورها من اختلافات قليلة أو فرعية.
الثالثة: وحول القول عن انصرافهم إلى كتب الفقه عن مسندات الحديث يمكن التعليق بثلاث حقائق ثابتة:
1- أن مسندات الحديث موجودة ضمن تراث الفقه الزيدي، منها ما هو خاص وملحق بالمسندات نصوصاً ورجالاً ورواية، مثل: (مجموع الإمام زيد بن علي) (1) ومنها ما هو وارد ضمن ما يسمى بالأماليات(2)، ومنها ما هو خاص بقواعد وأصول ومصطلحات الحديث، وبمنهج وطرق وأنواع الرواية ورجالها وطبقاتهم، وبطرق ومنهج التوثيق رواية ورجالاً (الجرح والتعديل ...إلخ) وكتب الفقه تطفح بالأدلة من الكتاب والسنة في كل مسألة(3).
__________
(1) المسمى بالمجموع الفقهي، من حيث أنه تضمن آراء الإمام زيد وتمييزاً له عن المجموع الحديثي، وإلا فإنه من كتب الحديث.
(2) مثل أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد، وأمالي أبي طالب، وأمالي المرشد بالله وغيرها. والأمالي لغة: جمع أملية أو إملاءة، وهي: ما يمليه الشيخ على تلامذته، ثم يجمعه في كتاب.
(3) وهذا الكتاب خير مثال، ففيه آلاف الأحاديث من السنة النبويه المطهرة.

2- معروف أن جمع السنة النبوية الشريفة ورواية الأحاديث ونقدها، علم مستقل وقائم بذاته، هو (علم الحديث) وأن إعمال السنة وحالات طرق تطبيقها، علم مستقل بذاته مَعْنِيٌّ به علماء الفقه وأصول الفقه وكتبها ومولفاتها، ويسمى في مصطلحها، علم (الدراية). كما يطلق على سابقه، علم (الرواية). ومن هنا، فإن مسندات الحديث وأمهاته، لم تؤلف من قبل مدرسة محددة من مدارس الفقه، بل كانت مدرسة مستقلة بذاتها، وليس الأخذ منها والاستدلال بما جاء فيها خاصاً بفرقة أو فرق محددة من الفرق والمذاهب الإسلامية، ولكن لكل الحق في ذلك. ومن هنا فإن القائلين على الزيدية ذلك القول، ليسوا في مدارس فقههم بأكثر من علماء الزيدية مسندات، ولا أحق بالأخذ من أمهات الحديث أو غيرها ولا أكثر استدلالاً بالنصوص الواردة فيها من هؤلاء.
3- ثم إن كل كتب الفقه الزيدي في كل كتاب وكل باب وفصل، بل وفي كل مسألة جليلة ودقيقة كبيرة وصغيرة، بدءاً من مسائل أركان الإسلام الخمسة، وانتهاء بمسائل الاستجمار وتخليل الأظافر ومسح الرقبة، مدارها ومناطها والأصل فيها الدليل السمعي من الكتاب والسنة بدون استثناء. وهذا الكتاب (الانتصار) خير شاهد وأكبر دليل وأعظم رد على كل قول.
الملمح الثالث: مبادئه، وأسسه العامة في الاستدلال.
يتميز كتاب (الانتصار) بعناصر شاملة وواسعة في قضية الاستدلال، قد لا توجد مجتمعة في غيره بمثل هذه الصورة، سواء في أسسها وأصولها، أو في أسلوب طرحها وترتيب عناصرها، أو في شمولها واستيعابها لكل الأطراف والعناصر، ويتضح أبرز الجوانب لهذه الطريقة وصورتها، في معالم ثلاثة:
المعلم الأول: طريقته في الاستدلال:

1- وهي طريقة تتميز بقدرتها على الإقناع حتى لدى المخالف الذي لا يريد الأخذ بها، فإنه يقتنع بحق المؤلف وحجيته في الاختيار للرأي (المختار) بعد أن أبلغ في عرض الآراء وأدلتها ومناقشتها، حتى تَوَصَّل إلى تحديد رأيه. وميزة طريقة المؤلف، أن بإمكانه إنهاء المسألة أية مسألة بالمختار لأصله(1).
2- ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يذهب لتأكيد صحة (المختار) بمناقشة جديدة تتضمن كل ما يمكن الاستدلال به من الأدلة النقلية والعقلية، في عرض غني بالنكت والقواعد والفوائد، وإيراد النماذج من النظائر والأشباه والأنداد والأضداد، وباستقراء واستنباط كل أوجه وعناصر الدلالات فيها من منطوق ومفهوم بأنواعه ومدى قوة كل منها، وجوانب الإفادة منه ومن عكس الدلالات وطردها، ومن مناقشة حجج مخالفيه وتفنيدها مرة وإسقاطها أخرى، وقلبها حجة عليهم ثالثة، وإبراز ما قد يكون من تناقض أصحابها فيها نظراً إلى أقوال وآراء لهم سابقة عن طريق طرد هذه الأقوال في النظائر، وعكسها في النقائض...إلخ.
3- ومناقشة آراء وحجج مخالفيه والاحتجاج عليهم، يركز عليه ويمحصه في (الانتصار) وذلك يكون حسب منهجه في نهاية المسألة.
المعلم الثاني: معالم طريقته في الاستدلال وهي:
1- في الصورة العامة لمنهج البحث، يفصلها مرتبة في العناصر الأربعة:
- يبدؤها بالباب أو الفصل أو المسألة أو الفرع أو القاعدة أو الحكم أو التقرير.
- بعد طرح المسألة، يورد الأقوال المختلفة فيها وحجج كل قول.
- ثم يقرر المختار لأصله، موضحاً لأدلته وحججه.
- فالانتصار الذي يمحضه لتفنيد أقوال مخالفيه، والاحتجاج عليهم.
2- وقد يلحظ المطلع، أن المؤلف يحرص بصفة دقيقة وشديدة، على أن لا يطعن في صحة الدليل الذي يورده مخالفه، حتى من الأدلة التي لا يقبلها المؤلف لضعفها أو عدم صحتها لديه لأي سبب من الأسباب، بل يحاول إبطالها بطرق أخرى غير مباشرة لا تمس الدليل، مثل:
__________
(1) لمذهبه.

10 / 279
ع
En
A+
A-