والذي يدل على ما ذهبنا إليه من أنه تعالى قديم أنه لو لم يكن قديماً لا أول لوجوده لكان محدَثاً لعدم الواسطة ولو كان محدَثاً لاحتاج إلى محدِث أحدثه قطعاً لما تقدم أن كل محدَث يحتاج إلى محدِث لأن علة الحاجة هي الحدوث وكذلك محدثه يحتاج إلى أنَّا نتكلم فيه فنقول هو إما قديم أو محدَث فإن كان محدَثاً تكلمنا في محدِثه وقلنا هو يحتاج إلى محدِث ومحدِثه إلى محدِث فيتسلسل حينئذٍ إلى ما لا نهاية له وذلك محال فوجب الاقتصار على قديم لا يحتاج إلى محدث وهو الله سبحانه وهو المطلوب. فإن قيل:ظاهر ما ذكرتموه أنه يلزم من بطلان التسلسل إثبات قدم الصانع وذلك غير مسلَّم، إذ قد يقال بحدوثه، ولا يتسلسل بأن ينتهي المحدثون إلى قديم لا يحتاج إلى محدث.قلنا: القديم الذي ينتهي إليه المحدثون هو صانع العالم وما سواه من المحدثين فهو من جملة العالم إذ هم أجسام وأعراض، وفاعل العالم ليس بجسم ولا عرض فثبت بما ذكرناه من الدليل القطعي أن الله تعالى قديم، ويجب على المكلَّف أن يعتقد أن الله تعالى موجود فيما لم يزل وفيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
تنبيه:
قال جمهور أئمتنا (عليهم السلام) وأبو الهذيل وأبو الحسين البصري والملاحمية من المعتزلة ومن تابعهم ما تقدم من الصفات الثابتة للباري تعالى بمزايا زائدة على ذاته وليست بذوات على انفرادها بل صفات راجعة إلى الذات والمتفكر في أمر أو معنى زائد على ذات الباري تعالى قد ارتكب خطأ عظيماً إذ أثبت التعدد في القدم وتفكر في ذات الباري وفي الأثر الصحيح(من تفكر في المخلوق وحد ومن تفكر في الخالق ألحد)وهو المتصف بالغلو والتجاوز لحد العقل المنهي عنه في قوله تعالى{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}(النساء:171) وفيه يقول الهادي إلى الحق عليه السلام وإلى الله أبرأ من كل معتزل غال ومن جميع الفرق الشاذة ونعوذ بالله من كل مقالة غالية.ولا بد من فرقة ناجية عالية وسيتضح لك من الأدلة على هذا ما ينفي عنك شبه المخالفين وتخيلاتهم الباطلة،وإذا كان ذلك هو المذهب الحق لم يحتج إلى بيان كيفية استحقاق الباري لصفاته هل لذاته أو لغيرها إذ لا شيء غير الذات يحتاج إلى أن يقال فيه أنه مستحق لها والعجب من الدواري حيث بنى على ما بنى عليه المتأخرون من إثبات المزية الزائدة وقال الخلاف في ذلك مع المطرفية فإنهم يقولون إن هذه الصفات ذات الباري لا غير فكونه قادراً ذاته وكونه عالماً حياً ذاته أيضاً وكذلك سائرها وبعض هذه الصفات هو البعض الآخر لأنه ليس عندهم إلاَّ مجرد الذات.قال وحكي عن أبي الهذيل أن علم الله هو الله وحملة العلماء على أنه أراد به أنه صفة ذاتية انتهى.
قلت: هذه مقالة من لم يغمس يده في علوم الأئمة،أين أنت من كلام الهادي عليه السلام في كتاب الديانة وكتب المرتضى والناصر وأصحابهم بل ذلك إطباق قدماء العترة كما يأتي بيانه في حكاية أقوالهم،وقولك إن العلماء حملوا كلام أبي الهذيل على ما ذكرت، نقول فيه تلك ليست مقالة العلماء كما رويت وما ذكرها إلاَّ السيد مانكديم في الشرح وكان له مندوحة عن جملة كلام أبي الهذيل على خلاف الظاهر وقد أبقاه الشيخ محمود بن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام على ظاهره.وأما من جعل صفاته تعالى أموراً زائدة على ذاته فهم فريقان:
الفريق الأول: يقول بأنه يستحقها تعالى لذاته على معنى أنه لم يؤثر له فيها ذات أخرى وهذا هو مذهب بعض أئمتنا المتأخرين كالمهدي عليه السلام وغيره وبعض شيعتهم وأبي علي والبهشمية.قال الدواري:وهو مذهب أهل العدل قاطبة وكثير من فرق الكفر.
قلت:في إطلاق أهل العدل نظر.ثم اختلف هذا الفريق فالذي عليه أبو علي وأبو الحسين الخياط وأبو القاسم البلخي قال الدواري: وأبو الهذيل وغيرهم أن الله تعالى يستحق صفاته الأربع كونه قادراًَ عالماً حياً موجوداً لذاته من غير توسط صفة بينهما وبين ذاته تعالى كسائر الصفات المستحقة للذات،فأهل هذه المقالة لا يثبتون الصفة الأخص وسيجيء تحقيقها عند أهل القول بها وربما لقب هؤلاء بالعلِّيَّة لأنهم يقولون أن ذات الباري عِلَّة موجبة لصفاته وتأثيرها تأثير العلة عندهم،وذهب أبو هاشم والقاضي وتلامذتهما وعوَّل عليه بعض متأخري أئمتنا كالمهدي عليه السلام وغيره إلى أن الله تعالى يستحقها لصفته الأخص وأنها مقتضاة عنها ،وأهل هذا القول يثبتون الصفة الأخص،وقد حكى ناس من متأخري أصحابنا عن القاسم القول بها وزعموا أنه صرح بذلك حيث قال لله صفة لا يشاركه فيها مشارك ولا يملكها عليه مالك،قالوا: وهو أيضاً قول الهادي (عليه السلام) والناصر (عليه السلام) وغيرهما.
قلت:أصولهم وصرائح أقوالهم تأبى ذلك وسنلقيها إليك إنشاء الله تعالى فلا يرعك ما حكاه المتأخرون، ثبتنا الله وإياك وجعلنا من متبعي كبراء آل محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.وحقيقة الصفة الأخص عند القائلين بها هي الصفة الواجبة لله تعالى التي لا يستحقها عيناً ولا جنساً ولا نوعاً إلاَّ هو، وإن شئت قلت هي الصفة الواجبة المقتضية لصفات أربع ، وإن شئت قلت هي الصفات الواجبة التي لا يستحق جنسها وقبيلها إلاَّ ذات واحدة وهي ذات الله وربما لقب هؤلاء بالمقتضية لقولهم بالمقتضى وهي الصفة الأخص،والفرق بينه وبين العلة أنها ذات عندهم موجبة لصفة أو حكم والمقتضى ليس بذات ومن شرطهما أن لا يتقدما على ما أثرا فيه وجوداً بل رتبة،ومن شرط الذي أثرا فيه أن لا يتخلف عنهما،وقد عرفت ما قدمنا من إبطال القول بتأثير الإيجاب.
واتفق أهل القولين على أن كونه مدركاً صفة مقتضاة عن كونه حياً وأن القدم كيفية لوجوده تعالى والكيفية ثبوت الوجود في الأزل وأما سميع بصير فهي راجعة إلى كونه حياً لا آفة به عندهم،قال الشيخ محمود: ولم يكن للمشائخ المتقدمين كلام في ذلك حتى جاء الشيخ أبو هاشم.قال واعلم أن الشيخ أبا هاشم وأصحابه هم المثبتون للأحوال فيثبتون لله تعالى حالة بكونه قادراً وحالة بكونه عالماً وحالة بكونه حياً وبكونه موجوداً ومريداً وكارهاً،ويثبتون له تعالى حالة ذاتية غير هذه الأحوال في الشاهد للحي القادر العالم المريد الكاره منا،ويثبتون له تعالى حالة ذاتية غير هذه الأحوال (توجب هذه الأحوال) إلاَّ كونه مريداً أوكارهاً فإنهما تجبان لوجود إرادة وكراهة لا في محل، والشيخ أبو القاسم وأبو علي وأصحابهما وشيوخ بغداد ينفون الأحوال وغيرهم من الشيوخ المتقدمين لم يجر لهم قول في إثبات الأحوال ونفيها،قالوا والجهات التي تستحق منها هذه الصفات أربع.وبيانه أن الذوات ثلاث لا رابعة لها وهي ذات الباري سبحانه وذات المتحيز وذات العرض،وجهات الصفات أربع لا خامس لها يستحق من جهة الذات وهي الذاتية،
ومن جهة الاقتضاء المقتضاة ، ومن جهة المعنى المعنوية، ومن جهة الفاعل التي بالفاعل. فالباري تعالى يستحق الصفات من جهة الذات وهي الصفة الأخص ومن جهة الاقتضاء وهي الصفات الخمس كونه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً ومدركاً، ويستحق من جهة المعنى كونه مريداً وكارهاً، وسيأتي بطلان ما قالوا في مريد وكاره في مسألة الإرادة إنشاء الله تعالى، قالوا: ولا يستحق صفة بالفاعل أصلاً لأنه قديم لا فاعل له، ويستحق العرض من ثلاث جهات وهي الذاتية والمقتضاة والتي بالفاعل ولا يستحق صفة معنوية أصلاً لأن المعنى لا يوجب المعنى لعدم الاختصاص الذي هو شرط في الإيجاب، (وأما) المتحيز فيستحق من الجهات الأربع أجمع من جهة الذات الجوهرية، ومن المقتضاة التحيز ومن المعنى الكائنية، وغيرها ومن جهة الفاعل الوجود، قالوا: فصفات الباري تنقسم إلى قسمين جائزة وواجبة، فالجائزة كونه مريداً وكارهاً، والواجبة على ضربين، ذاتية وهي الصفة الأخص ومقتضاة وهي مقتضاة من جهتين مقتضاة عن الذاتية ومقتضاة عن المقتضاة، فالأُولى كونه قادراً عالماً حياً وموجوداً فهي مقتضاة عن الصفة الأخص،والثانية كونه مدركاً فإنها مقتضاة عن كونه حياً وكونه حياً مقتضاة عن الصفة الأخص.
،،
قال أهل القولين: والدليل على أنه تعالى يستحق صفاته لذاته أنه قد ثبت أن الله تعالى قادر عالم سميع بصير فلا يخلو إما أن يستحقها لذاته أو لغيره،والغير لا يخلو إما أن يكون فاعلاً أو علَّة،والعلة لا تخلو إما أن تكون معدومة أو موجودة، والموجودة لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة،والأقسام كلها باطلة سواء أنه يستحقها لذاته إما أنه لا يجوز أن يستحقها للفاعل فلأنه قد ثبت أنه تعالى قديم فلا فاعل له، وأما أنه لا يجوز أنيستحقها لمعانٍ معدومة فلأن العدم مقطعة الاختصاص (والعلة لا توجب إلاَّ لشرط الاختصاص) فإذا زال الشرط زال المشروط،وأما أنه لا يجوز أن يستحقها لمعانٍ قديمة كما تقوله الأشعرية كما يأتي فلأنه لو جاز ذلك عليه لوجب في تلك المعاني أن تكون أمثالاً لله تعالى لمشاركتها له في القدم الذي به فارق سائر المحدثات وقد ثبت أن الله تعالى لا مثل له على ما يأتي بيانه إنشاء الله تعالى،ولأنه إذا ثبت أن هذه الصفات واجبة لله تعالى عندنا وعند المخالف ثم لم نحتج في وجوب وجوده تعالى إلى معنى قديم وجب في سائر الصفات أن يستغني في وجوب ثبوتها له سبحانه عن معانٍ قديمة لأنه لا مخصص يقضي حاجة بعضها إلى معنى قديم دون الآخر.
الفريق الثاني: قالوا إن الله تعالى يستحق هذه الصفات الأربع لمعانٍ،وهذا قول أكثر المجبرة ثم افترقوا في ذات بينهم فذهبت الكلابية إلى أن الله تعالى عالم بعلم لا يوصف بحدوث ولا قدم ولا وجود ولا عدم إذ هو صفة والصفة عندهم لا توصف وإلاَّ لزم التسلسل عندهم وربما لقب هؤلاء بالصفاتية لأنهم أثبتوا لله صفات حاصلة عن معانٍ ثم جعلوا تلك المعاني صفات لا توصف فِراراً مما يلزمهم من المحال إن وصفوها بالقدم أو الحدوث،وقولهم ظاهر البطلان لتناقضه لأنهم جعلوها معاني وذوات ثم ادعوا بعد ذلك أنها صفات وبينهما فرق جلي وقد وافقهم الأمورية في أن الصفات لا توصف لكنهم أبطلوا قولهم بأنهم جعلوها ذوات فيلزمهم وصفها وإبطال هذا الأصل سيقرع سمعك.وقالت الأشعرية والكرامية: بل الله يستحقها لمعانٍ قديمة توجب تلك الصفات والمعاني هي العلم والقدرة والحياة ونحو ذلك،وتلك المعاني قائمة بذاته لكن الأشعرية يقولون أنها قائمة بذات الله لا على وجه الحلول، ويقولون أيضاً أن تلك المعاني ليست إياه ولا بعضه ولا غيره فراراً مما يلزمهم لو جعلوها مستقلة مغايرة لله تعالى من أن يكون مع الله تعالى قدماء غيره،وفي قولهم هذا مناقضة ظاهرة لأنهم قالوا ليست إياه ولا بعضه ولا غيره وهذا محال لأنه قد ثبت أن كل مذكورين يجب أن يكون أحدهما غير الآخر إذا لم يكن بعضاً له.
وأما الكراميَّة: فإنهم يقولون بل تلك المعاني غيره ويصرحون أيضاً بأنها قديمة قائمة بذات الباري على وجه الحلول وقد ارتكبوا من المحالات كلما فرَّ عنه من قبلهم من كون الله تعالى محلاً لغيره وإثبات قدماء مع الله وعلى الجملة فكلا القولين باطل،لأن قدم المعاني يوجب مماثلتها للباري ويوجب تماثلها لأنه وصف ذاتي، والاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات فيلزم كونها آلهة كما أنه إلاه وكون كل واحد منها قدرة علماً حياةً فيستغني بأحدهما عن باقيها إذ قد صار كل واحد منها مثلاً كجميعها ساداً مسده فتوجب للقديم تعالى من الصفات مثل جميع ما يوجب كل واحد منها ولأن علمه واجب فتستغني عن موجب كقدمه كما تقدم.(وقال) هشام بن الحكم: أن الله تعالى عالم بعلم محدث يحدثه لنفسه فيوجب له الصفة وإليه ذهب قوم من الروافض ولم يشتهر عنه قول في باقي الصفات،وحكي عنه حكاية مغمورة في باقي الصفات أنه يستحقها لمعانٍ محدثة، وحكي عن جهم بن صفوان وأتباعه القول بمقالة هشام بن الحكم أنه تعالى عالم بعلم محدثٍ. قلنا:العلم كالفعل المحكم لا يوجده إلاَّ عالم بوجوهه، فإذا كان العلم لا يوجد إلاَّ بعد علم آخر تكلمنا في ذلك العلم الآخر، فقلنا هو ثابت في الأزل أو محدث فإن كان محدثاً كان مسبوقاً بعلم آخر وهلم جراً، فأما أن تنتهي العلوم إلى علم يكون مسبوقاً بالعلم الأول الذي كان الكلام فيه أولاً فيدور حينئذٍ إذ لا يحصل هذا العلم الأول إلاَّ بعد هذه العلوم ولا تحصل هذه العلوم إلا بعده لحاجة كل واحد منها إلى الآخر والدور محال لأنه يلزم منه توقف الشيء على نفسه وسبقه في الوجود على نفسه وكلاهما محال، وأما أن تذهب العلوم إلى غير النهاية فيتسلسل
والتسلسل محال.وما أدى إلى المحال فهو محال.قالت الأمورية:وإذا بطلت هذه الأقوال كلها تقرر ما ذهبنا إليه من القول بأنه تعالى يستحق صفاته لذاته وتعين القول بأن صفاته تعالى أمور زائدة على ذاته لا هي الله ولا هي غيره ولا هي شيء ولا لا شيء،وهكذا نقول في الصفة الأخص من قال بها.قال السيد حميدان (عليه السلام) : اصطلحوا على تسمية الصفات على الجملة أموراً لا أشياء وثابتة لا موجودة وأزلية لا قديمة وزوائد على الذات لا أغياراً لها وعلى وصفها بأنها لا شيء ولا لا شيء ولا قديمة ولا محدثة ولا موجودة ولا معدومة وأنها لا تعلم مع الذات ولا منفردة وأشباه ذلك مما لم يسبقهم إلى القول به موحد ولا يتبعهم إلاَّ مقلد،وأصَّلوا لهم من هذا أصلاً على جهة الإلجاء أن الصفات لا توصف.والحاجة إلى إبطال هذه المقالة وتقرير مذاهب الأئمة عليهم السلام ومن وافقهم من القول بأنها ليست بأمور زائدة على ذاته تعالى بل هي ذاته داعية إلى إبطال مذهبهم على الجملة. فهو أنه مذهب حادث بغير دليل معقول ولا مسموع وكل مذهب حادث فهو باطل لقول الله تعالى{قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها}إلى قوله{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:33)وقوله تعالى{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}(الحج:08) وقوله في مثل ذلك{إن هي إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}(النجم:23) وقوله تعالى {إن تتبعون إلاَّ الظن وإن أنتم إلاَّ تخرصون}(الأنعام:148).ولما روى الحاكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(يوشك أن ينتقل الشرك من ربع إلى ربع ومن قبيلة إلى قبيلة.قيل يا رسول الله وما ذلك الشرك قال: قوم يأتون بعدكم يحدون الله حداً بالصفة).،،