وأما الطبع كما يقوله الطبائعية وهو أيضاً غير معقول إذ لا يعلم ضرورة وإلا لاشترك في العلم به كل عاقل ولا دليل عليه وإلاَّ لظهر واستدل به وإذا كان لا يعلم ضرورة ولا استدلالاً فهو غير معقول فإن أرادوا به الباري فخطأ في العبارة إذ أطلقوا على الباري لفظاً لا معنى له وذلك لا يصح في حقه تعالى، ولو سلمنا أن الطبع في نفسه يعقل فلا حياة له فضلاً عن القدرة والعلم وذلك لابد منه في المؤثر. وتحقيق مذهب الطبائعية أن الذي يحدث من تراكيب الأجسام وما فيها من الأعراض كان بطبعها. وأما النجوم كما تقوله المنجمة وهي أجسام جمادات مسخرة خلقها الله تعالى لمنافع عباده كما قال سبحانه{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}(الصافات:6) وقال (تعالى){وجعلناها رجوماً للشياطين}(الملك:5) ولا حياة لها فضلاً عن القدرة والعلم، ولابد من ذلك في المؤثر كما سيأتي@، وأيضاً (فإن الجسم) لا يقدر على إحداث جسم على ما يجيء. وهؤلاء المنجمة فريقان منهم من يقول لا صانع غيرها ومنهم من يقر بالصانع ويقول إن الصانع أحال التدبير إلى النجوم والمتولي لتدبير سائر الحوادث سبعة من النجوم وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر قال الشاعر جامعاً لها:
زحل شرى مريخه من شمسه فتزهرت بعطارد أقمار
وتدبيرها مرتب كترتيب ذكرها في البيت أولها زحل وآخرها في التدبير القمر، قالوا فكل نجم يتولى تدبير شهر فإذا فرغت عاد التدبير إلى الأول، ومن كلامهم أن هذه النجوم المذكورة تدبر الجنين في بطن أمه أولاً فأولاً شهراً فشهراً فإذا أكمل الشهر السابع عاد التدبير إلى أولها وهو زحل فيدير الجنين في الشهر الثامن فإن خرج فيه الولد هلك لأن من طبع زحل البرودة واليبس وإن خرج في التاسع عاش إلاَّ لعارض إذ طبع المشتري الحرارة واللين ثم كذلك، وهم مجمعون على أن النجوم تنفع وتضر، لكن منهم من يقول تأثيرها على جهة الإيجاب ولا قدرة لها ولا حياة وهو قول أكثرهم، ومنهم من يقول تأثيرها على جهة الصحة والاختيار وهي حية قادرة عالمة وهذه دعوى لا دليل عليها.
وإذا بطل أن تكون هذه الأشياء مؤثرة لم يبق إلا أن يكون المؤثر الصانع المختار وهو الله تعالى لا غيره، لأن غيره ممن كان صانعاً مختاراً إن قلنا إنه هو الذي أحدث نفسه فباطل، إذ لابد من التمييز بين المؤثر والمؤثر ولأنه يلزم أن يتقدم على نفسه لتقدم المؤثر على المؤثر وهكذا يجري في كل جسم، وإن كان المحدث غيره والحال أنه غير الله فباطل أيضاً لأنه لا يصح من جسم إحداث جسم وإلاَّ لصح منَّا إما في الحال أو بأن توجد فينا قدرة مخصوصة ومعلوم أنه لا يصح منا بوجه من الوجوه، إذ لو صح منا لكان إما على جهة المباشرة أو التعدي أو الاختراع والكل مستحيل، أما الأولان فلأن المباشر ما وجد في محل القدرة بواسطة فعل في محلها والجسم لا يصح حلوله في جسم آخر وإلا لزم التداخل،والمتعدي ما وجد في محل غير محل القدرة.
وأما الثالث فمعلوم الاستحالة أيضاً وإلاَّ لم تكن جهة أولى به من جهة فيلزم وجوده في جهات متعددة وفي وقت واحد ويلزم وجود الأجسام الكثيرة في جهة واحدة في وقت واحد لعدم المخصص. فإن قيل: اختيار الفاعل يخصص وجوده بجهة دون جهة كما في صدور الأجسام عن القديم تعالى . قلنا: قد تصدر الأفعال من أحدنا وهو غير عالم بها كالساهي والنائم ولا اختيار هناك فيلزم المحال المذكور ومن هنا يعرف بطلان قول المفوضة الغلاة وهم فرقة من الروافض حيث يقرون بالباري ويقولون إنه فوض إلى بعض الأنبياء أمر الخلق، ومنهم من يقول كل من ظهر عليه معجز أو كرامة فهو رب، وأول من ابتدع الغلو ابن سبأ وكان يقول في علي عليه السلام هو الله تعالى، وبعضهم قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول علي بن أبي طالب عليه السلام، وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام حرَّق جماعة منهم وتمثل في ذلك بقوله:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أضرمت ناري ودعوت قنبراً
وقيل أن بعضهم ازداد فيه بذلك غلوَّاً وقال لا يحرق بالنار إلاَّ رب النار،
ويعرف أيضاً بطلان قول المطرفية حيث وافقونا أن للعالم صانعاً مختاراً هو الله تعالى ولكنهم يقولون إنه تعالى صانع لأصول الأشياء وهي الماء والهواء والريح لا غير والنار زادها بعضهم، واختلفوا فمنهم من قال صارت مستقلة بالتأثير ولا تأثير لله فيها الآن حتى أنه لو عدم الله تعالى لاستقامت على ما هي عليه، ومنهم من قال ما من طرفة عين إلاَّ وله تعالى فيها تأثير ذلك التأثير كونه المؤثر في أصلها وما أثر في الأصل فهو المؤثر في الفرع، ففي عبارتهم أنه المؤثر وفي المعنى هم كالأولين. وحكي عن المطرفية القول بالصانع المختار وحدوث العالم كما ذكرنا ولكنهم يقولون: إن الحوادث اليومية كالنبات والمولودات والحياة والموت والآلام ونحوها حادثة من الطبائع الحاصلة في الأجسام ولا تأثير للقديم فيها أصلاً. وقد اشتهر عن أبي القاسم البلخي من المعتزلة القول بالطبع وهو أن تركيب الإنسان وغيره من التراكيب الحادثة حاصلة من تركيب الطبائع الأربع مع أن الله تعالى قادر على أن يبتدي الخلقة من غير تركيب.
تنبيه:
قد أورد القائلون بقدم العالم شبهاً ينبغي حلها ليتم المطلوب لما عرفت من عظم شأن هذه المسألة.
قالوا: تعلق القدرة به حال عدمه محال.
قلنا: بل محال تعلق القدرة بالموجود، وإنما تعلق بالمعدوم لتحصيله لأن المقدور لو كان حاصلاً حين تعلق القدرة به لتحصيله لأغنى ذلك عن تعلق القدرة به .
قالوا: تعلقت القدرة بالحجارة للعمارة والحجارة موجودة.
قلنا: الحجارة من جملة آلة العمارة فتعلق القدرة بالعمارة إنما هو حال عدمها بواسطة الآلة. قالوا: العمارة هي نفس الحجارة وإنما كانت كامنة في نفسها.
قلنا: هذا هو المحال لأن كمون الشيء في نفسه لا يعقل.
المسألة الثانية ((أن الله تعالى قادر))
وهي أول مسائل الصفات ، اعلم أن الصفة والحالة والمزية في الاصطلاح بمعنى واحد ولها معانٍ فتارة يعبر بها عن شيء هو الذات كما يقال قدرة الله، ويعبر بها عن ثبوت الذات على شيء نحو ثبوت الحيوان على حياته، ويعبر بها عن اسم لذات باعتبار تعظيم نحو قولنا أحد نريد به الله تعالى، فإنه عبارة عن ذاته باعتبار كونه المنفرد بما لا يكون من الأوصاف الجليلة إلاَّ له، وباعتبار معنى نحو قولنا قائم ونريد به إنساناً فإناسم له باعتبار معنى هو القيام، وبمعنى الوصف وهو عبارة عن قول الواصف كقولك زيد كريم مثلاً علم ذلك بالاستقراء. وقال المهدي عليه السلام: ليست إلاَّ بمعنى الوصف فقط. قلنا: يلزم أن تكون صفاته تعالى نحو كونه قادراً عبارة عن قول الواصف وذلك بيِّن البطلان. وقد فرقت الأموريَّة بين الصفة والحكم، فقالوا: الصفة لها معنيان أعم وهو المزيَّة التي تعلم الذات عليها وهذا ليشمل الحكم، وأخص وهو المزيَّة التي تعلم الذات عليها من دون اعتبار غير ولا ما يجري مجرى الغير فيخرج الحكم فإنه المزية التي لا تعلم الذات عليها إلاَّ باعتبار غير أو ما يجري مجراه فالحكم المعلوم بين الغيرين المماثلة والمخالفة إذ هما حكمان لا يعلمان إلا باعتبار غير إذ الشيء لا يماثل نفسه ولايخالفه، فلا تعقل مماثلة ولا مخالفة حتى تعلم ذات أخرى، ومثال ما يعلم بين الذات وما يجري مجرى الغير صحة وجود الفعل، فإنه حكم يعلم بين ذات المقدور وبين وجوده بحيث لو لم يخطر بباله ذات المقدور ووجوده لم يعلم صحة وجوده.
قال في الأساس: الملجي لهم إلى ذلك وصفهم لصفات الباري تعالى حيث جعلوها أموراً زائدة على الذات بأنها غَيْر، نحو العالمية غير القادرية ومثل نحو العالميَّة زائدة على الذات مثل القادرية ومنعهم وصفها بأنها قديمة أو محدثة وفرُّوا حين إلزامهم بذلك أن الصفات لا توصف والفرق تحكم ولا مانع من دعوى أن سائر ما توصف به الصفات أحكام مثلها. فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى قادر وحقيقة القادر هو من يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال وهذا قول من يقر بالصانع المختار، والخلاف في ذلك مع الباطنية فإنهم يقولون بأن الله لا يوصف بأنه قادر ولا لا قادر ولاشيء من الصفات أصلاً لا إثباتاً ولا نفياً إذ لو وصف مثلاً بأنه قادر كان تشبيهاً وإن وصف بأنه غير قادر كان تعطيلاً، وقد ألزمت المطرفية بأنه لا يوصف بذلك لأن طريقنا إلى كونه قادراً وجود هذه الحوادث من الأجسام وغيرها منه تعالى، وعندهم أنها لم تحدث من الله بل حدثت بالفطرة والتركيب.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح،أن الفعل وحقيقته هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه قد صح منه تعالى، وليس المراد بالصحة الإمكان التي هي مقابل الاستحالة وإنما المراد الصحة والاختيار الذي هو مقابل الإيجاب، فإن الصحة الأولى لا تدل على القادرية، فإن المسبب يصح صدوره عن السبب والمعلول عن العلة، ولا يدل على أن السبب والعلة قادران. وبيان ذلك أنه قد صح منه الفعل وجوده منه فلا يخلو إما أن يكون على وجه الإيجاب أو على وجه الصحة والاختيار، والأول باطل وإلاَّ لم يكن بأن يوجد في وقت أولى من وقت فيلزم وجوده في الأزل وهو محال لأنه قد ثبت حدوثه ولأنه كان يلزم أن يكون من جنس واحد إذ لا مخصص لوقوعه على صفة دون صفة فثبت أنه وجد على سبيل الصحة والاختيار وهذا هو معنى قولنا إن الفعل قد صح منه، هذا كلام بعض المحققين، وقد ذكر في الخلاصة أن المراد بالصحة الإمكان الذي هو مقابل الاستحالة وهو الذي اعتمده مؤلف الكتاب حيث قال والآخر يتعذر عليه وقد عرفت ما يرد على ذلك. قال الدواري: ويمكن الاعتذار بأن يقال أن الصحة التي هي مقابلة الاستحالة إذا أضيفت إلى الفعل فإنها تستدعي الصفة التي هي التخير في إيجاد المقدور وذلك يدل على كون القادر قادراً فكان ذكرها يؤذن بالصحة التي هي التخير وبها يستدل بخلاف الصفة الصادرة عن العلة و السبب فإنه لا يقال فيهما صحة الفعل من العلة والسبب فافترقت الحال، وإذا تقرر أن الفعل قد صح منه فالفعل قطعاً لا يصح إلا من قادر، دليل ذلك أي كون الفعل لا يصح إلاَّ من قادر، أنَّا وجدنا في الشاهد ذاتين كان الأجود أن يقول حيين أو جملتين ليسقط عنه مؤنة إبطال أن يكون المؤثر في صحة الفعل كونه حياً وكثير من الصفات الراجعة إلى
الجملة أو إلى الآحاد. أحدهما إذا حاول حملاً ثقيلاً حمله كالصحيح السليم والآخر يتعذر عليه ذلك كالمريض المدنف، فالذي صح منه الفعل يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك، فالمفارقة معلومة بالضرورة، ويجب أن يختص القادر عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه قادراً، فإذا كان الله سبحانه قد صح منه من الأفعال ما يتعذر على غيره ثبت أنه قادر.
فإن قيل: هذا قياس الغائب على الشاهد ومثله إنما يفيد الظن لأن علته غير قطعية.
قلنا:لا نسلم أنه قياس وإنما هو رجوع إلى كلية وهي أن من يصح منه الفعل فهو قادر، وعرفنا هذه الكلية بأن الفعل لابد له من مقتضي وذلك المقتضي هو الصفة التي عبرنا عنها بالقادرية، وإنما ذكرنا الشاهد على وجه التمثيل والتقريب.
تنبيه:
ذهب إمام زماننا أيده الله تعالى إلى أن كون الفعل لا يصح إلاَّ من قادر لا يحتاج إلى الاستدلال بل هو أمر ضروري .
ونقول: لاشك في إثبات الصفة التي هي القادرية للقادر، ولكن اختلفوا فقيل المرجع بها إلى الجملة. قال الدواري: وهو الذي عليه الزيدية وجمهور المعتزلة وغيرهم، وقال أبو القاسم المرجع بكونه قادراً إلى الصحة واعتدال المزاج. وقال أبو الحسين وابن الملاحمي المرجع بكونه قادراً إلى النية المخصوصة في الشاهد من اللحم والدم وما يصحب ذلك من الأعصاب والرطوبة واليبوسة وفي الغائب إلى ذات الباري المخصوصة. قلت: هذا هو مذهب جمهور أئمتنا عليهم السلام بل إطباق قدمائهم على ذلك لأن الصفات عندهم هي الذات على ما يجيء بيانه إنشاء الله ، وقد غفل الدواري في إطلاقه الرواية عن الزيدية وسببه ريح الاعتزال والإعراض عن تتبع مذاهب الأئمة فالله المستعان.
تنبيه:
المقدورات ثلاثة وعشرون جنساً وهي الأجسام والألوان والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والشهوة والنفرة والحياة والقدرة والفناء فهذه يقدر الله على أعيانها وأجناسها ومن كل جنس على ما لا يتناهى لأنه تعالى قادر بالذات ولا اختصاص لذاته بجنس دون جنس. وأما العشرة الباقية وهي الأكوان والاعتمادات والتأليفات والأصوات والآلام والاعتقادات والإرادات والكراهات والظنون والأفكار فهذه يقدر العباد على أعيانها وأجناسها لما مكنهم الله تعالى منها، ويقدر الله على أجناسها ومن كل جنس على ما لا يتناهى لما ذكر من أنه تعالى قادر بذاته فلا تنحصر مقدوراته جنساً ولا عدداً، وهو تعالى قادر فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال إذ هو يستحقها تعالى بذاته، وهذا ما يجب على المكلف معرفته من مسألة قادر.
المسألة الثالثة ((أن الله تعالى عالم))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى عالم، وحقيقته هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه أو من إدراك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم، وقيل هو المختص لصفة لكونه عليها يصح منه الفعل المحكم إذا لم يكن ثمَّ مانع ولا ما يجري مجراه وهذا هو مذهب المقرين بالصانع المختار، والخلاف في ذلك مع الباطنية تصريحاً (والمطرفية إلزاماً) كما تقدم.