والمحدَث: هو الموجود الذي لوجوده أول لابد له قطعاً من محدث. والذي يدل على أن هذه الأجسام محدثة أنها لم تخل من الأعراض المحدثة ولم تتقدمها، وتحرير هذا الدليل وتقريره بأربعة أصول:الأول أن في الجسم عرضاً غيره.الثاني أن تلك الأعراض محدثة.الثالث أن الجسم لم يخل من العرض ولم يتقدمه.الرابع أن ملازمته إياها تستلزم حدوثه. وقد دل عليها كلام الكتاب.
أما الأصل الأول: وهو أن في الجسم عرضاً غيره، وحقيقة العرض هو مالا يشغل الحيز فذلك هو المذهب. وذهبت فرقة من الفلاسفة وحفص الفرد من المجبرة والأصم من النواصب (وهشام بن الحكم) إلى أنه لا عرض في الجسم وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الأعراض. وذهب أبوالحسين وابن الملاحمي والإمام يحي بن حمزة إلى نفي المعاني وجعلوا الأعراض كلها صفات للجسم بالفاعل، وبه قال ابن الخطيب الرازي وكثير من الأشاعرة والمجبرة، قال ابن زيد وهو مذهب القاسم والهادي عليهما السلام ومعنى ذلك أن الحركة والسكون ونحوهما هي التي يعبّر بها عن كونه متحركاً وساكناً ومجتمعاً ومفترقاً وهذه الصفات إنما تثبت بالفاعل ويؤيد ذلك أن من قال هو متحرك وليس فيه حركة يعد مناقضاً وكذا سائرها. فعلمنا استواء كونه متحركاً وفيه حركة وليس هناك معنى زائد على الصفة. وذهب جماعة من المعتزلة ومال إليه بعض متأخري الزيدية كالمهدي إلى إثبات المعنى وهو الموجب صفة للجسم، فالحركة أوجبت كونه متحركاً ونحو ذلك من تأثير العلة وهو تأثير الإيجاب، وعندنا أن لا مؤثر حقيقة إلاَّ الفاعل المختار إذ تقدمه يدل على اختصاصه بصفة المؤثر والعلة مقارنة لمعلولها فما تخصيص

أحدهما بكونه مؤثِّراً والآخر مؤثَّراً بأولى من العكس وهذا مما لاشك فيه وسيأتي لهذا مزيد تحقيق. وأما ما ذهب إليه نفاة الأعراض فباطل. قال ابن الملاحمي: إذ ثبوتها معلوم ضرورة على الجملة وقال غيره، قال الدواري: وهو الأصح الأحسن التفصيل وهو أن يقال الحاصل في الجسم لا يخلو إما أن يكون جسماً أو معنى أو صفة لا يجوز أن يكون جسماً، لوجهين: أحدهما أن الواحد منَّا ليس بقادر على الجسم ولا يقف على اختياره وكون الجسم متحركاً يقف على اختيارنا. الثاني (أن كون) الجسم متحركاً يتجدد ثبوته في حال بقاء الجسم والجسم لا يتجدد ثبوته في حال بقاءه، ولا يجوز أن يكون معنى لأن المعنى يعلم على انفراده وكون المتحرك متحركاً لا يعلم على انفراده، وإنما يعلم تبعاً للعلم بذي الاحتراك فلم يبق إلا أنه صفة.

وأمّا الأصل الثاني: وهو أن تلك الأعراض محدثة فذلك هو المذهب، وذهبت طائفة من الفلاسفة إلى أنها قديمة مع الإقرار بثبوتها وهؤلاء هم أهل الكمون والظهور يثبتون الأعراض ويجعلونها قديمة فيقولون إذا تحرك الجسم ظهرت الحركة وكُمْن السكون والعكس. قلنا: الدليل على حدوثها أنها تعدم والقديم لا يعدم، أما أنها تعدم فلأن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق متضادة فالحركة ضد السكون والعكس والاجتماع ضد الافتراق والعكس فمتى سكن الجسم عدمت الحركة والعكس وعلى هذا القياس، وإذا تقرر في العقول عدمها ثم وجودها علم قطعاً أنها محدثة إذ ذلك حقيقة المحدث، وأما أن القديم لا يعدم فلأنه قديم بالذات ليس داخلاً في جنس المقدورات وما هو قديم بالذات فذاته ثابتة مستمرة لا يتطرق إليه الإيجاد والإعدام إذ خروج الموصوف عن صفة ذاته لا يجوز. وأما القول بالكمون والظهور فذلك باطل لوجهين: أحدهما أن ذلك إثبات لشيء لا دليل عليه وذلك يفتح باب الجهالات. الثاني أن الكمون والظهور لا يتعقلان إلا في المتحيزات إذ الكمون اختفاء الشيء بعد أن كان ظاهراً، والظهور بدو الشيء بعد أن كان خافياً وهذا كما ترى من أوصاف المتحيزات.

وأمّا الأصل الثالث: وهو أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة ولم يتقدمها في الوجود فهذا هو مذهبنا ومذهب أكثر الفرق والخلاف في ذلك مع قوم من الفلاسفة فإنهم مقرون بالأكوان وبحدوثها إلاَّ أنهم يقولون إن أصل العالم متعرٍ عنها ثم حلَّته بعد ذلك وأهل هذه المقالة يسمون أهل الهيولى والصورة وأهل العنصر والاستقص والطينة فسموا أهل الهيولى والصورة، لأن منهم من يقول: أصل العالم جوهران بسيطان موجودان غير متحيزين ولا محسوسين ولا ملموسين ولا كائنين في جهة اسم أحدهما الصورة والثاني الهيولى ثم حلَّت الصورة في الهيولى فتحيزا واحتملا الأعراض. ومنهم من قال: أصل العالم جوهر موجود غير متحيز. ومنهم من قال: أصل العالم جواهر موجودة غير متحيزة فلذلك سموا أهل هذه الدعوى أهل الاستقص والعنصر والطينة لأن هذه العبارات تستعمل في أصل الشيء وعبَّروا بهذه العبارات عن أصل العالم الذي ذهبوا إليه.

والجواب: أنه لو جاز خلو الجسم من الأعراض فيما مضى من الزمان لجاز خلوه عنها الآن لأن مرور الزمان لا تأثير له فيما يجب للجسم أو يجوز أو يستحيل، ألا ترى أن الجسم لما وجب له التحيز وجب له في كل مكان وزمان ولمَّا جاز عليه التنقل جاز في كل مكان وزمان ولما استحال عليه كونه في جهتين في حالة واحدة استحال عليه في كل زمان ومكان ومعلوم قطعاً أنه لا يجوز خلوه عنها الآن، إذ لو جاز ذلك لم يمتنع أن يكون كثير من الأجسام موجودة وهي غير متحركة ولا ساكنة وقد علمنا أن من جوَّز ذلك فقد كابر حكم عقله، ولو@ أخبرنا مخبر أنه شاهد أجساماً في بعض البلاد القاصية وهي غير متحركة ولا ساكنة لتبادر العقلاء إلى تكذيبه من غير توقف في أمره فتقرر أن الجسم لا يخلو من الأعراض المحدثة.
وأما القول بالهيولى والصورة فقول غير صحيح لأنهما قديمان عندهم، فليس أحدهما
بأن يكون صورة والآخر هيولى أولى من خلافه وهذه التسمية عندهم موضوعة لإفادة معنى مختلف، ولهذا كان أحدهما حالاَّ والآخر محلاً، فأما إن كانت التسمية لقباً فلا ضير عليهم في ذلك.
تنبيه:
اعلم أن إطلاق القول بأن الأجسام لا تخلوا من الأعراض المحدثة كما هو واقع في عبارات كثير من أصحابنا، لا يخلوا من تسامح، لأن الذي عليه الزيدية والمعتزلة جميعاً وأكثر الفرق، التفصيل وهو أن يقال الأعراض باعتبار وجودها في الجسم وعدمها على ثلاثة أضرب :
منها ما لا يجوز خلو الجسم عنه لكل حال وهي هذه الأكوان فإنه لا يجوز خلوها عنه بحال.
ومنها ما يجوز خلوها عنه بكل حال وهو كل عرض غير باق أو باق ولا ضد له، فغير الباقي كالإرادة والاعتقاد والأصوات ونحو ذلك، والباقي ولا ضد له كالقدرة والحياة والتأليف.

ومنها ما يجوز خلوها منه قبل حلوله فيه وبعد حلوله لا يجوز خلوها عنه أو عن ضده وذلك كل عرض باق له ضد كالألوان والطعوم ونحوهما، فأما المصنف فقد أشار إلى ما ذكرنا عن الزيدية ومن وافقهم بقوله: لم يخل من الأعراض المحدثة التي هي الحركة والسكون إلى آخره.
وأمّاالأصل الرابع: وهو أن ما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله. فهذا هو مذهبنا وهو الذي عليه أهل العدل وأكثر ملل الكفر، وقال قوم من الفلاسفة: الجسم قديم مع أنه لم يخل من الأعراض المحدثة ولم يتقدمها وحرَّر لهم ابن الراوندي لعنه الله شبهتهم لتقرير مذهبهم بأن قال إن الجسم لم يخل من حادث وقبل الحادث حادث وقبله حادث إلى ما لا نهاية له وذكر أن جملتها قديمة وآحادها محدثة فالجسم لم يخل منها وهو مقارن لأولها والأول لا أول له وكان الجسم قديماً.
والجواب: أنَّا إذا علمنا أن الجسم لم يخل من الأعراض وأنه لم يسبقها كما تقدم ذلك في الدعوى الثالثة وهي محدثة كما تقدم في الدعوى الثانية لزم حدوثه لأن الجسم لا يخلو إما أن يوجد قبلها أو معها أو بعدها والأول باطل لما بينا من أنه لم يتقدمها والأخيران يلزم منهما حدوثه لأن ما وجد مع المحدث أو بعده فهو محدث، وقول ابن الراوندي أن آحادها محدثة وجملتها قديمة باطل،لأن صفتي القدم والحدوث يرجعان إلى الأجزاء وهي الآحاد فإذا كانت محدثة كانت الجملة كذلك فثبت بما قررناه من الأصول الأربعة أن هذه الأجسام محدثة وبطل قول من قال بقدمها، وبقي أن يقال قلتم والمحدَث لابد له من محدِث والمطلوب بيان دليله.

قلنا: الذي يدل على أن المحدث لابد له من محدِث أمران: أحدهما ما ذكره الشيخ أبو الحسين والرازي من المجبرة وغيرهما من المعتزلة والجبرية وهو ما يعلم أنه أي الجسم إذا كان في الأصل معدوماً ثم خرج من العدم إلى الوجود لم يكن له بد من مخرج أخرجه وإلاَّ وجب بقاءه على عدمه الأصلي، أما أنه كان في الأصل معدوماً فقد دللنا على حدوثه والمحدث هو الموجود بعد أن لم يكن، وأما أنه لابد من أمر فلا شك في ذلك إذ هو يعلم بأدنى نظر وتأمل، بل من أصحابنا من قال هو معلوم ضرورة فصح أن ثم مؤثراً على سبيل الجملة. الأمر الثاني ما ذكره جمهور المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وغيرهما وأكثر الزيدية وهو القياس على أفعالنا كالبناء والكتابة بجامع الحدوث، وبيان ذلك أن أفعالنا محتاجة إلينا قطعاً لأنها توجد بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب
كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققاً وإما مقدراً، ونريد بالمحقق فعل العالم المميز لفعله، والمقدر فعل الساهي والنائم فإنه لم يوجد بحسب قصده وداعيه وهو مع ذلك مضاف إليه،وإذا تقرر حاجتها إلينا فلابد من علة وهي إما عدمها ولا يصح لأن العدم نفي والنفي لا يحتاج إلى مؤثر (أو بقاؤها بعد وجودها) ، ولا يصح أيضاً بدليل أن أحدنا يخرج عن كونه قادراً بل عن كونه حياً وأفعاله باقية مستغنية في بقائها عنه، فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا في حدوثها فيجب أن تكون علة احتياجها هي حدوثها، فإذا شاركها الجسم في الحدوث وجب مشاركته لها في الاحتياج إلى فاعل مختار وإلا بطل كونها علة، وهاهنا أصل وفرع وعلة وحكم، فالأصل أفعالنا، والفرع الأجسام والعلة الحدوث، والحكم وجوب الاحتياج إلى محدث وهذا هو القياس العقلي.
تنبيه:

قال بعض المحققين:من كان طريقه في الحكم باحتياج الجسم إلى محدث قياس الأجسام على أفعالنا فهو يحكم بأن المجبِر لا يعلم الصانع لجهله الدليل على إثباته حيث أنكر أن للعبد أفعالاً وهو الأصل المقيس عليه. وقد أُورد على هذا الدليل سؤالان يصعب الجواب عنهما، ولهذا مال عنه بعض المعتزلة والأشاعرة واستدلوا بما ذكرناه في الأمر الأول وهو الذي اعتمده المصنف في الكتاب وبعض أصحابنا المتأخرين، قال في حكايته عنهم قالوا العالم حدث مع الجواز فلابد من مؤثر وإلاَّ لم يكن بأن يحدث أولى من أن لايحدث، ثم يستدلون على أنه حدث مع الجواز بأنه لو كان حدوثه مع الوجوب لم يكن بأن يحدث في وقت أولى من وقت فيلزم قدمه والمعلوم والمفروض حدوثه وبأنه لو حدث مع الوجوب لكان جنساً واحداً غير مختلف في صفاته والمعلوم خلافه، فإن بعضه حيوان وبعضه جماد وبعضه سماء وبعضه أرض وبعضه إنسان وبعضه فرس ونحو ذلك. فعلم أنه لابد من أمر لأجله حدث في وقت دون وقت وعلى صفة دون صفة وهو المطلوب. قال وهذا الدليل قوي لا يَرِد عليه شيء مما ورد على ما قبله.
تنبيه:
الدليل القرآني المثير لدفين العقل على حدوث العالم على ما هو مذهب جمهور أئمتنا عليهم السلام قوله تعالى{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}(البقرة:164).

قال في الأساس: بيان الاستدلال بهذه الآية، أما السماوات والأرض فإنا نظرنا في خلقهما فوجدناهما لم ينفكا عن إمكان الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل والجمع بينهما وتفريق كل منهما، فذلك الإمكان إما قديم أو محدث ليس الأول لأن الإمكان لا يكون إلاَّ مع التمكن والتمكن لا يكون إلاَّ عند أن يصح الفعل، والفعل لا يصح إلاَّ بعد وجود الفاعل ضرورة، وما كان بعد غيره فهو محدث فثبت الثاني وهو حدوثه فلزم حدوث لازمه وهو السماوات والأرض، فهما مع ذلك الإمكان إما قديمان أو محدثان ليس الأول لأنا قد علمنا ضرورة أنهما لا يعقلان منفكين عنه وكل ذي حالة لا يعقل منفكاً عن حالته يستحيل ثبوته منفكاً عنها كالعمارة مثلاً فإنه يستحيل وجودها منفكةً عن إمكانها وكالمستحيل فإنه يستحيل تخلفه عن عدم إمكانه فلو كانا قديمين لكانا قد تخلفا عن ذلك الإمكان لأن الإمكان لا يكون إلاَّ مع التمكن منهما والتمكن لا يكون إلاَّ بعد صحة الفعل وصحة الفعل لا تكون إلا بعد وجود الفاعل، وما كان بعد وجود غيره فلاشك في حدوثه ولزم حدوث ما يتوقف عليه من جميع ذلك، ولو كانا قديمين لزم تخلفهما عنه قبل حدوثه وهو محال لما بينا فثبت الثاني وهو حدوثهما، وأيضاً هما مختلفان فاختلافهما إما للعدم أو لعلة فرضاً أو لفاعل ليس الأول لأن العدم لا تأثير له ولا الثاني لأن تأثير العلة إيجاب بزعمهم، فلو كان كذلك لوجب أن تكون السماء أرضاً والعكس، والسفلى من السماوات عليا والعكس، إذ ما جعل أحدهما أرضاً والآخر سماء ونحو ذلك بأولى من العكس لعدم الاختيار، فثبت أنه لفاعل مختار ولزم تقدمه إذ لا يصح كونه فاعلاً مختاراً إلاَّ مع تقدمه ضرورة وما تقدم عليه غيره فهو محدث، فثبت بما تقرر من دليل

أهل المذهب الصحيح أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره، وذلك الصانع إما فاعل أو غيره أو لا فاعل ولا غيره ونعني بالفاعل الصانع المختار وحقيقته هو من وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه، الثالث باطل لأن تأثيراً لا مؤثر له محال وبذا نعرف بطلان قول عوام الملحدة: الدجاجة والبيضة محدثتان ولا محدث لهما، وقول ثمامة بن الأشرس من علماء المعتزلة المتولد محدث ولامحدث له وإلاَّ لزم أن يوجد بناء بلا بان وهو محال، وخلافهم هذا يدل على أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث استدلالي لا ضروري خلاف أبي القاسم البلخي. قلنا: إذاً لأشترك العقلاء في العلم به، والثاني باطل أيضاً إذ ذلك الغير إما علة كما تقوله بعض الفلاسفة والعلة غير معقولة في نفسها سلمنا فلا صحة لتأثيرها إذ تأثيرها إيجاب وقد مرَّ إبطاله، سلمنا فلابد في المؤثر من كونه قادراً حياً على ما سيأتي بيانه ولا حياة لها ولا قدرة.

4 / 34
ع
En
A+
A-