للأئمة في التقصير عن بلوغ درجة المعتزلة في علوم الدين بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد فذلك قول من لا يعرف الجمل ولا شروط الجهاد لأن تلك الجمل التي زعموا أنهم قنعوا بها هي منتهى ما يعقل ويجب ولا متعد بعدها لعقل مكلف من البشر إلاَّ إلى الغلو والإفراط والخوض والتوهم المنهي عن تكلفه والخوض فيه، ولأن الجهاد للنفس عن التقصير مقدم على الجهاد للغير والجهاد بالسيف فرع على الجهاد بالعلم لأن من شرط الإمام الذي يجب عليه الجهاد أن يكون سابقاً والسابق لا يوصف بأنه قانع في علوم الدين بالجمل لكون القانع بالجمل مسبوقاً ومع ذلك فإن أكثر الأئمة عليهم السلام لم يكن لهم شغل إلاَّ الجهاد بالعلم دون الجهاد بالسيف لقلة الأتباع وخذلان الأشياع.
وأما قولهم: أن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم فإن أرادوا بذلك الإيهام بأن الأئمة محتاجة إلى المعتزلة في علوم الدين فذلك خلاف ما اقتضته أدلة الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع العترة، وإن أرادوا أن من الأئمة من قرأ في علوم المعتزلة على شيوخهم فليس لهم في ذلك حجة لأنه يجوز أن يقرأ في كل فن من سائر العلوم على شيوخ أهله إذا كان فيه صلاح، وإن أرادوا أن من العترة من اعتزل فلو صح ذلك لم يكن لهم فيه حجة لأن الله سبحانه قد أخبر أن من العترة من هو ظالم لنفسه.

وأما قول من قال منهم: إن لفظة الاعتزال ما وردت في الكتاب والسنة إلاَّ صفة مدح فذلك دليل على أنهم لم يحيطوا بعلم ألفاظ القرآن فضلاً عن معانيه لأن الله تعالى قد وصف الكفار بالاعتزال في قوله تعالى{فإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}(الدخان:21) ونحو ذلك مما يدل أنه لا مدح في لقب الاعتزال لمن اعتزل الحق وأهله واكتفى في الدين بنفسه واعتمد فيه على رأيه.
وأما قولهم: إن خطأ المعتزلة في الإمامة صغير بالنظر إلى ما وضعوا في العدل والتوحيد فذلك مبني على القول بالموازنة دون الإحباط وقد قدمنا في إبطاله ما فيه كفاية. وحكى صاحب المسفر عن الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام جوابه عن تعمقات الفلاسفة ثم قال وخص بالإنكار المعتزلة لأنهم خائضون فيما دق عليهم ولم يكلفوه وهم معروفون به، فقال عليه السلام في كتاب الكفر والإيمان: ثم انصدعت من هذه الملة طائفة تحلَّت باسم الاعتزال استهواها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد إلى قوله ولأن غرضه عليه السلام ترك الخوض فيما دق والقول على الله ما لا يعلم وقد قال تعالى{ويخلق مالاتعلمون}(النحل:08) إلى قوله وتكلموا من دقيق الكلام بما لم يكلفوا وبما لعل حواسهم خلقت مقصرة عن إدراك حقيقتها وعاجزة عن قصد السبيل فيها. وقالت المجبرة: بل هي الناجية لقوله صلى الله علي وآله وسلم:(عليكم بالسواد الأعظم)، ويقولون هم المتمسكون بالسنة والجماعة ويلقبون نفوسهم بالسنيّة.
الجواب: أن المراد بالأعظم في الخبر الأعظم عند الله وليس كذلك إلاَّ الذين حكم الله بنجاتهم وأبان أنهم على الحق وأوجب التمسك بهم كالتمسك بالكتاب وهذه صفات عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا غيرهم كما بيناه بالأدلة القطعية.

وأما قولهم: أنهم أهل السنة والجماعة فإنهم لم يعرفوا معنى هذين اللفظين، فإن معنى السنة والمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالجماعة ما كان عليه أهل الحق في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يوجد في المجبرة التحلي بصفات سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل الحق، وإنما تحلى بذلك أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم. بيان ذلك: أنهم يدينون بأن الله عدل حكيم وعلى ذلك انعقد إجماع الصحابة وإجماع الأمة وأهل البيت عليهم السلام ثابتون على ذلك بخلافهم وذلك لأن عندنا أنه تعالى لا يخلق القبائح ولا يقضي بها، وهم يقولون بأن كل ما وجد في الدنيا من ظلم وعدوان وزور وبهتان وسفه وعبث وجور وأمر بباطل ونهي عن واجب وحسن وتخريب المساجد وقتل الأنبياء والأوصياء والأئمة والأولياء والأطفال فإن ذلك كله من الله عز وجل لا شريك له في صنعه وأنه الذي تفرد بابتداعه وإنشاءه واختراعه وأنه يرضى بذلك كله ويحبه ويشاءه، ومعلوم أن من فعل ذلك لا يكون حكيماً ولا عدلاً، فإذا كنا ننفي عن الله هذه القبائح كنا على السنة والجماعة وإذا كانوا يضيفونها إلى الله تعالى لم يكونوا كذلك، لأنّا قد علمنا أن من السنة تنزيه الله تعالى عن القبائح وتقديسه عن الفضائح، فأين هم من السنة والجماعة، فصحّ أنهم للسنة مفارقون وعن الجماعة نازحون.

وقد روينا: عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ابن الكوَّى لمَّا سأله عن السنة والجماعة والفرقة والبدعة، فقال عليه السلام: السنة والله سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والبدعة والله ما خالفها، والجماعة والله أهل الحق وإن قلّوا، والفرقة والله متابعة أهل الباطل وإن كثروا. وهذا خلاف ما يظنونه أن الكثرة تدل على الحق وأن القلة تدل على الباطل وقد ذم الله الأكثرين ومدح الأقلين في آيات كثيرة من كتابه الكريم فقال عز وعلا{وأكثرهم للحق كارهون}(المؤمنون:70) وقال تعالى{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}(يوسف:103) وقال تعالى{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم}(النساء:66) وقال تعالى{وقليل ما هم}(ص:24) وقال تعالى{وقليل من عبادي الشكور}(سبأ:13) وقال تعالى{وما آمن معه إلا قليل}(هود:40).
وقد روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الحارث بن حوط سأله فقال: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحق؟ فقال
له: يا حار إنه لملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق فاعرف الحق تعرف أهله قلّوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلّوا أم كثروا وإن الباطل لا يعرف بالقلّة.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأله رجل فقال: يا رسول الله أخبرني بكلمات جوامع نوافع ، فقال:(اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وزل مع القرآن حيث زال، قال: زدني، قال:من أتاك بالحق فاقبله وإن كان بعيداً بغيضاً ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان حبيباً قريباً)، ولو كانت الكثرة تدل على صحة صحيح لأرشده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودلّه عليها. وبالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(واقنع بقبول الحق من حيث ورد عليك وميز بعقلك ما اشتبه عليك فإنه حجة الله عليك ووديعة عندك وبرهانه فيك)، وكيف تكون الكثرة دالة على الحق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في ابتداء أمره في قلّة من أصحابه وهو على الحق ومن اتبعه، ومن عندَ عنه من الكفار على أنهم ملئ الأرض على ضلال، فهل كان يسعهم الاعتذار من ترك متابعته بأنهم أولى بالحق منه بمكان كثرتهم ، كلاّ بل هو صلى الله عليه وآله وسلم المحق وهم المبطلون والمهتدي وهم الضالون. ومما يوضح لك الحال: أن الغالب على أكثر أهل الدنيا أنواع الفسق من الظلم والكذب والبغي والعدوان وسائر أصناف العصيان، والعدل الثقة قليل جداً بالإضافة إلى غيره بل ربما لا يوجد العدل المرضي بالبلاد الكبيرة و على كثرة أهلها، فكيف يرجح ذوي تمييز مذهبه لكثرة القائلين به. وفيما ذكرناه كفاية لمن أنصف نفسه ولم يُعم التعصب عين بصيرته، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.

قال الشيخ رحمه الله تعالى: ونحن نسأل الله العظيم أن يجعلنا بالعلم عاملين كما جعلنا له حاملين، فقد روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(العلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه أتعب (نفسه صاحبه) في جمعه ثم لم يصل إلى نفعه).
قال المؤلف أمتع الله بحياته وأشركني في صالح دعواته: وهذا حين فرغنا من نسخ هذا الكتاب وتأليفه وذلك في يوم الثلاثاء لتسع عشرة مضين من شهر رجب الأصب سنة ثمان وعشرين وألف، جعله الله وسيلة إلى رضاه، ومقدمة للفوز يوم لقاه بحق محمد وآله صلى الله عليهم أجمعين آمين.
قال في الأم:
وكان الفراغ من زبر هذا الكتاب المبارك شرح الثلاثون المسأله يوم السبت لعله سادس عشر شهر شوال من شهور سنة ستة وخمسين وثلاثمائة وألف، ختمت بخبر. بقلم أسير ذنبه ورهين كسبه الراجي من الله العفو والغفران الحقير الفقير أحمد بن إسماعيل شويل وفقه الله تعالى آمين .

34 / 34
ع
En
A+
A-