والقوة: على تدبير الأمر، والقوة على ذلك لها معنيان أحدهما أن يكون له رأي وتدبير بحيث يفزع إليه عند النوازل. الثاني أن لا يكون به علة تمنعه من مخالطة الناس كالجذام والبرص والعمى وأن يكون سليم الحواس والأطراف التي يختل القيام بثمرة الإمامة بفقدها، ووجه اشتراط القوة على تدبير الأمر بالمعنيين الذين ذكرناهما أن الغرض بالإمامة تدبير أمر الأمة في دينها ودنياها، فمهما لم يكن قوياً على ذلك لم يقع الغرض بالإمامة فلا تصح إمامته، فهذه شروط (الإمامة عندنا) ، ولا يشترط عندنا سواها، وزاد أبو العباس والإماميّة العصمة ولا دليل عليها إلاّ تقدير حصول المعصية لو لم يكن معصوماً وذلك حاصل في المعصوم لقوله تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك}(الزمر:15) وزاد الإمامية أن يولد عالماً، وذلك باطل، حيث لم تثبت للأنبياء صلوات الله عليهم قال تعالى{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}(الشورى:52) وقال تعالى{ووجدك ضالاً فهدى}(الضحى:07) وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام {قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين}(الشعراء:20) ولما فرغ من بيان الشروط أخذ في بيان دليل حصر الإمامة في أولاد الحسن والحسين، ثم أتبعنا ذلك ببيان الدليل على أن طريق الإمامة في غير من نص عليه القيام والدعوة لا غيرهما كما زعمه المخالفون على اختلاف آرائهم. فقال: الدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأن الإمامة محصورة في أولاد البطنين أن الأمة أجمعت على جواز الإمامة فيهم، لأن من قال إن الإمامة جائزة في سائر الناس فهم من الناس بل خيارهم، ومن قال أنها جائزة في قريش فقط فهم من قريش بل (من أخيارهم) ، ومن قال أنها في البطنين فقط فهم البطنان ولا دليل على صحتها في غيرهم، أمّا من أجازها
في سائر الناس فمذهبه باطل بإجماع الصحابة بعد منازعة الأنصار يوم السقيفة حين أرادوا أن يبايعوا سعد بن عبادة فاحتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكونهم من قريش، فلم يكن لكلامهم منكر ولا رده راد بل انقادوا لذلك طائعين فكان إجماعاً، ومَنْ ثَمَّ قال علي عليه السلام لمّا بلغه أن الأنصار طلبوا الأمر لو كان الأمر فيهم ما كانت الوصاية بهم، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أطيعوا السلطان ولو عبداً حبشياً)، فمحمول على عامل الإمام للإجماع على أن العبد لا يصح تصرفه بغير إذن سيده، وأما من أجازها في سائر قريش فلا حجة له، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الأئمة من قريش) لا يقتضي ذلك لأن مِنْ للتبعيض فوجب حينئذ الاقتصار على المجمع عليه وترك المختلف فيه.
فإن قيل: كيف ندعي الإجماع على صحتها في جميع أولاد البطنين مع خلاف الإماميّة في ذلك؟.
قلنا: إنَّا لم ندَّع الإجماع إلاّ بعد قيام الدليل القاطع على بطلان قول أصحاب النصمن الإماميّة لأن ذلك النص على الأئمة الذين ذكروا إن كان آحادياً لم يؤخذ به في مسألتنا لأنها قطعية، وعلى تقدير أنها ظنية فلا تعارض أدلتنا القاطعة،
وإن كان متواتراً وجب أن لا يختص بالعلم به فريق دون فريق لأن الإمامة من أصول الدين المهمة التي يلزم كل مكلَّف معرفتها فيجب أن تكون أدلتها ظاهرة للجميع ليتمكن كل مكلَّف من النظر فيها وإلاّ سقط التكليف عمن لم يعلم الدليل لأن تكليف ما لم يُعلم قبيح فكان يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يظهره لجميع الأمة وإلاّ كان كتمانه تغريراً أو تلبيساً وذلك لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم، ولاشك أنّا إذا راجعنا أنفسنا علمنا من حالها أنها غير عالمة بذلك النص لا ضرورة ولا استدلالاً بل المعلوم أن أكثر الأمة من الزيدية والمعتزلة والجبرية والمرجئة والخوارج أنهم ما وقفوا على هذا النص المتواتر ولا تواتر لهم مع شدة البحث والحرص في طلبه وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها عدم معارضة القرآن وعدم صلاة سادسة وحج إلى غير الكعبة، ولو جوَّزنا تواطئ الأمة على كتم ذلك النص الضروري لجوَّزنا كتمهم كثيراً من أصول الشرائع فلا تقع الثقة بشيء من التكاليف الشرعية وهذا ظاهر الفساد، فعلم بهذا الدليل أن قول الإمامية ساقط ولا يلتفت إليه ولا يُعدّ خارقاً للإجماع.
فإن قيل: مدَّعاكم هو قصرها على البطنين، فكيف يصح الاحتجاج بالإجماع عليه والإجماع إنما هو على صحتها فيهم لا على قصرها عليهم؟
قلنا: لم نحتج بالإجماع على قصرها عليهم بل القصر له طرفان صحتها فيهم ونفيها عن غيرهم، فاحتججنا على الطرف الأول بالإجماع وعلى الثاني بعدم الدليل إذ لا دليل شرعي يدل على جوازها في غيرهم فوجب نفيه.
فإن قيل: كثيراً ما يتكرر أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فكيف تستدلون بعدم الدليل على جوازها في غيرهم على عدم الجواز؟. قلنا: عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول في الأمور العقلية، وأما في الشرعية فيدل وإلاَّ لجوزنا تكاليف شرعية كثيرة ولا دليل عليها وفيه هدم الشرائع وبطلان التكاليف وأنه محال، وإذا علمنا إجماع الأمة على جواز الإمامة في البطنين، وأنه قد اختلف فيمن عداهم ولم يدل دليل على جوازها فيه علمنا وجوب قصرها فيهم وعدم تعديها في غيرهم لأن الأمة إجماعهم حجة واجبة الاتباع ومحرم مخالفتها لقوله تعالى{ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}(النساء:115)وقوله صلى الله عليه وآله وسلم(لا تجتمع أمتي على ضلالة)، إلى غير ذلك مما هو مقرر في مواضعه وذلك ظاهر لمن أنصف، فثبت بذلك الدليل القطعي حصرها فيهم عليهم السلام دون غيرهم من الناس، وبطل ما قاله المخالفون. وأما الدليل على أن طريقها الدعوة دون غيرها كما زعمه المخالفون على اختلاف أقوالهم وهو أن الأمة أجمعت على اعتبار معنى الدعوة الذي ذكرناها في حق الإمام إلاّ أصحاب النص وقد بطل قولهم فيتعين الحق في قول من عداهم ولا دليل يدل على اعتبار (أمور زائدة) على الدعوة من العقد والاختيار والإرث والجزاء والقهر، وما لم يقم عليه دليل لم يجز إثباته لأنه يفتح باب الجهالات، ثم أنّا نقول لأهل العقد والاختيار نظرنا في كتاب الله فوجدنا فيه قوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}(المائدة:03)
ونظرنا في السنة فوجدنا فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة إلاّ دللتكم عليه… الخبر) ومقتضى هذا قد وجدناه فإن الشارع علمنا كل أمر حتى قضاء الحاجة، فكيف يقال بأنه ترك بيان أهم شيء في الدين وأعظمه وهو الإمامة، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل أمته في حال حضوره ولا تركهم بلا زعيم مختار لهم في كل غيبة فأحق وأولى أن لا يهملهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لو كانت بالعقد والاختيار لما جاز لأبي بكر أن يجعلها في عمر من غير شورى ولا جاز لعمر أن يجعلها في ستة مخصوصين، ولأن قولكم في أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوهم استخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وهم يقولون هم الذين استخلفوه، ولذلك قيل أن أبا بكر لمّا كتب إلى أسامة بن زيد كتابه الذي يقول فيه: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسامة بن زيد، أما بعد، فإن المسلمين ولوني على أنفسهم، فإذا قرأت كتابي هذا فاقدم أنت ومن معك. أجابه أسامة بكتابه الذي يقول فيه: من أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر بن أبي قحافة، أما بعد، فإنك كتبت إليَّ كتاباً ينقض آخره أوله، فلو كنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تحتج إلى ولاية المسلمين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي وقد أمَّرني عليك فمن أمَّرك عليَّ بعده. فخلِّ المكان لأهله والحق بموضعك الذي أمرك به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يبطل قول العباسية ومن وافقهم أن طريقها الإرث، أن العباس رضي الله عنه كان أولى العصبات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدعها لنفسه بل روي عنه ما قدمنا من أنه قال لعلي عليه السلام: امدد يدك أبايعك، وقال العباس في ذلك شعراً:-
ما كنت أحسب أن الأمر منتقل من هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالمفروض والسنن
وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما فيكم من كل مكرمة وليس في كلكم ما فيه من حسن
فما الذي صدكم عنه لنعرفه ها إن بيعتكم من أول الفتن
ولو كانت تجري مجرى الوراثة لادعاها أولاد العباس كعبدالله وعبيدالله وقثم وهم لم يدّعوها بل كانوا يعتقدون أنها لعلي عليه السلام وكانوا متولين من تحت يده ومتصرفين عن أمره، واعلم، أن هذه المقالة إنما حدثت في زمان المتولين من ظلمة بني العباس، أحدثَها لهم ابن الراوندي يريد بذلك التقرب إليهم. ومما يبطل قول من قال أنها جزاء على الأعمال، أن من حق الجزاء على الأعمال الصالحة أن يكون شهياً لذيذاً
ولاشك أن الإمامة من الأمور الشاقة المتعبة بل هي من جملة التكاليف التي يجب على الإمام القيام بها، فكيف يجوز أن يجازى بتكليف على تكليف. ومما يبطل قول من يقول أن طريق الإمامة القهر والغلبة أن المبطل الظالم قد يغلب المحق العادل فلا تجوز ثبوت الإمامة له. وإلى هاهنا تم ما أردنا وكمل ما أوردنا من شرح الثلاثين مسألة الواجبة معرفتها على الأعيان على كل مكلَّف، فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة والمنَّة الجسيمة. قال الشيخ: وهذه ثلاثون مسألة في أصول الدين يجب على المكلَّف المصير فيها إلى العلم اليقين ولا يجوز لأحد من المكلفين فيها التقليد بل لابد من النظر لما قررنا من الأدلة على وجوبه فيما سلف بعد إيراد كلام المخالفين فلا يحتاج إلى إعادة ذلك. ومن الأدلة على ذلك أن الله سبحانه قد ذم المقلدين وعاتبهم في التقليد فقال وهو أصدق القائلين{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}(البقرة:170) وغير ذلك من الآيات. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم المروي عنه بالإسناد الموثوق به:(من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله وعن التدبر لكتابه والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)، وكفى بذلك زاجراً عن تقليد الرجال وباعثاً على النظر والاستدلال، فينبغي للعاقل أن يجتهد في خلاص نفسه من عذاب يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه.
ولنختم هذا الشرح المبارك إنشاء الله تعالى ببيان الفرقة الناجية، إذ ذلك من المهمات واللوازم، فنقول: اعلم، أن الأمة قد تفرقت إلى فرق شتى وهي على كثرة مذاهبها وتباين مطالبها وتضليل بعضها لبعض لا يجوز أن تكون مصيبة كلها بل بعضها مصيب وبعضها مخطىء لا محالة بل كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة كما يقضي به الأثر النبوي المتلقى بالقبول المجمع عليه وهو في (الصحاح المشهورة) وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة)، وقد يروى أن أوله(افترقت أمة أخي موسى على إحدى وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة، وافترقت أمة أخي عيسى على اثنين وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة وستفترق أمتي ….. الخبر)، وروى الغزالي في كتاب التفرقة أنها ناجية إلاَّ فرقة واحدة، والرواية الأولى هي المعتمدة وقد قضى صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأن أمته كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة، وهذا مما يعلم عقلاً، أعني أن الفرق المختلفة في الأصول لا يجوز أن تكون على حق فيما هي عليه بل بعضها محق وبعضها مبطل.
قال الإمام يحي عليه السلام: ومصداق الحديث أن الروافض عشرون والخوارج عشرون والمعتزلة عشرون والمرجئة ست والمجبرة أربع ثم الباطنية والحلولية والثالثة والسبعون هم الزيدية، فإذا قضى صلى الله عليه وآله وسلم بالهلاك على كل فرقة سوى واحدة، وجب على كل عاقل أن يعرف تلك الفرقة لأنها هي المحقة فيكون من جملتها ليسلم من الهلاك، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ليموت إلاَّ وقد بينها لنا لأنه بعث مُبيناً للدين وهادياً إلى طريقة الحق المبين، فلا بد أن يكون قد بين هذه الفرقة قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم سيما وقد قال تعالى (فيما أنزل عليه) {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}(المائدة:03) وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس شي يباعدكم من النار إلاَّ وقد ذكرته لكم ولا شيء يقربكم من الجنة إلاَّ وقد دللتكم عليه) ، فنظرنا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هما قاضيان بأن الفرقة الناجية العترة المطهرة وهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}(الأحزاب:33)، وقد وردت آثار كثيرة في حديث الكساء تقضي بأن أهل البيت عليهم السلام الذين أرادهم الله تعالى بالآية العترة عليهم السلام دون غيرهم.
من ذلك ما روي عن واثلة بن الأسقع، قال: طلبت عليَّاً عليه السلام في منزله، فقالت فاطمة عليها السلام: ذهب يأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجاءا جميعاً فدخلا ودخلت معهما، فأجلس عليَّاً عليه السلام عن يساره وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوب فقال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق، قال واثلة:فقلت من ناحية البيت وأنا من أهلك يا رسول الله،قال: أنت من أهلي، قال: فذلك من أرجا ما أرجو من عملي، إلى غير ذلك من الطرق المروية في حديث الكساء وغرضنا التنبيه دون الاستقصاء، وإذا صح إخبار الله تعالى بإرادة تطهيرهم من الرجس المراد به تطهيرهم من الأوزار لأنه ينجس منهم ما ينجس من غيرهم فلا يحمل على معناه الحقيقي الذي هو النجاسة وتطهيره لهم بألطافه وتوفيقاته، ثبت أنهم على حق في عقائدهم وأعمالهم لأنه سبحانه لا يطهر الفجرة وإنما يطهر البررة، فصح أنهم أطهار ناجون وأن ما أجمعوا عليه حجة يجب الرجوع إليه لأنه حق لا باطل. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وهذا الخبر مما ظهر بين الأمة واشتهر ولم يقدح أحد منهم في صحته بل تلقوه بالقبول.