قلنا: أما القول بصحة التقليد مطلقاً فبطلانه ظاهر،وذلك لأن الله تعالى لم يكن مطابقاً لكل اعتقاد فالمخطي جاهل به والجاهل به كافر إجماعاً،وتقليد الكافر في كفره كفر إجماعاً،وقد ذم الله المقلدين في كتابه حيث قال حاكياً { إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مقتدون } (الزخرف:23) ونحوها.وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ دينه ) الخبر.وأما القول : بجواز تقليد المحق . فإنه لا يحصل العلم بالمحق إلاَّ بعد معرفة الحق ولا يعرف الحق إلاَّ بالنظر ، فيمتنع التقليد حينئذ.
تنبيه : اختلف في معرفة الله تعالى مع سائر مسائل أصول الدين الواجب معرفتها عندنا. فذهب أهل المعارف كالجاحظ وأبي علي الأسواري والشيخ الرصاص صاحب الجوهرة إلى : أن معرفة الله وجميع المعارف الإلهية ضرورية في الدنيا والآخرة. وذهب أبو القاسم البلخي ومن تابعه إلى : أنها لا تعلم إلا بالاستدلال في الدنيا والآخرة.
المذهب الثالث التفصيل : وهو أن الله تعالى يعرفه أهل الآخرة والمحتضر ضرورة،وأما أهل الدنيا فاختلف فيهم على ثلاثة أقوال، والذي عليه الأكثر من أهل العدل وغيرهم أنهم لا يعرفونه إلاَّ بالدلالة .
المذهب الثاني:ذهب إليه السيد المؤيد بالله والفقيه حميد أنه يجوز أن يكون في الأنبياء والملائكة والصالحين من يعرف الله ضرورة. دلالة القول الثالث ذكره ابن مُتَّويه وهو أيضاَ للفقيه حميد أن الله تعالى يعلم ضرورة جملة وتفصيلاً دلالة.
الجواب: أنه تعالى لو كان معلوماً ضرورة لكان الجاهل به معذوراً، إذ العلم الضروري حاصل من جهة الله لا اختيار للعبد فيه ومعلوم أن الكفار غير معذورين، للزم أن يشترك العقلاء في العلم به.ومعلوم أنهم مختلفون ، وأن لا ينتفي العلم به بشك ولا شبهة،ومعلوم أن بعض من برز في هذا الفن واشتهر به خالجتهم الشبه حتى أن بعظهم أفضى به ذلك إلى التعطيل كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق.
تنبيه : أطلق كثير من أصحابنا أن العلم والمعرفة مترادفان،قالوا: وبهذا لا يصح أن يثبت الباري بأحدهما وينفى بالآخر وهذا فيه إشكال،فإنه قد فرق بينهما أهل العربية حيث جعلوا العلم يتعدى إلى مفعولين والمعرفة إلى مفعول واحد،ووافقهم في ذلك أهل المنطق حيث جعلوا العلم متعلق بالمركبات والمعرفة بالمفردات ، ومن ثم يقال : عرفت الله دون عَلِمته،وفرق بينهما بعضهم بأن العلم نقيضه الجهل، والمعرفة نقيضها الإنكار،وقال بعضهم: المعرفة علم ناقص ، ومن ثم يقال الله تعالى عالم ولا يقال : (أنه عارف) ، ومنع بعضهم أن يطلق على الله أنه عارف وإنما يقال أنه عالم،قال لأن المعرفة هي العلم المسبوق بالجهل والله متعالٍ عن ذلك. قيل: ومن ثم لم ترد لفظة عارف في أسماء الله الحسنى ولا وصف بها نفسه في كتابه العزيز مع كثرة ما وصف نفسه بالعلم وما تصرف فيه.
باب إثبات الصانع وذكر توحيده وذكر عدله ووعده ووعيده.
معنى إثبات الصانع اعتقاد ثبوته ووجوده،وعطف التوحيد عليه يشعر بأن مسألة إثبات الصانع غير داخلة في التوحيد وهي أصل باب التوحيد على ما قرره أصحابنا ويظهر ذلك في حد التوحيد على ما يجيء بيانه،وجعل المذكورة باباً واحداً لا يخلو من تسامح،وكان اللائق عند سلوك نهج التبويب أن يجعل الكتاب أبواباً أربعة.
الأول:في وجوب النظر وقد تقدم.
والثاني:في التوحيد.
والثالث:في العدل وما يتبعه.
والرابع:في الوعد والوعيد وما يتبعهما.وفي كل باب مسائل مذكورة على جهة الأصالة أو التبعية .
اعلم (أن المهمات من ما) يجب على المكلف من فن أصول الدين بعد النظر ثلاثون مسألة ،في التوحيد عشر،وفي العدل وما يتبعه عشر،وفي الوعد والوعيد وما يتعلق بذلك عشر،وذكر قاضي القضاة فصلين الأول في التوحيد والثاني في العدل وجعل جميع ما ذكر داخلاً تحت العدل.قال الدواري: وهي لعمري قسمة حسنة لم يسبق إليها وينبغي معرفة وجوه الترتيب بين الأبواب،فتقديم النظر لكونه يوجب العلم بالتوحيد، وتقديم التوحيد على العدل لوجهين، أحدهما أن بعض مسائله دالة على بعض مسائل العدل وباقي مسائله تابعة ودليل الشيء يتقدم عليه. الثاني أن التوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته والعدل كلام في أفعاله ، ومهما لم تعلم ذاته تعالى وصفاته لم تعلم أفعاله، وقدَّم العدل على الوعد والوعيد لوجهين :
أحدهما : أن بعض مسائله دالة على بعض مسائل الوعد والوعيد.
الثاني : أن الوعد والوعيد كلام في أحكام أفعاله ومهما لم تعلم الأفعال لم تعلم أحكامها،هذا ما ذكره أصحابنا.قال الدَّوَّاري: والأولى
في الوجه الثاني أن يقال قدم العدل،لأن من جملة مسائل العدل إثبات كون القرآن كلام الله ، والوعد والوعيد كلام في أنه تعالى قد وعدنا وتوعدنا وأنه لا يخلف وعده ولا وعيده ولا يمكن (أن نتكلم) في أنه وعد ولا يخلف حتى نعلم كون القرآن كلامه ، وألحقنا سائر مسائل العدل بمسألة القرآن اتباعا.
واعلم :أن الكلام في مسائل الاعتقاد يتعلق بثمانية أُمور:
أولها : بيان المذهب في المسألة.
ثانيها : بيان الدليل على صحة ذلك المذهب.
ثالثها : بيان تحقيق ذلك الدليل.
رابعها: بيان الأسئلة الواردة على ذلك الدليل والتحقيق.
خامسها : بيان أجوبة تلك الأسئلة .
سادسها : بيان مذاهب المخالفين في تلك المسألة .
سابعها : بيان شبههم التي يتعلقون بها .
ثامنها : حل تلك الشبه وإبطالها. وبتمام هذه الثمانية يكمل معرفة ما يتعلق بتلك المسألة .
وتنقسم باعتبار وجوبها على المكلف إلى ثلاثة أقسام فرض عين بكل حال وهي معرفة الثلاثة الأول ، وفرض كفاية على كل حال وهي معرفة مذهب المخالف وشبهته وسؤاله ، وفرض عين في حال دون حال وهي معرفة حل شبهة المخالف وجواب سؤاله ، لأنهما إن قدحا حتى دخل الشك في علم المكلف كانا فرض عين وإن لم يقدحا كانا من فروض الكفاية.
باب التوحيد
هو في اللغة:مصدر وحَّد الشيء جعله واحداً بالفعل أو القول.
وفي الاصطلاح : ما حكي عن الوصي أمير المؤمنين صلوات الله عليه التوحيد أن لا تتوهمه . وقد ذكر السيد مانكديم في شرح الأصول حده فقال: التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا ثاني معه يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقها مع الإقرار به . فقولنا : العلم بأن الله تعالى واحد لا ثاني معه . هذا هو التوحيد في الحقيقة وبه سمي باب التوحيد ، وقلنا : يشاركه في الصفات التي يستحقها نفياً وإثباتاً. فالنفي مما يستحيل عليه من الصفات ، والإثبات ما يثبت له منها على ما سيأتي. وقلنا : على الحد الذي يستحقها . احترازاً عن الواحد منا فإنه وإن شارك القديم في بعض هذه الصفات كالعالمية والقادرية ونحو ذلك ، فهي في حقه تعالى واجب إذ هي بالذات لا بجعل جاعل ولا لمعنى ولا لأمر غير الذات ، وفي حق المخلوق جائزة فلم يشاركه على الحد الذي يستحقها. وأما (قوله : مع) الإقرار به . فلا حاجة إليه لأن من اعتقد التوحيد موحِّد ، وإن لم يقر ولعله ذكر ذلك في تسمية الواحد منا لغيره موحِّداً ، فإنا لا نسميه موحداً حتى يقر أو ذكره لأن ذلك من شرط التوحيد عند التهمة.قال بعض المحققين: هذا الحد يشمل العلم بالذات وبالصفات.
نعم ويشتمل هذا الباب على عشر مسائل :
المسألة الأولى: أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره
الكلام في إثبات الصانع وقدَّمها على الصفات لأنها فرع عليها لأن من لم يعلم الذات لم يعلم الصفات فيجب على المكلَّف أن يعلم أن لهذا العالم صانعاً صنعه ومدبراً دبره، وحقيقة العالم في مواضعة المتكلمين الأجسام والأعراض الموجودة على الترتيب المشاهد مثل السماوات والأرض وما بينهما،وهو في الأصل اسم لجميع المخلوقات ومنه حديث وهب بن منبِّه أن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم الدنيا وما فيها عالم واحد، وقيل : اسم لمن يعلم وهو الملائكة والثقلان . وقيل : مشتق من العلم . وقيل : هو اسم لما يعلم به الله . وقيل : كل عصر يسمى عَالَم . ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وقد ذُكرت عندها مريم(تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء العالمين). والقول بأن لهذا العالم صانعاً فاعلاً مختار هو مذهب جميع فرق الإسلام وأكثر فرق الكفر من أهل الكتب وكثير من عبدة الأوثان.
والخلاف في ذلك مع الملحدة والفلاسفة والدهرية والطبائعية والباطنية ، ثم اختلفت هذه الفرق الضالة على قولين فالملحدة والدهرية والطبائعية والفلاسفة المتقدمون ينفون المؤثر ويقولون : لا صانع جملة ولا تفصيلاً . ويقولون : العالم قديم وما ثمَّ إلاَّ ليل ونهار وشمس وأقمار وفلك دوار. وقد حكى الله مقالة الدهرية في قوله تعالى { وما يهلكنا إلاَّ الدهر } (الجاثية:24).والقول الثاني وهو قول الباطنية والفلاسفة الإسلاميين إثبات مؤثر جملة.
قالت الفلاسفة الإسلامية: إن أصل العالم علة موجبة ، وتلك العلة غير موصوفة بشيء من صفات الإثبات لأنها لو وصفت لتعددت وتكثرت ، وتلك العلة غير مختارة والعالم ملازم لها في الوجود وفي القدم ملازمة شعاع الشمس لها، قالوا: ثم أن تلك العلة أثرت في ذات يقال لها عقلاً فحصل لهذا العقل خلال ثلاث عقل لباريه ، وهي العلة الموصوفة وصحة وجوده في نفسه وإمكان وجوده من باريه، وهذه الخصال تتفاوت عندهم في الرتبة والشرف أشرفها صحة وجوده من باريه، وأوسطها عقل لباريه ، وأدناها إمكان وجوده في نفسه،ولأجل هذه الخلال الحاصلة له أثر في ثلاثة أشياء لأجل الأشرف أشرف ولأجل الأوسط أوسط ولأجل الأدون أدون أثر لأجل عقله لوجوده من جهة باريه في عقل ، ولأجل عقله لإمكان وجوده في نفسه في فلك ، ولأجل عقله لباريه في (نفس فلك) ، ثم حصل لهذا العقل من الخلال ما حصل للأول ، وأثر في مثل ما أثر فيه العقل الأول ، ولم تزل العقول كذلك إلى أن بلغت عشرة والأفلاك تسعة والنفوس تسع والعقل العاشر هو المتولي بتدبير جميع العالم من الإيجاد والإحياء والإماتة وسائر ما اشتمل عليه العالم منوط بهذا العاشر،فأما الذات المتقدمة وما يليها إلى العاشر فلاحظَّ لها في شيء من أمر العالم،ولهم أقوال تخالف ذلك ، وكلها متفقة أن الذي ينتهي إليه جميع العالم علة ، وأن العالم ملازم في وجوده وجودها في القدم ، وسمُّوا هؤلاء فلاسفة إسلاميين لأنهم يقرون بظواهر الإسلام،وقيل الحدوث مذهبهم بعد بعثة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
وأما الباطنية: فلهم أقوال جمَّة من جملة أقوالهم قول يشابه هذا القول إلاَّ أنه يفارقه من ثلاثة أوجه :
الأول: أنهم يقولون : إن هذه العلة غير موصوفة بنفي ولا إثبات حتى أنهم قالوا لو لا الضرورة لما سميناها الله. والفلاسفة لم يتكلموا على النفي.
الثاني:أنهم يسمون العقل الأول سابقاً والثاني تالياً.
الثالث: أنهم يقولون إن العقل الثالث تحيَّر ، لأنه لم يحصل له العلم من أول وهلة كما حصل لغيره من العقول من الخلال الثلاث ، فحطَّ في المنزلة العاشرة وسبقه ما بعده على سبيل العقوبة له فهو المنوط به أمر العالم عقوبة له، ويسمون هذا العالم عالم الكون والفساد، ومنهم من قال أمر العالم منوط بالعقل الثاني المسمى بالتالي. ويحكى عنهم أقاويل باطلة غير ذلك.
واعلم أن الكلام إنما هو في الأجسام نفسها وأما تراكيبها فلا خلاف في حدوث كثير منها كالحوادث اليومية. والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو أن هذا العالم لابد له من فاعل مختار من وجوه كثيرة اعتمد كثير من الموحدين منها دليل الدعاوى وهو الذي ذكره في الكتاب لما أُورد على غيره من الأسئلة التي يصعب الجواب عنها إلاَّ بالرجوع إليه،وأول من حرر هذا الدليل هو الشيخ أبو الهذيل،وذكر الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص أنه إبراهيم الخليل صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه في آية الأفول. وقال السيد المؤيد بالله: إن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون بالتأليف فيقولون العالم مؤلَّف وكل مؤلَّف لابد له من مؤلِّف إلى أن جاء أبو الهذيل فحرر هذا الدليل. وبيان هذا الدليل أن هذه الأجسام على تنوعها من حيوان وجماد ونامٍ وغير نامٍ محدثة، والأجسام جمع جسم وحقيقته الطويل العريض العميق ومعنى ذلك أنه مؤتلف من أجزاء طولاً وعرضاً وعمقاً. وكثير من المتكلمين يعبر عن تلك الأجزاء بأنها جواهر، وأن حقيقة الطول ائتلاف الجوهرين أو الجواهر في سَمَتٍ واحد، وحقيقة العرض ائتلاف ماذكر عن يمين الخط ويساره ، والعمق على ضربين عمق مطلق وهو ائتلاف الجوهر أو الجوهران أو الجواهر من أعلى إلى أسفل مع الصفيحة وهي معنى العرض ويعبر عنها بالسطح أيضاً، وعمق الأجسام وهو الجواهر المؤتلفة أربعة فصاعداً من أعلى إلى أسفل (على ما صححه الدواري مع الصفيحة) . ونقول: إن كان المراد (بالجوهر ما اصطلح) عليه بعض المعتزلة من أنه الذي يشغل الحيز من جهة واحدة دون الثلاث فذلك مما لا يعقل لأن ما منع الحيز من جهة لا يعقل إلا يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، وإن كان المراد به المتحيز غير
المنقسم مما ليس له طول وعرض وعمق فذلك صحيح. وبيان ذلك أن أهل الإسلام وكثيراً من الفرق الكفرية ذهبوا إلى أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وذلك هو الجوهر. وقال النظام والمطرفية: لا يزال الجسم يمكن في المقدور أن ينقسم أبداً مؤبداً إلى ما لا نهاية له. وذهبت الفلاسفة إلى أنه لا يزال يمكن في المقدور أن ينقسم حتى يبلغ حداً لا يمكن انقسامه بالفعل ثم يتكثر بعد ذلك حتى يصير ممكناً انقسامه وعندهم أن الجوهر لا ينقسم بالفعل وإنما يمكن انقسامه بالقوة والأصح الأول وقد أُلزم النظام القول بالطُّفْر حيث لا يمكن قطع المسافة اليسيرة إلاّ بقطع الأخرى وهي لا تتناهى عنده وقطع ما لا يتناهى محال فقال إن القاطع بطفر ما لا يتناهى والطفر في نفسه غير معقول لأنه كون الجسم في جهة بعد أن كان في جهة أخرى من غير قطع مسافة بينهما وذلك محال. هذا وما ذكرناه من أن أهل الإسلام وغيرهم أجمعوا على أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وهو الجوهر حكاه الدواري وهو مصرح بأن لا قائل بإنكار الجوهر وهو خلاف ما عثرت عليه في حقائق المعرفة للمتوكل على الله أحمد بن سليمان (عليه السلام) فإنه أنكر فيه الجوهر بالكلية وقال ليس إلاَّ جسم أو عرض وهكذا ذكر السيد حميدان رحمه الله تعالى ورواه عن الحسين بن القاسم العياني عليه السلام قالوا لأنه تفكرٌ فيما لم نكلف بالتفكر فيه من إثبات جزء لا ينقسم.