الثالث: التفصيل لا يعود ما كان قد اجتمع قبل فعل الكبيرة ولا الذي منعت الكبيرة عن استحقاقه من وقت فعلها إلى وقت التوبة ويعود الاستحقاق المتجدد في المستقبل وهو قول ابن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام، قال بعض أصحابنا وهو الموافق للقواعد والأصول إذا كان المانع من استحقاق الثواب على تلك الطاعات هو إستحقاق العقاب على تلك المعصية وعند بطلانها بالتوبة زال المانع من استحقاق الثواب إذ الطاعة باقية لم يطرأ عليها ما تصير به كالمعدومة فيعود استحقاق الثواب في المستقبل وهو أيضاً اللائق بالعدل والحكمة وإلاَّ لزم التساوي بين من قطع عمره في طاعة الله وعبادته ثم فعل كبيرة وتاب عنها قبل موته وبين من قطع عمره في عصيان الله والكفر به ثم تاب قبل موته والفرق بينهما مما لا شك فيه.
فإن قيل: فيلزم في من تاب من معصية ثم عاد إليها أن يتجدد له استحقاق عقاب الأولى لمثل ما ذكرتم هنا .
قلنا: قد قال بذلك بشر بن المعتمر وطرد قاعدته المتقدمة من الإطلاق، ونحن نقول بينهما فرق جلي فإن الطاعات المتقدمة في هذه المسألة باقية في نفسها إذ سقوط ثوابها
في الزمان الماضي إلى وقت التوبة بالموازنة بينه وبين عقاب المعصية لا بمصيرها كالمعدومة إذ الموازنة بين الثواب والعقاب فقط كما هو قول أبي هاشم، لا بين الطاعة والمعصية كما هو قول أبي علي فالطاعة غير ساقطة بل إنما منع من استحقاق ثوابها مانع وقد زال بخلاف سقوط المعصية بالتوبة في هذه المسألة فليس بالموازنة على الصحيح الحال والمآل، وهكذا القول فيمن فعل معصية (ولم يتب) ثم فعل طاعة كفرَّت عقاب بل التوبة صيَّرت تلك المعصية كالمعدومة لأنها تحتَّها حتَّاً فبطلت المعصية في تلك المعصية ثم ندم على تلك الطاعة على وجه يوجب سقوطها فعلى قول إبن الملاحمي والإمام المهدي عليه السلام يتجدد له إستحقاق العقاب على تلك المعصية في المستقبل لأن سقوطها إنما كان بموازنة تلك الطاعة فلم تصر بذلك كالمعدومة وقد بطلت تلك الطاعة فيعود إستحقاق العقاب وتصير كأنه فعلها وقت الندم على الطاعة. نعم أما من فعل طاعة ثم ندم عليها ندماً يوجب سقوطها ثم تاب بعد ذلك فإنه لا يعود شيء من ثواب طاعته تلك الماضية على قول الإمام عليه السلام وغيره، لأنها بالندم عليها صارت كالمعدومة فتبطل في الحال والمآل.
ثم اعلم أنه لا يجوز خلف الوعد على الله تعالى للمثابين لأن ذلك أخو الكذب وهو يتعالى عنه لأنه لا يفعل القبيح خلافاً للمجبرة، ويحسن منه العفو عن المعاصي إن علم إرتداعه كالتائب اتفاقاً، ولا يحسن إن علم عدم ارتداعه وفاقاً للبلخي وابن المعتمر وخلافاً للبصرية.
قلنا: يصير كالإغراء وهو قبيح عقلاً، وكذا لا يجوز خلف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين وكل هذا سنحققه ونقيم عليه البرهان في ثلاث مسائل هي أول مسائل الوعد والوعيد (وثانيها وثالثها) ، فالأولى نبَّه عليها بقوله.
المسألة الحادية والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من وعده الله بالجنة من المؤمنين فإنه إذا مات تائباً غير مصر على شيء من الكبائر فإنه صائر إلى الجنة ومخلد فيها دائماً. وهذه المسئلة معلومة ضرورة من الدين ولا خلاف فيها إلاَّ رواية عن جهم والبطيحي فإنهما نفيا معنى الدوام وهذا بالنظر إلى السمع، وأما الجواز فيجوز عند المجبرة أن يخلف وعده بالثواب للمؤمنين إذ لا يقبح منه قبيح وقد ذكرنا إبطال هذه القاعدة فيما مضى، ثم أخذ المصنف في بيان دليل كون ذلك معلوماً من الدين ضرورة فقال والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، لأن من المعلوم ضرورة أنه كان يدعو الخلق إلى طاعته ومتابعته ويعدهم على ذلك الجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين والقرآن الكريم ناطق بذلك، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلاَّ بالحق ولا يخبر إلاَّ بالصدق، لما تقدم من شهادة المعجز بصدقه، ودليل ثانٍ وهو الإجماع لأن الأمة أجمعت على دخول المؤمنين الجنة، والخلود وهو الدوام الذي لا انقطاع له فيها ونقل الإجماع على ذلك ظاهر مشهور فثبت بذلك أن المؤمنين يدخلون الجنة خالداً فيها أبداً.
المسألة الثانية والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من توعده الله بالنار من الكفار فإنه إذا مات مصراً على كفره غير تائب منه فإنه يصير إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً. وهذا هو الذي عليه أهل العدل بل جمهور أهل الإسلام. والخلاف في ذلك مع مقاتل بن سليمان وقوم من أهل خراسان، فإنهم قطعوا أن الكفار لا يدخلون النار ولكنهم لا يظهرون هذا المذهب لكل أحد بل يظهر ذلك منهم في حق الفاسق فقط، وقد روي مثل ذلك عن الكراميَّة، وأما دوام عقابهم فالخلاف مع جهم والبطيحي والكراميَّة، فإنهم منعوا من دوام العقاب، فأما جهم فذكر أنهم لا يخرجون من النار لكن ينقطع عذابهم ويصيرون في النار كالزبانية وديدان الخل. وأما الكرامية فذكروا أن الكفار يخرجون من النار ويقرب أن البطيحي يقول كذلك.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح من جهة العقل ومن جهة السمع، أما العقل فهو أنا نعلم تلازم الذم والعقاب لاتحاد مقتضيهما ولأن الذم فيه إضرار واستخفاف وهو لا يحسن إلاَّ للمستحق، وإذا ثبت تلازمهما فمن المعلوم من أحوال الكفار حسن ذمهم دائماً وهذا لا خلاف فيه، فيجب أن يكون العقاب مستحقاً كذلك، وهكذا الكلام في الفساق ولكن ليست هذه المسألة مسألتهم،فأما السمع وهو ما نعلمه ضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدين بذلك ويخبر به، فإن من المعلوم الذي لا شك فيه أنه كان يتوعد من كان خالفه وجحده ما جاء به بالنار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين،وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدين إلاَّ بالحق ولا يخبر إلاَّ بالصدق لشهادة المعجز بصدقه كما مرَّ،
وقد ورد به القرآن الكريم قال تعالى{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}(البقرة:24) وقال تعالى بعد ذكر الفجار{وما هم عنها بغائبين}(الإنفطار:16) والفجار يشمل الكفار والفساق بالإجماع وهذا صريح في الدوام والتأبيد، إذ لو انقطع لكانوا قد غابوا عنها وغير ذلك من الآيات اللاتي سيأتي ذكرها في مسألة الإرجاء إنشاء الله تعالى، وكذلك السنة دالة على ذلك فإنها قد وردت به الأخبار كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من تحسا سماً فسمه في يده يتحساه في النار خالداً فيها مخلداً)وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من تردى من جبل فهو يتردى من جبل في النار خالداً فيها مخلداً) وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(من وجى نفسه بحديدة فحديدته في يده يجابها بطنه في النار خالداً مخلداً ومن علق سوطاً بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط حية طولها سبعون ذراعاً تسلط عليه في نار جهنم خالداً فيها وله عذاب أليم) وهذا على سبيل الاستظهار وإن كانت هذه الأحاديث لا تصلح حجة في هذا المقام. وهو إجماع المسلمين في الصدر الأول وفي من كان قبل هؤلاء المخالفين حتى أحدثوا هذا القول، فالإجماع حجة واجبة الاتباع لقوله تعالى{ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى}(النساء:115) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تجتمع أمتي على ضلالة) والعترة مجمعة على ذلك أيضاً وإجماعهم حجة واجبة الإتباع على ما ذلك كله مقرر في مواضعه من أصول الفقه. فثبت بذلك الذي ذكرنا من الأدلة القطعية خلود الكفار في النار وبطل قول المخالفين.
المسألة الثالثة والعشرون
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن من توعده الله من الفساق بالنار كمرتكبي الفواحش التي هي غير مخرجة من الملة من الزنا وشرب الخمر وتاركي الصلاة والزكاة ونحو ذلك، فإنه إذا مات مصراً على فسقه غير تائب منه فإنه صائر إلى النار ومخلد فيها خلوداً دائماً،هذه هي مسألة الإرجاء الكثيرة الأنظار العظيمة الأخطار وسنهديك فيها إنشاء الله إلى منهاج الصواب ونوقفك من براهين الحق الواضحة على ما ينفي عنك كل شك وارتياب وذلك بإعانة الله سبحانه وتوفيقه وهدايته فهو قادر على ما يشاء كريم وهاب.
فنقول: ما ذكره الشيخ مؤلف الكتاب من القول بتخليد الفساق المصرين في أنواع العقاب، فهو الذي عليه جمهور أهل العدل من (المعتزلة والزيدية) .والخلاف في ذلك مع المرجئة على طبقاتها فعندهم أن الفساق من أهل القبلة لا يقطع بخلودهم في النار وهم مجمعون على ذلك، ثم افترقوا، فمنهم من قطع على أن الفساق لا يدخلون النار وهم الكرامية ومقاتل بن سليمان والخراسانية بل قالوا ذلك في المشرك كما مرَّ.
القول الثاني: لبشر المريسي من الفقهاء فإنه قطع بدخولهم النار وخروجهم منها.
القول الثالث: لمحمد بن شبيب من المعتزلة أن الفاسق يستحق عقوبة دائمة إلاَّ أنه (في الآخرة) يجوز أن يعفو الله عنه وإذا عفى عن البعض عفى عن الكل وإلاَّ أدى إلى المحاباة وهي لا تجوز عليه تعالى.
القول الرابع: للخالدي فإنه ذهب إلى أن الفاسق الذي صدرت منه طاعة تنقطع عقوبته لأنها ترد عقوبته من الدوام إلى الانقطاع. ومنهم من قال إن آي الوعد والوعيد متعارضة فنقف (وهذا يروى) عن جماعة منهم أبي حنيفة، ومنهم من تردد في دخولهم النار وقطع على خروجهم إن دخلوا، ومنهم من قطع بدخولهم وتردد في خروجهم، والذي عليه المرجئة الخلص تجويز الدخول وعدمه وتجويز الخروج بعد الدخول وعدمه وهذا هو مذهب أبي قاسم البستي وكان من أصحاب المؤيد بالله وهذا هو الإرجاء الحقيقي لأن الإرجاء هو التردد في الأمور وهؤلاء مترددون ومذهبهم أعني المرجئة حادث بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام بخلاف الخوارج فمذهبهم حادث في أيامه.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو قول جمهور العدلية قوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً}(الجن:23) فتوعد الله كل عاص على سبيل العموم بالخلود في النار، والخلود هو الدوام بدليل قوله تعالى{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}(الأنبياء:34) فنفى تعالى في هذه الآية أن يكون لأحد من البشر خلود في هذه الدنيا ومعلوم أنه لم ينف بذلك البقاء المنقطع لأن كل واحد منهم قد بقي بقاءً منقطعاً ولا يرد ما يقال خلد السلطان فلاناً في السجن والمراد البقاء المنقطع لأنا نقول حقيقة الخلود هو الدوام فإن استعمل في غيره فعلى سبيل المجاز فيكون ذلك مجازاً. وقوله تعالى{إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين}(الإنفطار:13،14،15،16) فحكم بعدم غيبوبة الفجار عن النار، والفجار يطلق على الكفار والفساق. وهاتان الآيتان عامتان كما ذكرنا، وإذا ثبت ذلك علمنا أنهما تدلان على دخول كل عاص النار وعلى دخول كل فاسق وفاجر النار وخلودهم فيها ومثلهما قوله تعالى{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة:81) والفاسق قد أحاطت به خطيئته إذ معنى أحاطت الخطيئة زيادة عقابها على ثوابه إذ لا معنى لها هنا إلاّ ذلك (فوجب خلوده) في النار والخلود الدوام، وقوله تعالى{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه}(النساء:93) إلى غير ذلك من الآيات العامة بالوعيد للكافر والفاسق ولا يعلم مخصصاً صحيحاً ، وإذا كانت عامة ولا مخصص لها وجب حملها على ظاهرها، وإذا وجب حملها على ظاهرها فهي قاضية بالوعيد بتخليد العصاة في النار،
فلو جوزنا إخلافه كشف عن الكذب وهو قبيح ضرورة والله لا يفعل القبيح.
واعلم أن هذه الدلالة لا تقرر إلاّ بمقدمات أربع.
الأولى: أن في اللغة ألفاظاً موضوعة للعموم وذلك ثابت لاشك فيه بدليل أن أسماء الشرط وهي مَنْ ونحوها، والجمع المعرّف باللام ونحوها، ألفاظ عامة لسبق العموم إلى الأذهان عند إطلاقها وصحة الاستثناء منها، ألا ترى (إلى من) قال: من دخل داري أكرمته، يعم كل عاقل بدليل صحة استثناء زيد وعمرو فالمنكر كونها للعموم لا يلتفت إليه.
الثانية: أن كون تلك الألفاظ موضوعة للعموم معلوم مقطوع به فإنّا لمّا استقرأنا اللغة العربية وتتبعناها وبحثنا في مفهومات تلك الألفاظ واختبرناها وجدناها مفيدة للعموم وعلمنا ذلك علماً قطعياً لا تعتريه الشكوك، لا يقال معاني الألفاظ إنما تعرف بالنقل، فإن كان تواتراً فكيف خالف فيه كثير من الناس وهو ضروري، وإن كان آحادياً فلا يفيد القطع، لأنّا نقول نفس الألفاظ منقولة إلينا بالتواتر، وأما معانيها فإنما علمت بالبحث والاختبار فكان العمل بها نظرياً بواسطة النقل التواتري لنفس الألفاظ فاحتملت الخلاف.
الثالثة: أن دلالة تلك العمومات على مدلولاتها قطعية إذ يقطع بمدلولاتها بعد البحث عن المخصص فلم يوجد وينتفي التجويز لاستثناءٍ ونحوه. وقال أبو شمر يجوز أن يكون في عمومات الوعيد استثناء أو شرط مخصص له بالكافر تقديره إلاّ أن أعفو أو إن لم أعفُ، أو إن لم يكن مقراً بلسانه أو نحو ذلك. والدليل على بطلان ما ادعاه أنه إذا ثبت أن العموم هو مدلول تلك الألفاظ وأن الله تعالى لا يجوز أن يخاطب بخطاب ويريد به غير ظاهره وإلاَّ كان معمياً وملبسّاً، ثبت أن دلالتها على المعاني قطعيّة غير مشكوك فيها البتّة لاسيما العمومات التي لا يتعلق بها عمل، بل إنما يُطلب بها الاعتقاد فقط كما ذهب إليه المحققون من أهل أصول الفقه.
الرابعة: أن العموم بعد تخصيصه باقٍ على حجته القطعية فيما بقي بعد التخصيص وخالف في ذلك الأصم وغيره من المجبرة وبعض المعتزلة، وقالوا العموم إذا خصص بطلت حجته وصار مُجملاً يفتقر إلى البيان ودليلنا عليهم أنه إذا ثبت أن دلالة العموم على مدلوله قطعيّة ثم خصصنا منه بعض مفرداته بدليل مخصص فإنه يجب أن تكون دلالته على الباقي بعد التخصيص قطعيّة كما كانت لم يطر عليها ما يغيرها وإنما كان التغيير في المخرج لا في الباقي، وإذا تقررت هذه الأربع المقدمات بالدلالة القطعية ثبت ذلك الدليل ووجب القطع بما دل عليه.