قال الهادي عليه السلام: ولم يتواتر غيرها، وقول من قال أنها كلها آحادية باطل لأن الله تعالى يقول{لاريب فيه}(البقرة:02) وخبر الواحد لايفيد القطع إذ من الجائز في الواحد أن يسمعه خبراً فيتوهمه قرآناً فلابد من التواتر إذ لايجوز الكذب فيما نقل تواتراً عادة. وإذا ثبت أن القرآت متواترة وقد ورد فيها استعمال نبيء بالهمز بطل قول أبي علي. وفي الاصطلاح: هي وحي الله إلى أزكى البشر عقلاً وطهارة من ارتكاب القبيح وأعلاهم منصباً بشريعة. والرسالة لغة: القول المبلغ، وشرعاً كالنبوة إلا أنه يقال موضع بشريعة لتبليغ شريعة لم يسبقه بتبليغ جميعها أحد، وهذا مبني على أن النبي أعم من الرسول وهذا مذهب (الهادي والقاسم) والزمخشري وقاضي القضاة فالرسول من أتى بشريعة جديدة من غير واسطة رسول، وذهب الإمام المهدي عليه السلام والبلخي: إلى أنهما مترادفان.
حجتنا قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي}(الحج:52) فعطف العام على الخاص وذلك يقتضي المغايرة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن عدد الأنبياء فقال(هم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً) وسئل عن عدد الرسل فقال(هم ثلاثمائة وثلاثة عشر)، وقولنا في الحد إلى أزكى البشر إلى آخره، إشارة إلى الصفة التي تجب أن يكون الأنبياء (عليهم السلام) عليها فيكون الناس أقرب إلى قبول كلامهم، وهذه الصفة على ضربين، ضرب من جهة الله، وضرب من جهة النبي ، فالذي من جهة الله أربعة أشياء :
الأول: حسن الخلقة فلا تكون صورته من الصور المستنكرة الشنيعة.
الثاني: أن يكون سليم الأعضاء عن النقصان.
الثالث: أن يكون سليماً عن العاهات كالجذام والبرص.
الرابع: أن يكون أوفر العقل، وقد جرت العادة من الله تعالى بخلقه النبيين على أتم ما يكون من أهل زمانهم وبالخصال المحمودة من أفعالهم، وأما التي ترجع إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فأمور ثلاثة:
الأول: أن يكون مجتنباً للكبائر قبل البعثة وبعدها.
الثاني: أن يكون مجتنباً للمعاصي مطلقاً المتعلقة بإبلاغ الرسالة.
الثالث: أن يكون مجتنباً للمباحات المنفرة كالمداعبة المنفرة والأكل في الأسواق ومجامع الناس منفرداً بذلك دون غيره، وكذلك سائر الخلال التي ينسب فاعلها أو تاركها إلى
خلاف مكارم الأخلاق بل ينسب إلى الخلق الذميم. وأما الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بشرطين : أحدهما أن لا تكون منفرة. الثاني أن لا تكون متعلقة بإبلاغ الرسالة وتأدية الشرائع فأما ما كان كذلك فإنه لا يجوز عليهم عمداً ولا خطأً، واشترط أبو علي شرطاً ثالثاً وهو أن يكون فعلها بتأويل وهو يأتي على مذهب قدماء أئمتنا عليهم السلام، وإمام زماننا أيده الله تعالى أن وقوعها منهم إما على جهة التأويل أو السهو لا على جهة التعمد كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى به قال أكثر العقلاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام حسنة غير قبيحة ولا ممتنعة لما قررنا أنها من العدل والحكمة. وقالت البراهمة: إنها قبيحة لا تحسن إذ العقل كاف في إدراك القبيح والحسن، فنحن نعمل به ولا نقبل ما خالفه فإنا نعلم بعقولنا ضرورة قبل الأنبياء قبح ذبح البهائم، كما نعلم قبح كل ظلم وبعد ذلك من علوم العقل، فلو قبلنا من الأنبياء الحكم بحسنه لكنا قد أبطلنا حكم العقل الذي لا يصح رفعه ولا يجوز نسخه ولكنا نجوِّز أن يأتي بعض الأنبياء بحسن الظلم والكذب وجميع القبائح العقلية فيبطل العقل أصلاً وهو محال.
الجواب: أنا لم نجعل الشرع مثبتاً لما قد أدركه العقل فإن في العقل غنية عنه، بل لأنا لا نهتدي إلى أمر المنعم ونهيه بما شاء أن يستأدي منا شكره إلاَّ بالأنبياء، وأما ما ذكروه
في نحو ذبح البهائم فإن العقل لم يحكم بقبحه إلا لاندراجه تحت ماهية الظلم الذي هو ماهية القبح، وإنما كان ظلماً لتعريه عن النفع والاستحقاق فلما أباحه الشرع علمنا أنه قد ضمن لها عوضاً يقابله فارتفع عنه حقيقة الظلم فزال القبح لزوال علته وهذا غير مصادم للعقل وإنما يكون مصادماً له لو رفع قبح الظلم أصلاً الذي قضى به العقل وليس كذلك فهذا كلام في النبوءة جملة . وأما نبوة نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أن من أنكر الصانع أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما المُقِّرّون بالصانع فاختلفوا، فالذي عليه أهل الإسلام قاطبة وكثير من الفرق الخارجة عن الإسلام (أن النبي) صلى الله عليه وآله وسلم نبي صادق وأنه يجب علينا تصديقه واتباع ما جاء به من قول أو فعل أو تقرير. والخلاف في ذلك مع اليهود والنصارى والباطنية والمطرفيّة، واشتهر إنكار عبدة الأوثان وغيرهم من كفار الجاهلية نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، أما النصارى فإنهم يقولون: أنه لم يظهر عليه معجزة فلم يكن نبياً. وأما اليهود فهم أكثر من خالفنا في هذه المسألة ولهم أقوال، منهم من قال: أنه لم يكن نبياً لأنه أتى بنسخ شريعة موسى ونسخ الشرائع لم يقض به العقل ولا السمع. ومنهم من قال: لم يكن نبياً لأنه أتى بنسخ شريعة موسى وقد قضى السمع بعدم جواز ذلك لما يروونه من قول موسى عليه السلام شريعتي لا تنسخ أبداً وإن أجاز ذلك العقل. ومنهم من قال: لم يكن نبياً لعدم ظهور المعجزة عليه، ومنهم من قال: أنه مرسل إلى العرب دون العجم وهؤلاء يسمون العيسوية وهم من أماثلهم، ولليهود شريعة مخالفة لشريعة الإسلام، منها أنهم لا يزوجون إلاَّ بحضرة (ثلاثة شهود) ولا يزوجون إلا على مائتي قفلة
للبكر والثيب لها النصف من ذلك، ولهم طهور مخصوص وهو أن الواحد منهم إذا أراد الطهور غسل بدنه ثلاثاً واستنشق ثلاثاً واستنثر واحدة وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه واحدة واحدة وتمضمض ثلاثاً وغسل رجله اليسرى ثلاثاً ورجله اليمنى ثلاثاً وغسل يديه ثلاثاً، ولهم صيام من غروب الشمس إلى غروبها، ولهم تكليف في يوم السبت إذا عصى الواحد منهم فيه لم يكن له حد إلا القتل. وأما المطرفية: فإنهم وإن تظاهروا بالإقرار بنبوته فهم منكرون كونه مبعوثاً بعثه الله على الحد الذي نقوله لأن منهم من يقول إن النبوة يفعلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه فمن شاء كان نبياً، ومنهم من قال هي جزاء على العمل، ومنهم من قال هي حكمة وتسمية. وأما الباطنية: فعندهم أن النبوءة مادة ترد من السابق على قلب من وقعت للتالي به عناية وأن المعجزات ظهرت على يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اختص به من العلم بطبائع الأشياء وخواصها وأنها من قبيل الحِيَل.
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بصحة نبؤة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المعجز على كثرة اختلاف أجناسه ظهر على يديه عقيب دعوى النبوءة.
قال في الأساس: حقيقة المعجز ما لا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداءً سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام أم لا كحنين الجذع. وقال في الخلاصة: حقيقته هو الفعل الناقض للعادة المتعلق بدعوى المدّعي للنبؤة ومجموع الحدين قد أفاد شروطه الأربعة:
الأول أن يكون من فعل الله كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وأما فتق الحبل ونحوه فالمعجز في الحقيقة هو إقداره على ذلك وهو من فعل الله .
الثاني أن يتعذر مثله عنَّا عادة ولو دخل جنسه في مقدورنا كالقرآن لحصول المقصود وهو العجز عن الإتيان بمثله.
الثالث أنه لابد أن يقع عقيب الدعوى للنبؤة لانتفاء تجويز وقوعه على سبيل الاتفاق حينئذ، والمراد بعقيب الدعوى الوقت الذي يطلب منه ظهوره فيه ويعد به لأن في عدم
ظهوره حينئذ دلالة على كذبه وتكذيب الصادق لا يجوز من الحكيم .
الرابع أن يكون ظهوره والتكليف باقٍ وإلاَّ لجوزناه خارقاً للعادة من جملة الخوارق الحادثة كطلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة ونحو ذلك، وفي الحقيقة لا حاجة إلى هذا الشرط لأن الكلام هو في المعجز الدال على صدق المدّعي للنبؤة المستلزمة لبقاء التكليف بل لابد فيه من تكليف جديد فهذا أصل أول وهو أنه ظهر المعجز على يده عقيب دعوى النبوءة، وأما الأصل الثاني فقد نبَّه عليه بقوله وكل من ظهر (على يديه المعجز) عقيب دعوى النبوءة فهو نبي صادق، والذي يدل على هذا الأصل أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول لمن ظهر عليه وتصديق الكاذب كذب والكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، فإذا بطل أن يكون من ظهر عليه المعجز كاذباً ثبت أنه صادق إذ لا واسطة بينهما. وبيان ذلك بالقسمة المفيدة للقطع الدائرة بين النفي والإثبات وهي أن يقال المخبر عن الشيء لا يخلو إما أن يكون ما أخبر به على ما هو به أو لا يكون فإن كان فهو الصدق والمخبر صادق، وإن لم يكن فهو الكذب والمخبر كاذب، وقد بطل أن يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاذباً فوجب أن يكون صادقاً وعلى هذا فلا يصح نبي إلاَّ بمعجز، خلافاً للحشوية فقالوا: يصح بغيره.
قلنا: المعجز شاهد بصدقه وإذا عدم الشاهد لم يحصل التمييز بين الصادق الأمين ونحو مسيلمة اللعين والله عدل حكيم (لا يلبس) خطابه بالكذب والافتراء فبطل ما قالوا.
قال جمهور أئمتنا عليهم السلام والبهشميّة ولا يجوز ظهوره لغير نبي إذ فيه (حط مرتبة) الأنبياء (عليهم السلام) حيث يحصل الاستواء بينهم وبين غيرهم بظهوره على يدي كل. وقالت الإماميّة: بل يجب للأئمة بناءً منهم على أنهم كالأنبياء، وقال عبَّاد بن سليمان: يجوز ظهوره على حجج الله تعالى في كل زمان على أهله ليكون حجة على وجوب اتباعهم. وقالت الملاحمية والحشوية: بل يجوز ظهوره للصالحين وبه قال أبو رشيد وأبو الحسين البصري وهو اختيار المؤيد بالله عليه السلام والمنصور بالله ورجحه الدواري، وهو قريب من قول عبّاد. وقالت الأشعرية: يجوز ظهوره للصالحين وللكفرة أيضاً من ادعى الربوبيّة كفرعون والنمرود ومن لم يدعها كعبدة الأوثان لقيام البراهين العقلية على كذبه، لا لمن يدعي النبوءة كاذباً لأن في ذلك هدماً للشرائع وهو نقص لا يجوز على الحكيم، وكل أقوال هؤلاء باطلة سواء القول بأنه لا يجوز ظهوره على غير نبي لما ذكرنا من لزوم التسوية بين الأنبياء وبين سائر الناس، وفي ذلك هدم للشرائع المعلوم وجوبها من الدين ضرورة، إذ الكفار يقولون للنبي لا نصدقك لأنه قد أتى بهذا من ادعى الربوبية وهو كاذب ومن ادعى الإمامة وهو كاذب أو الصلاح أو كونه محقاً في حجته فلعل المعجزة كانت لبعضها لكنك تجرأت الكذب طمعاً في نيل الدرجة العليا وهي النبوءة والله تعالى حكيم لا يفعل ذلك، وأيضاً لا يكون معجزاً إلاَّ إذا كان معرفاً بالنبوءة ولم يقع تعريف أو بعد الدعوى والدعوى لا تكون إلاَّ بعد الوحي أن سيفعل ذلك وليس الوحي إلاَّ للأنبياء إجماعاً.
قال أئمتنا (عليهم السلام) : فأما الكرامات التي تحصل للصالحين نحو إنزال الغيث وإشفاء المريض وتعجيل عقوبة بعض الظالمين الحاصلة بسبب دعائهم فليست بمعجزات لعدم حصول شرط المعجز وإنما هي إجابة من الله تعالى لدعائهم لأن الله تعالى قد تكفل لهم بالإجابة.
قلت:وهم يعنون بالكرامات ما ليس من الخوارق الناقضة للعادة كفلق البحر وقلب العصا حيَّة إذ في ظهورها عليهم حط لمرتبة الأنبياء وقد صرَّح بذلك المهدي عليه السلام.والذي يدل على الأصل الأول وهو أن المعجز ظهر على يده عقيب دعوى النبوءة أنه جاء بالقرآن.ذلك معلوم ضرورة عند من عرف الأخبار وروى السير والآثار وجعله معجزاً له وذلك معلوم ضرورة كما مرَّ ولم يسمع من غيره قبله وإنما جعل القرآن عمدة من بين سائر المعجزات لكونه منقولاً بالتواتر بلى خلاف وغيره وإن كان قد تواتر كحنين الجِذْع عند أئمتنا عليهم السلام والبغداذية إلاَّ أن شهرة تواتر القرآن أكثر، ولهذا خالف أبو علي وأبو هاشم في تواتر غيره ولما تضمن من العلوم الغيبية ولأنه في كل وقت يفصح بالتحدي والدلالة على العجز عن معارضته والإقرار بأنه معجز، ووجه إعجازه عند أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور بلاغته الخارقة للعادة لأنه تحدى به فصحاء العرب فلم يأتوا بشيء من ذلك،ومعنى التحدي هو طلب الفعل ممن عرف الطالب عجزه عنه (إظهار لعجزه) عنه وإنما لم يأتوا به لعجزهم عنه فوجب أن يكون القرآن معجزة ظاهرة على يديه عقيب دعوى النبوءة صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك ظاهره أن الإشارة راجعة إلى الأصول الثلاثة وهي:أنه جاء بالقرآن، وأنه جعله معجزة له، وأنه تحدى به العرب، فتكون كلها محتاجة إلى الفحص والتفتيش، وصاحب الخلاصة
جعل الأولين مما لا يحتاج إلى فحص وتفتيش بخلاف الثالث مع الاشتراك في أنها معلومة بالضرورة.قال الدواري:بل هي محتاجة إلى ذلك إلاَّ أنه في الآخِر أكثر. والحاصل أن لنا في بيان ذلك طريقين.أحدهما:أنه معلوم ضرورة لمن كان له أدنى فحص وتفتيش، فمن عرف أحواله عليه السلام وسمع سِيَرَه وأخباره، علم أنه كان يغشى به مجامع العرب ومشاهدهم، ويتلوه عليهم ويحدثهم به والأمر في ذلك ظاهر،والطريق الثاني أن القرآن مشحون بآيات التحدّي وقد رتب الله التحدي في ثلاث مراتب. الأولى أنه تحدّاهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن قال تعالى{أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}(الطور:33،34) ثم أخبر أنهم لا يأتون بمثله قال تعالى{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}(الإسراء:88) فلما لم يأتوا بشيء من ذلك أنزلهم مرتبة ثانية فتحدّاهم أن يأتوا بعشر سور مثله فقال تعالى{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}(هود:13) فلمّا لم يأتوا بشيء من ذلك أنزلهم الله مرتبة ثالثة فتحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله قال تعالى{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}(البقرة:23) فلمّا لم يأتوا بشيء من ذلك توعدهم وتهددهم فقال{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}(البقرة:24) (وهذا) غاية التحدي الباعث على المعارضة ولاشك أنهم كانوا يستمعون هذه الآيات كما كانوا يستمعون سائر القرآن، فهذه ثلاثة أصول مقطوع بها. وأما الأصل الرابع وهو أنهم بعد التحدي لم يأتوا بشيء
من ذلك فقد بينه بقوله{فلم يأتوا بحديث مثله}(الطور:34) علم ذلك ضرورة وإلاَّ لَنُقِل لِعِلْمِنَا ضرورة أن العرف يقتضي ذلك في كل متعارضين ألا ترى إلى نقائض جرير والفرزدق كيف استوى نقلهما في الاستفاضة والظهور، وكان الموجب لذلك أن ما يدعوا إلى نقل أحدهما من تعجب وتعصب هو بعينه يدعوا إلى نقل الآخر وهذه القضية في القرآن ألزم لعظم خطره في نفسه من حيث اقتضى إثبات نبؤة ونسخ شريعة، فكانت معارضته تقوى بحسب قوته وكانت دواعي المتمسِّكين به متوفرة إلى نقل المعارضة لو كانت ليثبتوا به أن المعارضة غير قادحة فيه وأن المكذبين له لم يعدم منهم الإتيان بمثله إلاَّ لعجزهم عنه لأن حالهم كحال المتمسِّكين به في أن دواعيهم كانت متوفرّة قويَّة إلى معارضته ليبطلوا به نبؤته صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأنه ادعى عليهم المرتبة العظمى، وهو أنه أولى بهم من أنفسهم وله التصرف في أرواحهم وأموالهم بسبب ما جاء به من القرآن الذي جعل عجزهم عن معارضته دليلاً على صدقه فلم يعارضوه بل عَدَلوا إلى القتال حتى ذهب كثير منهم قتلاً وأسراً، فلو قدروا على المعارضة لم يعدلوا عنها لسهولتها وعلمهم أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبطل بها، فلما عدلوا إلى المحاربة الشاقة الصعبة وتحملوا خطوبها وأخطارها وتلك المحاربة من الأمور التي لا تدل على صحة صحيح و لا بطلان باطل دل ذلك على عجزهم عن معارضة القرآن لعلمنا أن العاقل (لا يقدم على) الأمر الشاق الذي فيه هلاك نفسه وذهاب أمواله وأولاده مع القدرة على تحصيل غرضه بالأمر الذي لا مشقة فيه ولا خطر معه، فثبت بتقرير هذه الأصول أنه أي القرآن معجز دال على نبؤة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه.
وأما احتجاج اليهود بقول موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت أبداً، وشريعتي لا تنسخ أبداً فذلك مما لا يلتفت إليه ولا يعول عليه لأن الأدلة القطعية قد انتهضت على صحة نبؤة نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه فيما جاء به ومن جملة ما جاء به إبطال التمسك بالسبت
والخبر المروي عن موسى عليه السلام، نقطع بكذبه لأنه آحادي لا يقاوم القطعي بل يبطل، سلمنا فمعناه ما لم يأتكم نبي مصدَّق بالمعجز وذِكْر التأبيد مجاز يجب حمله على غير الدوام للدلالة الموجبة لذلك ولهذا قال (الله) تعالى{ولن يتمنوه أبداً}(البقرة:95) ثم أخبر أنهم يتمنونه.