الذي يدل على ذلك المذهب الصحيح وهو القول بأنه محدث مخلوق أنه حروف وأصوات وهي غير باقية فضلاً على أن تكون قديمة وأنه متعدد مرتب، أما التعدد فلأنه حروف وكلمات ذات كثرة وتعدد، وأما الترتيب فلتقدم بعض حروفه على بعض وتأخر بعضها عن بعض وإذا قطعنا بأنه متعدد ومرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض وجب القطع بأنه محدث لأن المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدَثاً وذلك ظاهر، فإن وجوب ترتيبه من ضروريات إفادته ألا ترى أن قوله تعالى{ الحمد لله}(يونس:10) حروف وقد تقدم بعضها على بعض فلو لا أن اللام متقدمة على الحاء والحاء متقدمة على الميم والميم متقدمة على الدال لم تكن كلمة مفيدة لهذا المعنى بل كان يجب لو وجدت معاً أن لا تكون حمداً أولى من أن تكون دمحاً فبان أنه مرتب في الوجود وأن بعضه متقدم على بعض والذي يدل أن ماذاك حاله يجب أن يكون محدثاً أن المسبوق من حروفه يجب أن يكون محدثاً لأنه قد تقدم غيره وهو السابق له في الوجود وما تقدمه غيره فهو محدث وكذلك السابق على المحدث بوقت واحد أو أوقات محصورة محدث أيضاً لأنه قد صار لوجوده أول يشار إليه، وقد جاء السمع بتأييد ما ذهبنا إليه قال تعالى{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلاَّ استمعوه وهم يلعبون}(الأنبياء:02) وقال تعالى{وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث … الآية}(الشعراء:05) وجه الاستدلال: بالآية الأولى أن الكفار كانوا يلعبون ويلغون عند استماع القرآن ونزوله فنزلت هذه الآية ذماً لهم وإخباراً عن حالهم وأن قلوبهم لاهية عن ذلك فكان ذلك معهوداً يصرف الخطاب إليه ويثبت بهذه الآية حدوث الذكر لأن القرآن يسمى ذكراً لقول الله تعالى{وإنه لذكر لك ولقومك}(الزخرف:44) وقوله تعالى{إنَّا

نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر:09) وهكذا وجه الدلالة في الآية الثانية.وغير ذلك من الأدلة السمعية كقوله تعالى{الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً}(الزمر:23) وهذه الآية تدل على حدوث القرآن من وجوه:
أحدها:أنه وصفه الله بأنه منزل والقديم لا يجوز عليه النزول.
وثانيها: بأنه وصفه الله بأنه حسن والحسن من صفات المحدث .
وثالثها: بأنه وصفه بأنه حديث والحديث يناقض القديم.
ورابعها: بأنه وصفه بأنه كتاب والكتاب هو المجتمع ولذلك سميَّت الكتيبة كتيبة لاجتماعها والاجتماع من صفات المحدثات.
وخامسها:أنه وصفه بأنه متشابه والمراد بذلك أن بعضه يشبه البعض في جزالة الفاظه وجودة معانيه والقديم لا يشبهه غيره. فثبت أن قول الحشوية بأن هذا القرآن الذي نتلوه في المحاريب قديم في غاية السقوط ونهاية البطلان، وأما القائل بالكلام النفساني بأنه هو القديم وهذا محدث فقد تقدم الجواب عليه في المسألة الأولى ولا كلام عليه في هذه المسألة إذ هو موافق في أن هذا القرآن محدث، وأما ما يقوله محمد بن شجاع ومن وافقه من أن القرآن ليس بمخلوق فذلك باطل لأن المخلوق في أصل اللغة هو المحدث مقدراً، يقولون خلقت الأديم هل يحيي منه مطهرة أي قدرته.قال الشاعر:-
ولا أنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وقال تعالى{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}(المائدة:110) أي مقدر، وإنما لم يوصف أحدنا الآن بأنه الخالق إذا أوجد منه فعل مقدر لأن الشرع منع من ذلك ولا يسمى خالقاً إلاَّ الله تعالى.وإذا ثبت ذلك:فالقرآن محدث مقدر ومعنى التقدير فيه وجوده بحسب المصلحة وعلى قدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان وقد قال تعالى{إنَّا جعلناه قرآناً عربياً}(الزخرف:03) معناه خلقناه بدليل قوله تعالى{وجعل الظلمات والنور}(الأنعام:01) أي خلقهما. وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(كان الله ولا شيء ثم خلق الذِّكر)وقد بينا أن القرآن يسمى ذكراً فصح وصفه بأنه مخلوق. وأما ما تقوله المطرفية من أنه ليس بمحدث ولا قديم فهو تجاهل وخروج عن قضايا العقول لأن كل عاقل يعلم أن الموجود لايخلو من قدم أو حدوث وقد ثبت أن القرآن موجود وبطل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً، فصح بهذه الجملة ماذهبنا إليه وبطل ماقاله المخالفون.

تنبيه:
جميع ماذكرنا من الأحكام الثابتة للقرآن في المسألتين فهو في سائر الكتب المنزلة كذلك، والكتب التي أنزلت على الأنبياء مائة كتاب وأربعة كتب، أُنزل منها على شيث عليه السلام خمسين كتاباً، وأُنزل على إدريس عليه السلام ثلاثين كتاباً، واسم إدريس بلغة الأعاجم أخنوخ وهو أول من خط بالقلم، وأُنزل على إبراهيم عليه السلام عشرة كتب، وأنزل على موسى عليه السلام قبل التوراة عشرة، وأُنزل الزبور على داود عليه السلام، وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام، والقرآن على نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أن صحف إبراهيم عليه السلام أُنزلت أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لست ليال من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة عام، وأُنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام، وأُنزل الإنجيل لثماني عشرة ليلة من رمضان بعد الزبور بألف عام ومائتي عام، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة من رمضان بعد الإنجيل بستمائة وعشرين عاماً، وكل هذه الكتب مخلوقة قبل بعثة من أُنزلت عليه من النبيئين قضى بذلك الأثر النبوي، وللقرآن خاصة نزولان نزول إلى السماء الدنيا وذلك في شهر رمضان أنزل جملة في ليلة القدر كما قال تعالى{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}(البقرة:185) وقد قال تعالى{إنَّا أنزلناه في ليلة القدر}(القدر:01) النزول الثاني نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان نزوله من سماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداؤه في رمضان وأنزل شيئاً فشيئاً

وكان تمام نزوله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة لثلاث وعشرين سنة أو اثنتين وعشرين وكان جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب الحوادث والمصلحة بأمر الله تعالى، قيل وكيفية ذلك أن يعرف معناه فيحفظه أو يسمعه سماعاً فيحفظه وينزله ثم يبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المكلفين هكذا ذكره الدواري، وقال في موضع آخر في الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقى الوحي عن جبريل عليه السلام مشافهة وجبريل يتلقاه كذلك من ملك آخر فوقه قيل هو ميكائيل والملك الآخر يتلقاه كذلك من ملك فوقه وفي بعض الآثار مايدل على أنه إسرافيل وسيأتي.

قلت: وقد ذكر الهادي عليه السلام ما يدل على ذلك لأنه قال وقد سأله الرازي كيف يأخذ جبريل الوحي؟ وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه حتى يفهمه؟ فقال الهادي عليه السلام: اعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما قد روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال آخذه من ملك فوقي ويأخذه الملك من ملك فوقه فقال صلى الله علي وآله وسلم كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه فقال جبريل عليه السلام يُلقى في قلبه إلقاءً ويلهَمَه إلهاماً، قال الهادي عليه السلام وكذلك هو عندنا أنه يلهِمه الملك الأعلى إلهاماً فيكون ذلك الإلهام من الله وحياً كما ألهم الله تبارك وتعالى النحل لما تحتاج وعرفها سبيلها. قلت: وفي رواية صححها الدواري أن الملك الأعلى يأخذه من اللوح المحفوظ والقلم يكتبه بأمر الله له وهذه الرواية معارضة لرواية الهادي عليه السلام، ويقع من كلام أئمتنا عليهم السلام عدم صحة القول بإثبات القلم واللوح وهذه الكيفية تجري في سائر الكتب.وفي الثعلبي: أن الله تعالى أودع جميع ما أنزل من الكتب في هذه الكتب الأربعة المتأخرة ثم أودع ما في التوراة والإنجيل والزبور في القرآن ثم أودع ما في القرآن من العلوم المفصل ثم أودع علوم المفصل الفاتحة، وفي الأثر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه يتمكن من تفسيرها بما يكتب في أوراق تُوقر سبعين بعيراً، وكانت صحف إبراهيم عليه السلام أمثالاً مضروبة وعبراً منها: أيها الملك المسلط إني لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، وفيها: وعلى العاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر في صنع الله وساعة يخلو فيها لحاجته من

المطعم والمشرب ونحو ذلك، وكانت صحف موسى عليه السلام عبراً منها: عجباً لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح وعجباً لمن أيقن بالقدر ثم ينصب وعجباً لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، إلى نحو ذلك فرع: القرآن كله عربي وقال قوم منهم بن الحاجب وابن عباس وعكرمة والباقلاني فيه رومي وهو القسطاس، وفارسي وهو سجِّيل، ومشكاة للطاقة الغير النافذة فإنها هندية وهذا لا يصح عندنا بل هي عربية طابقت لغة الروم والفرس والهند لقوله تعالى{بلسان عربي مبين}(الشعراء:195) وقوله تعالى{قرآناً عربياً}(الزمر:28).
واعلم أن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو على النحو المرسوم في المصحف في السور والآيات بل من السور ما هو متأخر في كتابة المصحف وهو متقدم في النزول وكذلك الآيات وإنما كان تسوير السور وترتيبها وترتيب الآيات بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم بوضع الآيات مواضعها وإن نزل منها شيء بعد شيء وكان يأمر في السور كذلك، رتبه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، كذلك قال الدواري:ما خلى سورة التوبة فمات صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين موضعها وكانت قصتها (تشبهة بقصة) الأنفال فقرنت إليها.
قلت: في عموم كلام لإمامنا أيده الله تعالى ذكره في بعض جواباته ما يشعر بنفي التخصيص وما يقوله المفسرون هكذا ذكر في المصحف والأثر يعنون بذلك مصحف عثمان وما نسخ عليه ولم يخالفه في رسم ولا قراءة وفيه ما يخالف اصطلاح النحاة، والسبب في نسبته إلى عثمان أن الصحابة كثر اختلافهم في المصاحف في ولاية عثمان.

قال إمام زماننا أيده الله تعالى:بل لأن بعض الصحابة كتب التفسير بين كلام القرآن كابن مسعود كالتفاسير في زماننا فجمعت الصحابة المصاحف في ولاية عثمان ووقع اتفاق من علي عليه السلام ومن الصحابة على مصحف أمر عثمان باتباعه وشدد في النهي عن خلافه وهي كلها متفقة في السور لكن كان في بعضها اختلاف في شيء من الإعراب وقراءة القراء ومواضع في فصل الآيات ونحو ذلك، وأمر عثمان بأن يكتب على تلك النسخة ست نسخ وفرقت في النواحي وأمر باتباعها وشدد في ذلك، وأما ماروي أن عثمان هو المؤلف فذلك باطل، لأنه لا دليل صحيح يدل على ذلك ولعل الراوي لذلك من الذين مردوا على النفاق وورد في الأثر أنهم يُجلون عن الحوض ويطردون ولو سلمنا صحة الرواية فهي من رواية الآحاد والقرآن شرفه الله تعالى ولا يثبت بالآحاد وكذلك ترتيبه وإلاَّ لجوزنا تعكيسه وتحويل كلماته التي تحتمل بذلك التحويل والتعكيس معانيها وقوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم}(المائدة:03) وقوله تعالى{وإنا له لحافظون}(الحجر:09) يقضي ببطلان ذلك، هكذا ذكره إمامنا أيده الله تعالى.
فائدة:
في فضل تلاوة القرآن، قال الدواري: روى عثمان بن عفان العسقلاني عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم عن الله(من قرأ آية معربة من كتاب الله تعالى كتب الله له مائة حسنة ولمستمعها عشر حسنات فإن كانت غير معربة كتب الله لقارئها عشر حسنات ولمستمعها حسنة، الحسنة ألف ومئتا قنطار، القنطار ألف ومئتا بهار، البهار ألف ومئتا مدلاة، المدلاة ألف ومئتا رطل، الرطل ألف ومئتا أوقية، الأوقية ألف ومئتا قيراط، القيراط مثل جبل أحد) قال الدواري: هذا الخبر موثوق به ولا أعلم خبراً في مقدار الحسنة إلاَّ ما ورد في هذا الخبر، فيحتمل أن يكون تفسير الحسنة هكذا في كل حسنة تذكر، ويحتمل أن هذا تفسير حسنة التلاوة للقرآن وسماعه فأما حسنة غير ذلك فمقدارها مما يستأثر الله تعالى العلم به.
قلت: قد مرَّ أن رواية الهادي عليه السلام تخالف شيئاً (كاللوح والقلم) مما دلت عليه هذه الرواية.

المسألة العشرون في النبوءة
وهذه المسألة أصل لجميع القواعد الشرعية وعليها تنمو أغصانها وهي أم مسائل أصول الدين بعد معرفة الله وعدله، فينبغي الاهتمام بتهذيب أدلتها وتحقيق فصولها ووجه اتصالها بباب العدل، إنها بيان لحال المؤدي عن الله تعالى ما نشكره به في مقابلة النعمة وذلك من العدل والحكمة إذ لو أراد منَّا شكره بغير ما نعلمه كان تكليفاً بما لا يعلم
وذلك لا يصح عند أهل العدل، وهذا على القول بأن الطاعات شكر.

قال إمام زماننا أيده الله : وذلك هو أصل قدماء العترة وقد صرح بذلك الهادي عليه السلام لأنه قال: لابد من رسول لينبي عن الله ببيان أداء شكره بما شاء من الشرائع على ما منَّ به من النعم ويميز بذلك من يشكره ممن لا يشكره، إذ قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم فامتنع أن يلقى مشافهة، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك هملاً. وذهب المهدي عليه السلام وكثير من المعتزلة وبعض صفوة الشيعة: أنه يجب على الله تعالى إرسال الرسل لأن البعثة لطف للرسول والمرسل إليه وهو يجب على الله تعالى، والشرائع ليست شكراً وإنما هي ألطاف في العقليات، والشكر الاعتراف فقط، وقد قدمنا في بطلان مقالتهم ما يغني عن الإعادة. والنبوءة: تستعمل في اللغة بالهمز وغير الهمز فبالهمز من الإنباء وهو الإخبار، وبغير الهمز من نبا ينبوا إذا ارتفع، فالنبي إما بالتشديد فهو فعيل بمعنى فاعل كعليم وسميع، وأما بالهمز فهو فعيل بمنى مفعل بكسر العين كنذير أو بفتحها كالقرآن الحكيم وقد منع أبو علي أن يسمى نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيئاً بالهمز من الإنباء وهو الإخبار لأنه حين قال له الأعرابي يا نبي الله بالهمز قال لست نبيءَ الله وإنما (نبي الله أنا) ، وكلامه ضعيف لأن قواعد اللغة تقتضي صحة الإطلاق بحصول المعنى وورد في القراءات السبع وهي متواترة في قول كثير من العلماء (خلاف الزمخشري) والإمام يحي (عليه السلام) وغيرهما. ومعتمد أئمتنا عليهم السلام قراءة أهل المدينة.

20 / 34
ع
En
A+
A-