والإلجاء وإذا منعهم الله تعالى لم يستحقوا على الحسن مدحاً ولا ثواباً ولا على القبيح ذماً ولا عقاباً. يؤيد ذلك قول الله تعالى{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}(الأنعام:148) وقوله تعالى{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} إلى قوله{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}(النحل:35) فحكى الله عن المشركين أنه شاء شركهم وأكذبهم ووبخهم على ذلك وأخبر أنهم يتبعون الظن وقد قال {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}(يونس:36) وأخبر أنهم يخرصون: والخرص هو الكذب ثم قال تعالى{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}(الأنعام:148) وهذا لا يقال إلاَّ للمبطل. فثبت بهذه الجملة مذهبنا أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى الكفر ولا يحب الفساد وبطل ما قاله المخالف.
المسألة السابعة عشرة ((في الآلام))
في الآلام وما في حكمها وما يتعلق بها من الأعواض وغيرها، والألم هو المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة عنه، والذي في حكمه الغم وهو علم الواحد منا أو ظنه أو اعتقاده بنزول مخوف في المستقبل به أو بمن يحب، وإنما قلنا إن الغم في حكم الألم لأن العوض يستحق عليهما معاً،وقد يقال المرجع به عند أبي الحسين والإمام يحي وهو مقتضى ما روي عن القاسم والهادي إلى صفة للمتألم وهي كونه متألماً وهذه صفة بالفاعل فما وقع من ذلك باختيارنا فالصفة حاصلة منا وما كان بغير اختيارنا فهو صفة من جهة (الله تعالى) . واعلم أن الآلام مضرة عاجلة وإنما تحسن لوجوه خفيَّة حتى أن الجهل بوجوه حسنها أصل في ضلال فرق كثيرة كالدهرية فإنهم قالوا لو كان للعالم صانع مختار لما صدر عنه هذه الآلام الضارة التي لا غرض فيها أصلاً، والثنوية فإنهم جعلوا لها فاعلاً غير فاعل الخير لاعتقادهم كونها شراً محضاً وقد مرَّ إبطال مقالة هاتين الفرقتين الضالتين. والتناسخية لما لم يروا بداً من القول بحسنها ارتكبوا لتصحيح ذلك أن أرواح الأطفال والبهائم قد عصت في هياكل غير هذه فعوقبت في هذه، وقولهم لم يدل عليه دليل وكان يلزم أن يحسن سب الطفل والبهيمة عند ألمهما. والبكريَّة لمَّا لم يصح لهم ذلك التناسخ نفوا تألم الأطفال والبهائم أصلاً وقالوا إنها لا تدرك ألماً البتة وكلامهم مخالف لما هو معلوم من شاهد الحال من تضررهما ضرورة. والمجبرة لما جهلوا حسنها قالوا: لا يقبح من الله قبيح وأنه يفعل في ملكه ما يشاء ولو وقع مثل ذلك منا لقبح، فهؤلاء كلهم قد ضلوا بسبب جهلهم وجه حسن الألم فتعين حينئذ وجوب معرفة ذلك الوجه.
ونقول: الآلام لا تكون إلاَّ من فعل فاعل لبطلان تأثير غير الفاعل وهو من المقدورات المشتركة بيننا وبين الباري على ما يجيء بيانه إنشاء الله.
وقالت الطبائعيَّة وسائر المطرفية: بل من الطبائع وإحالات الأجسام.
وقالت المنجِّمة: بل من النجوم.
قلنا: حادث مع الجواز وإلاَّ لم يكن وقت أولى به من وقت فلا بد له من محدث قادر لما مر في إثبات محدث العالم، ثم إن طبع الطبائعي غير معقول في نفسه، ثم نقول له لو كان موجباً عن الطبع على حد إيجاب العلل لم يختلف الحال فكان يجب فيمن صار في ذلك الموضع ومن أتى عليه ذلك الزمان أن ينزل به ذلك الألم ومعلوم أن أحوال الناس تختلف في ذلك، وأما اختلافه باختلاف الزمان والمكان فذلك باختيار الله تعالى وإحداثه وإجرائه العادة في استمرار ذلك في الغالب لمصلحة يعلمها الله تعالى كما في حصول المولود من ذكر وأنثى وحصول النبات عند البذر والسقي وكون (الحيوان والنبات) بعضها من جنس ما هو أصل فيها. وأما ما رواه جهلة المطرفيَّة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(حاذروا بلاد الأسدام فإنها تحث في الآجال).
فجوابه: من وجوه: أحدها أن هذا خبر آحادي ومسألتنا قطعية. الثاني أنه معارض بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(لا عدوى ولا طيرة في الإسلام) (ومن أعدى الأول). الثالث أن الخبر إن صح فمعناه أنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن الصلاح بإماتة كثير ممن دخلها ومرضه بخلاف غيرها كما علم أن الصلاح متعلق بالموت عند تناول السم وإن كان تناول السم غير مؤثر في الموت ولا موجب له. فإن قيل إن كانت الأمراض النازلة بنا في بلاد الوباء والأسدام من فعله تعالى فَلِمَ أمرنا بالتوقي لذلك ونهانا عن السكون في بلاد الأسدام، وإن كان في المرض الذي يصيبنا فيه مصلحة؟.
قلنا: من حيث أن ذلك ضرر ودفع الضرر النازل بنا من الله تعالى ومن غيره واجب
كما أمرنا تعالى وقضى العقل بدفع ما نزل بنا من الأمراض وإن كانت مصلحة لنا لو دامت ثم إذا ارتفعت بالدواء تبين أنه لم يكن لنا مصلحة فيما رفعه الله منها أو أن لنا في رفع المرض مصلحة أكثر من مصلحة المرض كذلك الحكم في الألم في بلاد الأسدام والتوقي منه، إذا عرفت ذلك فاعلم أن جميع الآلام والنقائص النازلة بالأطفال والمجانين وسائر الممتحنين من المكلفين وغيرهم اللاتي من الله حسنة لا قبح فيها. والخلاف في ذلك مع من يقر بحدوثها ثم ينفيها عن الله تعالى، فإنهم يقولون إنها قبيحة ولهذا نفوها عن الله وقد بينا فيما سلف إبطال مقالتهم من أنه قد ثبت بالدليل القطعي أنها من فعل الله وأفعاله كلها حسنة. ونقول: ما كان منها مستحقاً فوجه حسنه الإستحقاق، ومالم يكن منها مستحقاً فنقطع أنه لابد فيها من مجموع الأمرين العوض للمؤلَم والاعتبار له إن كان مكلفاًُ ولغيره إن كان غير مكلف ولا يحسن منه بمجرد العوض لأنه يمكن إيصاله من دون ألم فيكون الإيلام عبثاً ولا لمجرد الاعتبار لأنه لا يتصور في البهائم والأطفال فيكون إيلامها لاعتبار غيرها ظلماً،وقال عباد بن سليمان: بل يحسن منه تعالى للاعتبار فقط. وقال أصحاب اللطف وهم بشر بن المعتمر وأصحابه: بل يحسن منه لأجل العوض فقط. وقالت المجبرة: يحسن خالياً عنهما، واختلفوا، فبعضهم قال: لا يعلل حسنه، وبعضهم يعلل بكونه تعالى مالكاً ورباً أو ليس منهياً.
والدليل على ذلك القول الصحيح وهو أنه لا بد من مجموع الأمرين وإلاَّ قبحت الآلام أنها لو خلت من العوض لكانت ظلماً لأنه يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع ودفع ضرر أو استحقاق وهذه هي صفة الظلم أي حقيقته كما قدمنا، والظلم قبيح بالضرورة والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم. نعم حقيقة العوض هو المنافع المستحقة لا على وجه الإجلال والتعظيم.قلت: هكذا قيل وهو مبني على القول بوجوبه على الباري تعالى لا على القول بأنه تفضل وهو الصحيح، واختلف فيه هل يدوم كالثواب أولا. فقال جمهور أئمتنا عليهم السلام وأبو الهذيل وأحد قولي أبي علي وهو القديم منهما وجماعة من المعتزلة كالصاحب الكافي وبعض البغداذية: أنه يدوم،وقال بعض أئمتنا عليهم السلام منهم المهدي عليه السلام والبهشمية: بل يجوز انقطاعه لأنه كالأروش المستحقة بالجنايات في الشاهد فكما لا يجب دوامها لا يجب دوامه.
قلنا: انقطاعه يستلزم تضرر المعوض (أو فناؤه) وحصول أيهما بلى عوض لا يجوز على الله تعالى وبعوض آخر يستلزم أن تكون الآخرة دار امتحان و بلاء لا دار جزاء فقط والإجماع على خلاف ذلك.
فإن قيل: يتفضل عليه بعد انقطاعه.
قلنا: قد استحق بوعد الله الذي لا يبدل القول لديه أن يبعث للتنعيم فلا وجه للتخصيص بجعل بعضه مستحقاً وبعضه غير مستحق، ويتفرع على القول بالدوام القول بانحباط العوض بالمعصية لمنافاته العقاب كالثواب، وعلى القول بعدمه عدم الانحباط، والقول بأن لا منافاة بين العوض والعقاب فافهم ولو خلت الآلام عن الاعتبار لكانت عبثاً لأن العبث هو الفعل الواقع من العالم به عارياً عن غرض مثله بإضافة غرض إلى مثله إذ الأغراض تختلف باختلاف الأفعال وهذا المعنى حاصل في الألم لو خلى عن الاعتبار لأنه كان يمكن ويحسن اتصال نفع العوض إلى المؤلم من دون الألم، ولا شك في أن العبث قبيح وقبحه معلوم ضرورة وهو تعالى لا يفعل القبيح كما مرَّ،ويدل على ثبوت الاعتبار وهو ما يدعو المكلف إلى فعل الطاعة وترك المعصية قول الله تعالى{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}(التوبة:126) والمراد بالفتنة في هذه الآية الامتحان بالمرض وغيره فأخبر الله أنه امتحنهم وأن غرضه أن يتوبوا وأن يذكروا، وإنما قلنا أن الفتنة هي الامتحان لأنها لفظة مشتركة بين معانٍ أربعة أحدها ما ذكرنا ويدل عليه قول الله تعالى{الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقو لوا آمنا وهم لا يفتنون}(العنكبوت:1،2) معناه يمتحنون. وثانيها: بمعنى العذاب والتحريق قال الله تعالى{يوم هم على النار يفتنون}(الذاريات:13) أي يعذبون، وقال تعالى{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}(البروج:10) معناه حرقوهم، وثالثها: بمعنى الإغواء عن الدين قال تعالى{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}(الأعراف:27) معناه لأغوينكم عن الدين. ورابعها بمعنى الكفر والضلال قال تعالى{وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة}(البقرة:193) معناه حتى لا يكون كفر وضلال ولا يجوز في الآية التي ذكرنا شيء من هذه المعاني سوى الامتحان. فثبت بهذه الجملة أن جميع الآلام والنقائص لابد فيها من العوض والاعتبار وبطل ما قاله المخالف.
تنبيه:
لا بأس بعد تقرير كلام الكتاب أن نأتي بتحصيل القول في الألآم على تأسيس صاحب الأساس أمير المؤمنين أيده الله. فنقول: الألآم لا تخلوا إما أن تكون من الباري تعالى أو من المخلوق، إن كان من الباري فلا يخلو إما أن ينزله على غير مكلَّف أو على مكلَّف، إن كان الأول حسن منه تعالى لمصلحة يعلمها الله تعالى لأنه عدل حكيم لا ينزل الألم إلاَّ لمصلحة لذلك المؤلَّم وذلك يكون تفضلاً والعوض تفضل لا يجب عليه تعالى.
قلت: والعوض من المصلحة التي يعلمها الله تعالى فإن كان إنزال الألم له فهو يفعله قطعاً لا أنه واجب عليه، وعلى هذا فالاعتبار والعوض غير معتبرين في إنزال الآلام خلافاً لما في الكتاب وهو الذي اعتمده المهدي (عليه السلام) وجمهور البصرية، وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون الذي نزل به الألم مؤمناً أو غير مؤمن، إن كان مؤمناً حسن إيلامه لاعتبار نفسه فقط إذ هو نفع كالتأديب ولتحصيل سبب الثواب فقط وهو الصبر عليه والرضى به لأن ذلك عمل لا حصر للثواب عليه كما قال تعالى{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر:10) ولحطِّ الصغائر عنه وفاقاً للزمخشري إذ هو دفع ضرر كالفصد، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم(من وعك ليلة كفر الله عنه ذنوب سنة) هذا لفظ الحديث أو معناه. وفي نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام الآلام تحط الأوزار وتحتها كما تحت أوراق الشجر أو كما قال، وكقوله عليه السلام جعل الله ما تجد من شكواك حطاً لسيئاتك أو كما قال، والأدلة السمعية في ذلك متواترة معنى ولمصلحة له يعلمها كما مرَّ في إيلام غير المكلَّف ولمجموعها لجميع ما مرَّ من الأدلة، ويمكن أن يكون إيلام من قد كفَّر الله عنه جميع سيئاته كالأنبياء (عليهم السلام) تعريضاً للصبر والرضى إذ هو حسن كالتأديب، وأما إذا كان غير مؤمن بل صاحب كبيرة فإيلامه إما لتعجيل عقوبة فقط وقيل لا عقاب قبل الموافاة.
حجتنا قوله تعالى{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }(الشورى:30) ولا خلاف في أن الحد عقوبة ولقوله تعالى{وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}(النور:02) ونحوه، وإما لاعتبار نفسه فقط كما ذكرنا أنه كالتأديب ولقوله تعالى{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولاهم يذكرون}(التوبة:126) وأما لمجموعهما أعني لتعجيل العقوبة والاعتبار ولا يجوز أن يكون إيلامه للعوض لمنافاته العقاب فينحبط كالثواب كما قررناه أولا خلافاً لرواية المهدي (عليه السلام) عن المعتزلة وعليه بنى وهو مقتضى كلام الكتاب لأنهم يقولون لو خلت الآلام عن العوض والاعتبار قبحت خلافاً للمجبرة.
حجتنا: على المهدي (عليه السلام) والمعتزلة قوله تعالى{ولا يخفف عنهم من عذابها}(فاطر:36) وقوله تعالى{ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}(الأعراف:40) فلا عوض حينئذٍ،وأما إذا كان الإيلام من المخلوق فقد يكون حسناً وقد يكون غير حسن،فالحسن هو ما وقع على جهة العقوبة كالقصاص أو ظن حصول منفعة كالتأديب أو دفع مضرة كالفصد أو لإباحة الله تعالى كذبح الأضاحي أو نحو ذلك،والقبيح ما كان على خلاف ذلك وهو ما وقع على جهة الجناية وتحصيل القول في ذلك أن نقول لا يخلو الجاني إما أن يكون مكلَّفاً أو غير مكلَّف، إن كان مكلَّفاً فإما أن يوقعه بمكلف أو غير مكلَّف، إن كان أوقعه بمكلف فلا يخلو إما أن يكون عدواناً أولاً، إن كان عدواناً ولم يتب قال الهادي عليه السلام: زِيْدَ في عذابه بقدر جنايته وأُخبر المجني عليه بذلك فإن كان مؤمناً أثيب على صبره.