قلنا:ولا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر ليحترز به من الملقى في النار والبحر فأن ضرره كان من جهة غير الله وإن كان الله هو الفاعل لذلك فكان الضرر من غيره وهو الملقي وتبعته عليه لأنه فعل الإلقاء وقد أجرى الله العادة بالهلاك عنده فكان الملقي هو المهلك. قال الدواري:قالا وأوجز من هذه الحقيقة ما ذكره المؤيد بالله عليه السلام والحاكم في حقيقة الظلم فقالا هو الضرر القبيح والدليل على أن ذلك الضرر ظلم أن من علم ضرراً هذا حاله علمه ظلماً ومن لم يعلمه بهذه الصفة لم يعلمه ظلماً بدليل ما ذكرناه في قيود الحد فثبت أن عقاب من لا يستحق العقاب ظلم، والظلم قبيح بدليل أن من علمه ظلماً علمه قبيحاً ومن لم يعلمه ظلماً لم يعلمه قبيحاً والله تعالى لا يفعل القبيح وقد جاء السمع بتصحيح ما ذكرنا قال الله تعالى{ولا تزر وازرة وزر أُخرى}(الإسراء:15) وقوله {وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى}(النجم:39) وقوله تعالى{فكلا أخذنا بذنبه}(العنكبوت:40) ولا شك أن الطفل لا ذنب له فلا يجوز تعذيبه بذنب أبيه. وقوله تعالى{إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون}(يونس:44) ولا ذنب أعظم من تعذيب من لا ذنب له فيجب نفيه عن الله تعالى كما نفاه عن نفسه، ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى في بعض الغزوات عن قتل (أولاد المشركين) فقيل يا رسول الله أوليسوا أولاد المشركين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أوليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعزب عنها لسانها إما شاكراً و إما كفوراً) وفي بعض الأحاديث(إنما أبواه يهودانه (ويمجسانه وينصرانه) ) قوله أوليس خياركم أولاد المشركين قال الدواري: يعني بذلك نفسه

المقدسة صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت:في ذلك تردد إذ الرواية مخنلفة في كون بعض آباء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملل صحيحة فيكون كل آبائه مسلمين أو على الكفر فيكون بعضهم كفاراً وقد بسطنا القول في ذلك بعض البسط في شرح التكملة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم على الفطرة المراد بها الخلقة الدَّالة على توحيد الله كما قال{فطر السموات والأرض}(الأنعام:79) أي خلقهما فيكون معنى الخبر كل نسمة تولد على الخلقة الدالة على توحيد الله تعالى وعدله، وإنما تؤتى في إيمانها وكفرها من جهة نفسها أو من جهة الأبوين لا من جهة الخلقة.
وأما الأصل الثاني: فأخذ في بيان دليله فقال: وأما أنه تعالى لا يفعل القبيح فقد تقدم بيانه وإقامة البرهان عليه، فثبت بذلك الدليل القطعي ما ذهبنا إليه من أن الله تعالى لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه وبطل ما قاله المخالف.

المسألة السادسة عشرة (( في الإرادة ))
اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين أن الباري يوصف بأنه مريد وكاره وقد نطق به القرآن الكريم ومن خالف في ذلك فقد كفر، ولكن اختلفوا. فقال جمهور أئمتنا عليهم السلام والبلخي والنظام وأبو الهذيل: المرجع بكونه تعالى مريداً لأفعاله إلى أنه أوجد أفعاله وهو عالم غير ساه ولاممنوع، والمرجع بكونه مريداً لأفعال غيره أنه أمر بها، والمرجع بكونه كارهاً لأفعال غيره أنه ناهٍ عنها وهو معنى قول أئمتنا عليهم السلام إن إرادة الله تعالى مراده وقد زعم الدواري أن القائل إن إرادة الله مراده هو قول المطرفيَّة إلاَّ أن هناك صفة له، ولا معنى غير المراد وكلامه ظاهر الدلالة على أن قولهم يخالف قول من تقدم، قال وتمسكوا بلفظة رووها عن الهادي عليه السلام وهي قوله إن إرادة الله مراده، قال إن صح ذلك عن الهادي عليه السلام فالمعنى كمراده.

قلت: وهو خلاف الظاهر، وأما أبو الحسين وابن الملاحمي فإنهما قالا: المرجع بكون المريد مريداً إلى أن له داعياً والمرجع بكون الكاره كارهاً إلى أن له صارفاً، ثم افترقا بعد ذلك، فابن الملاحمي أطلق ذلك شاهداً وغائباً، وأبو الحسين قال: ذلك في الغائب فقط وفي الشاهد كمذهب جمهور المعتزلة كما نبينه الآن. وقالت الأشعرية: المرجع بكونه كارهاً إلى أنه غير مريد. وقال بعض الزيدية وجمهور المعتزلة بل هو تعالى مريد على حد إرادة الواحد منَّا فهو مريد بإرادة خلقها الله تعالى مقارنة لخلق المراد غير مراده في نفسها ولا محل لها وهي عرض لا في محل إذ الباري لا يحله العرض ولو حلت في غيره كان إذاً هو المريد فاختصت به على أبلغ الوجوه لأن الباري لا في محل، وقالوا لم يُردها فراراً من التسلسل ،وقالوا: مقارنة إذ لا يجوز تقدمها على المراد لأن أحدنا لا يتقدم إرادته إلاَّ لتوطين النفس على تحمل المشقة أو لتعجيل المسرة وكلاهما مستحيل على الله تعالى.

قلنا:قولكم مبني على أصل باطل وهو أنكم على زعمكم اعتمدتم ذلك بطريقة سبر وهو أن الباري لا يخلو إمَّا أن يكون مريداً لذاته أو لغيره، باطل أن يكون مريداً لذاته للزوم أن توجد جميع المرادات إذ لا اختصاص لبعضها حينئذٍ، فإن كان لغيره فلا يخلو إما أن يكون فاعلاً أو علَّة، باطل أن يكون فاعلاً وإلاَّ لزم أن يكون الباري من جنس المقدورات وقد مرَّ بطلانه، فإن كان علَّة فلا يخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة باطل أن تكون قديمة إذ لا قديم غير الله تعالى كما مرَّ بيانه، بقي أن تكون لعلة محدثة وهو العرض الذي لا محل له المخلوق بغير إرادة، ونقول رُمْتُمْ حصر الأقسام فما استوفيتموها ما لكم لا تقولون أولاً لذاته ولا لغيره فإن هذا القسم المعتمَد الذي قام عليه الدليل وذهب إليه أئمة العترة لأنه كما أنه فاعل لا بحركة فهو مريد لا بإرادة لوجوب كونه سبحانه في ذلك بخلاف المخلوق، وقولهم أنه خلقها ولم يردها باطل إذ المعلوم عند كل عاقل أن الفاعل إذا فعل شيئاً لا يريده فهو إما زائل العقل أو ساهٍ أو ملجأ والله يتعالى عن هذه الأوصاف، وقولهم أنها مختصة بالباري على أبلغ الوجوه لأجل كون الباري موجوداً لا في محل، باطل أيضاً لأنه إذا لم يجز أن يؤدي الدليل إلى إثبات عرض لا في محل في حق المخلوق لم يجز أن يؤدي إلى ذلك في حق الباري أولى وأحرى وهم مجمعون مع الأئمة على أنه يستحيل في الشاهد وجود عرض لا في محل ولم يستحل إلاَّ لكونه عرضاً ولا مخصص في ذلك العرض دون ماعداه وإلاَّ لزم تجويز وجود حركة لا في متحرك وذلك باطل، وقولهم إن الدليل أدَّاهم إلى ذلك في حق الباري لأجل كونه لا في محل باطل أيضاً لأن جملة العالم لا في محل فيلزم اختصاصه بعرض لا في محل إذ

العلة قائمة، ثم إنه لو جاز أن يُثبت للباري إرادة لا في محل جاز أن نثبت له حركة لا في محل وشهوة لا في محل ونحو ذلك من المحالات، ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: بقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، ويحب ويرضى من غير رقة، ويغضب ويبغض من غير مشقة. وقوله عليه السلام ومشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره. وقول علي بن الحسين عليهما السلام في توحيده: فاعل لا باضطراب، إلاه مقدِّر لا بجولان فكرة، مدبر لا بحركة، مريد لا بهمامة، وقول جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام في كتاب الإهليلجة: الإرادة من العباد الضمير وما بعد ذلك من الفعل فأما عن الله عز وجل فالإرادة للفعل إحداثه لأنه لا يَرى ولا يتفكر. وقول الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب المسترشد: ألا ترى أن الفاعل لما لا يريد فجاهل مذموم من العبيد فكيف يقال ذلك (في الله) الواحد الحميد وقوله لا فرق بين إرادة الله ومراده وأن الإرادة منه هي المراد وأن مراده هو الموجود الكائن المخلوق.

قلت: كلامه هذا أوضح دليل على بطلان تأويل بعض المتأخرين لكلامه. وقول ابنه المرتضى لدين الله عليه السلام في كتاب الشرح والبيان: العرض لا يقوم بنفسه ولابد له من شبح يقوم فيه وبه. وقول أخيه الناصر عليهما السلام في كتاب النجاة: لا يقوم عرض إلا في جسم ولا جسم إلا في عرض.وقول القاسم بن علي عليهما السلام في كتاب التجريد: فإن قال السائل فلا أرى لله إرادة إذا كان مراده وجود فعله، فإنَّا نقول إن مراده لو لم يكن وجود فعله لكانت صفاته كصفات خلقه. وقول ابنه الحسين بن القاسم عليهما السلام في كتاب الرد على الملحدين: ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت كإرادة المخلوقين ولكانت عرضاً من جسم ولو كان جسماً لأشبه الأجسام، وإنما إرادته فعله وفعله مراده وليس ثم إرادة غير المراد فيكون مشابهاً للعباد. وذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام في الرسالة الناصحة: إن من جملة محالات المطرفيَّة قولهم في الإحالة أنها لا حالَّة ولا محلولة محال وذلك يدل على أن قول من قال في الإرادة أنها لا حالَّة ولا محلولة محال كالقول في الإحالة. نعم وفي الناس من يزعم أن الباري مريد بإرادة قديمة وهؤلاء هم الكلابيَّة والأشعرية من المجبرة بناء منهم على أصلهم في سائر الصفات وقد مر إبطاله. وقالت النجارية من المجبرة: بل هو تعالى مريد لذاته وكلامهم باطل لأنه يلزم أن تكون متقدمة على المراد، والإرادة المتقدمة توطين النفس وذلك لا يصح على الباري ويلزم أن تكون ذاته مختلفة لأن إرادته الصيام في رمضان خلاف إرادته تركه يوم الفطر لأن التخالف لا يكون إلاَّ بين شيئين فصاعداً. وقال هشام بن الحكم ومتابعوه من الرافضة: إرادته تعالى حركة لا هي هو ولا هي غيره، وقولهم هذا غير معقول

ويحتمل أن يريدوا الحركة على حقيقتها على القول بالتجسيم وأن يريدوا بها صفة المريدية التي أثبتها غيرهم فيكون خطأ في العبارة فقط. وقال الحضرمي وعلي بن مُتيَّم: بل حركة في غيره.
قلنا: إذاً فالمريد غيره وإن سلم لزم الحاجة إليه وأن يكون أول مخلوق غير مراد لعدم وجود غيره تعالى وذلك يستلزم نحو العبث كما مرَّ.
واعلم أنه يرادف الإرادة في اللفظ الرضى والمحبة والولاية، فإذا قيل رضي الله عن فلان أو والاه أو أحبه فمعناه أراد نفعه منه ومن غيره وكره ضره منه ومن غيره.
وتحقيق ذلك المعنى الحكم باستحقاق الثواب قبل وقته وإيصاله إليه (في وقته) والكراهة ضد المحبة ومعناها الحكم باستحقاق العذاب قبل وقته وإيصاله إليه في وقته، والسخط بمعنى الكراهة.
ثم اعلم أن كل فعل يصدر منه تعالى فهو مريد له عندنا خلافاً لمن قال خَلَقَ إرادة ولم يردها وهو تعالى مريد لفعل الطاعات وترك المقبحات لا فعل المباح إذ لا ترجيح لفعله على تركه خلافاً للبلخي، ومريد لأكل أهل الجنة إذ هو أكمل للنعمة، وإذ لا خلاف
بين العقلاء أن الموفر العطاء من أهل المروة والسخاء يريد أن يقبل المعطى ما وفر إليه والله جل وعلا أولى بذلك وهذا مذهب أبي هاشم خلافاً لأبي علي، وأما فعل المعاصي فقالت العدلية: إن الله تعالى منزه عن إرادته فهو تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد بل ذلك حادث بإرادة العباد وهي منهم توطين النفس على الفعل أو الترك وقد يكون مقارنة للمراد. وقالت المجبرة: بل هو تعالى مريد لكل واقع إذ لا يقع في ملك الله إلاَّ ما يريده ويرضاه ويحبه.

والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو مذهب العدلية أن الرضى والمحبة يرجعان إلى الإرادة كما ذكرنا أنها أسماء مترادفة بدليل أنه لا يصح نفي بعضها وإثبات الآخر ومعلوم أن إرادة القبيح قبيحة والله تعالى لا يفعل القبيح هذا الأصل قد قام الدليل عليه، وأما الأصل الذي قبله وهو أن إرادة القبيح قبيحة فقد أخذ في بيان دليله فقال: والذي يدل على أن إرادة القبيح قبيحة هو ما نعلمه في الشاهد مما لا خلاف فيه ولهذا إن العقلاء يذمون من أراد القبيح كما يذمون من فعله وتسقط منزلة المريد للقبيح كما تسقط منزلة من فعله فلو أخبر عن نفسه مخبر وهو من أهل العفة والصلاح أنه يريد القبائح ويحبها لا على معنى أنه يشتهيها بل على معنى الإرادة الحقيقية، تبادرت العقلاء إلى ذمه وسقطت منزلته عندهم وذلك ظاهر لكل عاقل وقد جاء السمع بتأييد ما ذهبنا إليه في أصل المسألة قال تعالى{ولا يرضى لعباده الكفر}(الزمر:07) وقال تعالى{وما الله يريد ظلماً للعباد}(غافر:31) وقال تعالى{والله لا يحب الفساد}(البقرة:205) فنفى عن نفسه إرادة ما ذكر فلا يجوز إثبات ما نفاه (الله تعالى) لأنه يكون تكذيباً للصادق وذلك لا يجوز، وقد أثبت لنفسه كراهة المعاصي فقال تعالى{كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً}(الإسراء:38) ،فإذا كان كارهاً لها بطل أن يكون مريداً لها.

ويدل على ذلك قول النبي صلى الله علي وآله وسلم:(إن الله كره لكم العبث في الصلاة والرفث في الصيام والضحك بين المقابر)، فإذا كان الله تعالى كارهاً لهذه الأفعال فكيف يجوز لمن يدعي الإسلام أن ينسب إلى الله إرادة قتل الأنبياء عليهم السلام وسائر الفواحش تعالى الله (عما يقولون) علواً كبيراً، ومن أنصف من نفسه كفاه الدليل ومن كابر فضحه الدليل.
دليل آخر على أن الله لا يريد القبائح أنه قد ثبت أن الشياطين يريدون القبائح من العباد وثبت أن الأنبياء عليهم السلام كارهون لها فلو كان الله تعالى مريداً للقبائح كما تزعمه المجبرة لكانت الشياطين موافقين لله تعالى في إرادته ولكان الأنبياء عليهم السلام مخالفين لله سبحانه في إرادته وكل مذهب أدى إلى أن يكون الشيطان موافقاً لله والنبي مخالفاً له وجب القضاء بفساده. وأما ما يتعلق به المخالف من قوله لو وقع في ملك الله مالا يريده لكان ضعيفاً عاجزاً فذلك لايصح، لأنا نقول له إنما يدل على عجزه لو وقع على سبيل المغالبة ولاشك أن الله تعالى قادر على منع العصاة من القبيح لكن لو منعهم بالقهر لبطل التكليف، ولأن الله تعالى قد أمر بالطاعة ونهى عن المعصية فوجد في ملكه ما نهى عنه ولم يوجد في ملكه ما أمر به، وكما أن ذلك لا يدل على عجزه وضعفه كذلك في مسألتنا، وكذلك ما يتعلقون به من لفظ المشيئة نحو قوله تعالى{ولو شاء ربك ما فعلوه}(الأنعام:112) وقوله تعالى{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً}(يونس:99) وغير ذلك، فنقول المراد بهذا كله وما أشبهه مشيئة الإكراه لأنه قادر على أن يجبر العباد على الإيمان وعلى أن يمنعهم من العصيان لكن لو منعهم من ذلك لبطل التكليف لأن من شرائط حسن التكليف زوال المنع

17 / 34
ع
En
A+
A-