والجواب:من وجوه أحدها:أن هذا الخبر لم يصح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.والثاني:أنه من أخبار الآحاد. الثالث:أنه مخالف دلالة العقل ومحكم القرآن.الرابع:أنه لو صح ما ذكروه لوجب أن تكون الحجة لإبليس على آدم ولفرعون على موسى بأن يقول إبليس لمن ذمه وأنكر عليه مخالفته لربه كما رووا أن آدم عليه السلام احتج به، فكذلك يقول فرعون مثل ذلك، وهذا يوجب كون الحجة للعصاة على الله تعالى الله عن ذلك، وقد قال تعالى{لئلا يكون للناس على الله حجة}(البقرة:150) وإذا كان كذلك وجب رد هذا الخبر والقطع على أنه كذب على نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنه يتقرر هذا لنا بأصل نرجع إليه قد قام عليه البرهان وهو أن سبق العلم بالمعاصي والطاعات ليس يدل على الجبر وعدم التمكن بل العلم سابق غير سائق،وكذلك سبق علمه بنزول المصيبة لا ينافي العوض عليها دليله أن الله تعالى عالم بسعادة المكلَّف بسبب عمله وهو فعله الطاعة وشقاوته بسبب عمله وهو فعله المعصية أو بنزول المصيبة بسبب عمله وهو الاستقامة فيكون امتحاناً أو الانحراف عن الطاعة فيكون عقوبة وربما كان منه دعاءٌ علّمه الله تعالى فيكون سبباً في عدم نزول المصيبة كما جاء في الأثر (إن الدعاء والبلاء يلتقيان في العرش فيعتلجان حتى تكون الغلبة للدعاء) وقد عرفنا أن (الله تعالى) قد علم أنه لو حصل ضد تلك الأسباب لحصل ضد المسببات،ألا ترى أن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يولي فراراً من أهل الكهف ويملأ رعباً لو حصل منه بسبب ذلك وهو الاطلاع عليهم ،فلمَّا لم يحصل منه السبب لم يحصل المسبب وحصل (ضد السبب) فحصل ضد المسبب،فإذا فرضنا أن المطيع يعصي وأن العاصي يطيع وأن من تنزل به المصيبة يدعو
وانقلبت الحال لم يكشف عن جهل في حقه تعالى بعد علمه بالكل كما قررنا، ثم إن العلم ليس بجبر كعلمك بأن الكافر يعبد الصنم فليس علمك مجبراً له على ذلك، ويشهد بهذا ما جاء في الحديث عن عمر بن الخطاب قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم:(مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم والأرض التي تقلكم) فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذا لا تستطيعون الخروج من علم الله وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله عليها. ولمَّا أورد الشيخ الحديث الذي في الكتاب استدلالاً على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره، قال في آخر المسألة كما هي عادته فثبت بما ذكرنا من الدليل القطعي أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره وبطل ما قاله المخالف.
المسألة الرابعة عشرة ((أن الله لا يكلِّف عباده ما لا يطيقون))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله لا يكلف عباده ما لا يطيقون، وهذا هو قولالأكثر، واختلفوا، فقيل: لأنه قبيح كما يجيء في دليل الكتاب وهو تعالى لا يفعل القبيح كما مرَّ وهذا قول العدلية، ومنهم من قال: إنه لا يكلف ما لا يطاق لأنه تعالى لا ينفرد بفعل القبيح، ويقولون: يصح منه تعالى أن يكلَّف العبد ما لا يطيقه إذا كلَّفه بذلك غيره فيفعل ذلك مشتركاً وهذا قول النجارية، وعندهم أن تكليف الكافر بالإيمان ليس بتكليف لما لا يطاق وإن لم يكن فيه قدرة على الإيمان، قالوا: لأن الإيمان يصح من الكافر ويجوز ويتوهم فيحسن من الله ولا يقبح،ومنهم من قال: لا يكلف ما لا يطاق لا لقبحه فهو لا يقبح منه ولكن لعدم الداعي إذ لا داعي له إلى تكليف ما لا يطاق بل يستحيل عليه كما يستحيل على الواحد منَّا الداعي إلى تحريك الجمادات وهذا قول الغزالي. قال بعض أصحابنا: وقد ألزمنا المجبرة على قولهم بإيجاب القدرة وخلق الأفعال وعدم القبيح العقلي أن يكون الله تعالى قد كلَّف عباده ما لا يطيقونه وكانت المجبرة لا تلتزمه وإن لم يقولوا بقبحه عقلاً بل قالوا لأنه لا يليق من الحكيم لما فيه من النقص شاهداً، ولم يزالوا على ذلك حتى صرَّح أبو الحسن (بن بشر) الأشعري بجوازه على الله بناءً على قياس مذهبهم كما ذكرنا، قال بعض المحققين لما لا يطاق صوراً أربع:
الأولى: الجمع بين الضدين مما هو غير مقدور أصلاً لا له تعالى ولا لنا لأنه يستحيل الجمع بين الضدين من جهتنا ومن جهة الباري تعالى .
الثانية: مالا يطاق من جهتنا وهو مقدور للباري تعالى وهذا نحو إيجاد الأجسام وبعض الأعراض ونحو ذلك.
الثالثة: ما يصح منا جنسه إلا أنه لا يُمكنّا إيجاده على الوجه الذي يقع عليه من جهة الباري وهذا نحو الطيران.
الرابعة: ما يدخل تحت مقدورات القدر إيجاده في مقداره وصفته إلا أن العبد لم توجد فيه قدرة وذلك على زعمهم، فأما الصور الثلاث الأُول فإنهم ينفون على الله التكليف
بها، قالوا: لأن السمع ورد بأن الله تعالى لا يفعل ذلك وإن كان العقل يقضي عندهم بجواز ذلك من الله تعالى، وأما الصورة الرابعة فإنهم يجوزونها على الله تعالى ويقولون إن الله يكلف الكافر بالإيمان الذي يمكن غيره من المكلفين إيجاده وكلف الكافر ذلك ولا قدرة له على الإيمان. واختلف أصحابنا هل قبح تكليف مالا يطاق معلوم ضرورة أو استدلالاً؟ فقال أبو الحسين وابن الملاحمي: ذلك معلوم ضرورة جملة وتفصيلاً فلا يحتاج فساده إلى دليل، قالا: والمجبرة عوام وعلماء فالعوام تبع لعلمائهم والعلماء مكابرون ومتعصبون لمذهبهم الفاسد، والذي عليه الجمهور من أصحابنا أن قبح ذلك جملة معلوم ضرورة في الشاهد والغائب، وأما التفصيل فيحتاج إلى دليل ومن هنا قال الشيخ:-
الدليل على ذلك أي أن الله لا يكلف عباده مالا يطيقون ،أن تكليف ما لا يطاق قبيح وقد بينا فيما سلف بالدليل القطعي أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وقد بينا فيما تقدم أيضاً بطلان أن تكون القدرة موجبة وغير صالحة للضدين وذلك هو أصل مذهبهم (هنا أنه) تعالى يكلف مالا يطاق. وإذا تقرر بطلان هذين الأصلين وهما أنه تعالى يفعل القبيح وأن القدرة موجبة غير صالحة بطل ما تفرع عليهما من القول بجواز تكليف مالا يطاق، لأنه إذا بطل الأصل بطل الفرع، ومتى قيل وما الذي يدل على أن تكليف مالا يطاق قبيح؟ قلنا: قبحه على الجملة هو معلوم ضرورة ولم تدر أنك أيها الخصم ممن يجهل الضروريات فإن غفل عقلك وتاه عن الصواب قلنا منبهين لك على أن ذلك ضروري، ألا ترى أنه يقبح في الشاهد من الواحد منا أن يأمر الأعمى بنقط المصحف نقطاً صحيحاً، وأن يأمر المقعد بالجري مع الخيل العربية، وأن يأمر من لا جناح له بالطيران، وقبح ذلك معلوم ضرورة، ولم يقبح ذلك إلاَّ لكونه (تكليفاً لما) لا يطاق لفقد ما يصح تعليق الحكم عليه سواه فصار القبح يدور على كونه تكليفاً لما لا يطاق وجوداً وعدماً، بدليل أنا متى علمنا أن ذلك تكليف لما لا يطاق قضينا بقبحه، ومتى لم نعلمه تكليفاً لما لا يطاق لم نقض بقبحه إذا لم يحصل هناك وجه آخر من وجوه القبح وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى إذ لو كان هناك ما تعليق الحكم به أولى لجاز أن نعلمه تكليفاً لما لا يطاق ولا نعلم قبحه بأن لا نعلم ذلك الأمر المؤثر في القبح أو لجاز أن نعلم قبحه وإن لم نعلمه لا يطاق ولا علمنا وجهاً من وجوه القبح سوى ذلك، فلو كلَّف الله عباده ما لا يقدرون عليه لكان قبيحاً والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم.
قلت وفي قول الشيخ: أن الذي يدل على أن تكليف مالا يطاق قبيح هو معلوم ضرورة ركاكة وقلقلة وكان الأولى في التعبير أن يقال وقبح تكليف ما لا يطاق معلوم ضرورة كما هو مؤدى عبارة((الخلاصة)). ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قول الله تعالى{لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها}و{إلاَّ ما آتاها}. وقوله{فاتقوا الله ما استطعتم}وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم). احتج المخالف: بأن الله تعالى كلف أبا جهل ما لم يطق حيث أمر أن يعلم بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالإيمان معاً، ومن جملة ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار بأنه كافر فإعلامه به تكليف ويلزم التكليف بلازمه وهو الكفر مع الإيمان فالجمع بينهما لا يطاق.
الجواب: عن ذلك من وجهين:
أحدهما: ذكره في الأساس وهو أن كفر أبي جهل سبب الإعلام بأنه كافر ضرورة لا أن ذلك الإعلام سبب لحصول كفره، وإذا لم يكن الإعلام سبباً لم يلزم التكليف بالكفر ولأنه لم يكلف أبو جهل بالعلم بأنه كافر لحصوله عنده بسبب كفره إذ تحصيل الحاصل محال، وكذلك أمر الحكيم به محال. فثبت أنه لم يكلف إلاَّ بالإيمان فقط.
والثاني: ذكره بعض أصحابنا وهو أنه إنما كلفه بتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به على الجملة، لا في كل فرد إلاَّ فيما بلغه منها فقط، ولا نسلم أن هذا مما بلغه إذ لا يجب التبليغ إلاَّ إلى من له فيه مصلحة من حكم أو غيره ولا مصلحة لأبي جهل في ذلك. فثبت بذلك الذي قررنا من الأدلة وقطع شبهة المخالف أن الله تعالى لا يكلف عباده مالا يقدرون عليه وبطل ما قاله المخالف.
المسألة الخامسة عشرة ((أن الله تعالى لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى لكونه عدلاً حكيماً لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله ولا يعاقبه إلاَّ بذنبه هذا مذهبنا. والخلاف في ذلك مع الأشعرية والحشوية والجهمية ويلزم المطرفية، أما الحشوية فإنهم قطعوا: أن الله يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم يوم القيامة، وأما الأشعرية فيجوزون ذلك، والفريقان متفقان على أن الله تعالى يجوز أن يثيب بغير عمل ويعاقب بغير ذنب لأنه غير منهي فلا يقبح منه قبيح أصلاً، وأما المطرفية فإنهم يقولون: إن الله ما سوغ لنا ملك أولاد المشركين واسترقاقهم وإنزال المصائب بهم إلاَّ لأجل ذنوب آبائهم فألزمهم أهل العدل جواز أن يعاقبهم الله تعالى في الآخرة لأجل ذنوب آبائهم.
والدليل على ذلك: المذهب الصحيح وهو مذهبنا أن المجازاة بالثواب والعقاب لمن لا يستحقها قبح ، والله تعالى لا يفعل القبيح فهذان أصلان لابد من إقامة الدليل على كل واحد منهما.
أما الأصل الأول: فأخذ في بيان دليله فقال: أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلا بعمله، فهو أن الثواب يتضمن التعظيم لا يخفى ما في هذه العبارة من الركة لأن الاشتغال بإبانة أن الثواب لمن لا يستحقه قبيح وفي تصدير الكلام بقوله أما الدليل على أنه لا يثيب أحداً إلاَّ بعمله رجوع إلى نفس المسألة لا إلى الاستدلال على أصلها المبنية هي عليه وبيان ما قصده الشيخ أن الثواب في اصطلاح المتكلمين، المنافع المستحقة المفعولة على جهة التعظيم، فقولنا المنافع جنس الحد، وقولنا المستحقة يخرج التفضل لأن حقيقته هي المنافع التي ليست بمستحقة، وقوله على جهة التعظيم يخرج العوض واللطف، لأن حقيقة العوض المنافع المستحقة المفعولة لا على جهة التعظيم وحقيقة اللطف ما يدعو المكلَّف إلى فعل ما كُلِّف فعله أو ترك ما كلِّف تركه أو إلى مجموعهما على الوجه الذي كُلِّف به.
وقال في الأساس: هو تذكير بقول أو غيره حامل على فعل الطاعة وترك المعصية.قال المهدي عليه السلام وأبو هاشم: ويجوز كون فعل زيد لطفاً لعمرو وتقدم اللطف بأوقات ولو قبل بلوغ المكلف ما لم يَصِر في حكم المنسي خلافاً لأبي علي.حجتنا عليه حصول الالتطاف بالمواعظ وهي فعل الغير وبأموات القرون الماضية وتهدم مساكنهم وهي متقدمة، فقد عرفت أن المنافع أربع تفضل وثواب وعوض ولطف، وأن الثواب هو المنافع المستحقة المفعولة على جهة الإجلال والتعظيم،فلو أوصلها الله إلى من لا يستحقها لكان قد عظم من لا يستحق التعظيم ومعلوم قطعاً أن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح، دليله ما نعلمه في الشاهد ألا ترى أنه يقبح من الواحد منَّا تعظيم البهائم كتعظيم الأنبياء وتعظيم الأجانب كتعظيم الوالدين وأن يُنزل المسيء في باب التعظيم منزلة المحسن ولم يقبح ذلك لدليل منفصل بل إنما قبح ذلك لكونه تعظيم من لا يستحق التعظيم أي تعظيم الأنبياء وتعظيم الوالدين لا التعظيم المطلق فقد يكون الأجنبي مؤمناً يستحق التعظيم وهذه هي العلَّة في القبح لا غيرها إذ لا تجد ما تعليق الحكم به أولى فثبت أنها هي العلَّة، وإذا ثبت ذلك لزم من إثابة الباري من لا يستحق الثواب فعله القبيح وهو لا يصح منه تعالى كما مرَّ، ولهذه العلة قبح السجود للأصنام لأنه تعظيم من لا يستحق التعظيم. وأما الدليل على أنه لا يعاقب أحداً إلاَّ بذنبه، النظر هاهنا كما مرَّ لأن الاشتغال ببيان دليل أصل المسألة وهو أن عقاب من لا يستحق العقاب قبيح وهذا رجوع إلى نفس المسألة وفي بعض النسخ بلفظ لا يعاقب
من لا يستحق العقاب. فلأن عقاب من لا يستحق العقاب يكون ضرراً عارياً عن جلب نفع و دفع ضرر واستحقاق، وهذه حقيقة الظلم. قال الدواري: الأجود في حقيقته أن يقال هو الضرر العاري عن استحقاق أو جلب منفعة أو دفع مضرة، أو الضرر الذي لا يعرى عنها أو عن أحدها ولم يقض العقل أو الشرع بحسن ذلك الضرر أو العاري عن ظن جلب النفع أو دفع الضرر أو الذي لا يُعرى عن ظن ذلك ولم يكن فعله حسناً ولا يكون في الحكم كأنه في جهته غير فاعل الضرر، قلنا الضرر لأن النفع لا يكون ظلماً، قلنا العاري عن جلب منفعة أو دفع مضرة كما وصفنا لأن الضرر لأجل النفع أو دفع الضرر المذكورين لا يكون ظلماً كمن شرط أُذن ولده لدفع ضرر هو أعظم من ذلك، أو يقطع إصبعاً من يده خشية فساد جميع اليد، وكذلك إنزاله به مشقة السفر لما يرجو له من النفع الذي هو أعظم من تلك المشقة لا يكون ظلماً، قلنا أو استحقاق لأن المقتص من غيره عن نفس أو مال لما وجب له من القصاص لا يكون ظلماً وكذلك عقاب الله لأهل المعاصي بالنار والحدود. قلنا أو الظن للنفع أو دفع الضرر الموصوفين وذلك لأن ظنهما قائم مقام حصولهما لأن المنافع والمضار تقوم الظن مقام وقوع المظنون وهذا مما قضت به قضايا العقول، ولم يذكر فيهما ظن الاستحقاق لأنه لا يجوز إيلام الغير لظن الاستحقاق فلا تقتل شخصاً لظنك أنه قتل ولدك ولا نحو ذلك، هذا قول الزيدية وجمهور المعتزلة، وقال أبو هاشم بل يحسن لظن الاستحقاق.