وإذا تقرر ذلك علمنا أن ذلك المعنى في حق الباري فاسد، فإطلاق اللفظين المذكورين يوهمه وكل لفظة هذا حالها فإنه لا يجوز إطلاقها،وليس العلة مجرد الاعتقاد بحيث يصح الإطلاق مع اعتقاد المعنى الصحيح لأنه إن لم يكن هناك اعتقاد فربما توهم السامع الخطأ في المتكلم وإن لم يكن هناك آدمي يعلمه المتكلم فيجوز أن يكون هناك آدمي وهو لا يعلمه المتكلم فإن قدَّر القطع على أنه ليس هناك آدمي فإن الملائكة والجن إذا سمعوا ذلك منه توهموا الخطأ منه في اعتقاده وتعريض المكلَّف نفسه للتهمة باعتقاد الخطأ،و لا يجوز لأن ذلك ضرر يلحق النفس ودفع الضرر عن النفس واجب.قال الدواري: وكان يلزم على أصول المجبرة ألاَّ يجوز إطلاق القول بذلك في جميع أفعالنا لأن من جملة معنى القضاء كونه بمعنى الأمر وهم ينزهون الباري تعالى عن الأمر بالمعاصي لقوله تعالى{إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}(الأعراف:28).ولكن كان ذلك منهم للهجهم بالقضاء والقدر وتقحمهم للمهالك الموردة إلى النار لنسبتهم القبيح إلى مولانا ومولاهم نعوذ بالله من دأبهم،ثم أنه يقال لهم من قضى بعبادة الأوثان والنيران؟ فإن قالوا: الله تعالى أكذبهم القرآن لقوله تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه}(الإسراء:23) وإن قالوا: غير الله رجعوا إلى الحق وتركوا مذهبهم ولا شك أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
تنبيه:

من جملة الألفاظ المشتركة الهدى والضلال، فالهدى قد يكون بمعنى الدعاء إلى الخير قال تعالى{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}(فصلت:17) وبمعنى زيادة البصيرة بتنوير القلب بزيادة في العقل قال تعالى{والذين اهتدوا زادهم هدى}(محمد:17) ومثله قوله تعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}(الأنفال:29) أي تنويراً تفرقون به بين الحق والباطل.وبمعنى الثواب قال تعالى{يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار}(يونس:09) أي في حال جري الأنهار،وبمعنى الحكم والتسمية به قال الشاعر:
مازال يهدي قومه ويضلنا جهراً وينسبنا إلى الفجار
وإذا عرفت هذه المعاني فاعلم أنه يجوز أن يقال إن الله تعالى لا يهدي القوم الظالمين، بمعنى لا يزيدهم بصيرة لمَّا لم يبصروا أو لا يثيبهم أو لا يحكم لهم بالهدى ولا يسميهم به،ومقتضى ما قدمنا في القضاء والقدر أنه لا يجوز إطلاق القول بذلك بل مع القرينة المشعرة بأحد هذه المعاني الصحيحة وإلاَّ أوهم المعنى الفاسد،وهو بمعنى لا يدعوهم إلى الخير،وبفساد هذا المعنى قالت العدلية خلافاً للمجبرة فجوزوا أن يقال أن الله لا يهدي القوم الظالمين بمعنى لا يدعوهم إلى الخير.

قلنا: ذلك رد لما علم من الدين ضرورة لدعاء الله الكفار وغيرهم بإرساله إليهم الرسل وإنزاله الكتب وقال تعالى{فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}(فصلت:17) وقال تعالى{وإن من أمة إلاَّ خلا فيها نذير}(فاطر:24) والضلال بمعنى الإغواء عن طريق الحق قال تعالى{وأضلهم السامري}(طه:85) أي أغواهم عن الحق،وبمعنى الهلاك قال تعالى{أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد}(السجدة:10) أي هلكنا،وبمعنى العقاب قال تعالى{إن المجرمين في ضلال وسعر}(القمر:24) أي في عقاب والسعر جمع سعير وهو العذاب المستعر أي المشتد،وبمعنى الحكم والتسمية كقول الشاعر:
مازال يهدي قومه ويضلنا جهراً وينسبنا إلى الفجار
أي يحكم على قومه بالهدى ويسميهم مهتدين وعلينا بالضلال ويسمينا ضالين.
وإذا عرفت هذه المعاني فاعلم أنه يجوز أن يقال أن الله يضل الظالمين بمعنىيحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لما ضلوا، و بمعنى يهلكهم أو يعذبهم، ولا بد من التقييد بما ذكر لإيهام الإطلاق المعنى الفاسد وهو أن يكون المعنى يغويهم عن طريق الحق، وبفساد هذا المعنى قالت العدلية خلافاً للمجبرة.
قلنا: ذلك ذمّ لله تعالى وتزكية لإبليس وجنوده (لعنهم الله) وذلك كفر.
فائدة:
الطبع على القلب المشار إليه في القرآن بقوله تعالى{كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}(غافر:35) والختم المذكور بقوله تعالى{ختم الله على قلوبهم}(البقرة:07)لا يمنع الكافر من الإيمان عند العدلية.وقالت المجبرة: بل يمنع والأكثر منهم فسروه بخلق الكفر وقيل هو خلق القدرة الموجبة له.

قلنا: كل من هذين التفسيرين فاسد لغة وعقلاً، أما اللغة فلم ينقل عن أحد من أهل اللغة وضعهما لما ذكروه، وأما العقل فَلِما تقدم من بطلان أن يكون الكفر بخلق الله وبإيجاب القدرة، وننقض تفسيرهم أيضاً بقوله {بل طبع الله عليها بكفرهم}(النساء:155) أي بسبب كفرهم فجعل الطبع غير الكفر، قال بعض العدلية واعتمده المهدي عليه السلام: ويجوز أن يكونا بمعنى جعل علامة لأن الطبع في اللغة هو الرقم الثابت، والختم هو السد والرتق فهما علامة جعلهما الله على قلب كل كافر مأيوس الإيمان كنقطة سوداء مثلاً كما ورد في بعض الآثار، وإنما جعل الله تعالى تلك العلامة ليتميز ذلك الكافر للملائكة وفيه نوع لطف لأحد المكلفين من الملائكة وغيرهم وإلاَّ كان عبثاً وهو لا يجوز على الله تعالى.

قال (إمام زماننا أيده الله) في الأساس: وفيه نظر لأنها إن كانت للحفظة كما ذكرتم فأعمال الكفار أوضح منها مع أنهم عليهم السلام لا يرون ما وراء اللباس من العورة كما ورد أنهم يصرفون أبصارهم عند قضاء الحاجة فبالأحرى أنهم لا يرون القلب والله غني عنها لأنه عالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه شيء، قال أيده الله تعالى فالتحقيق أنه عبارة عن سلب الله إياهم تنوير القلب الزائد على العقل الكافي لأن من أطاع الله نوَّر الله قلبه قال تعالى{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}(التغابن:11) وقال تعالى{والذين اهتدوا زادهم هدى}(محمد:17) وقال تعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}(الأنفال:29) أي تنويراً كما مر ومن عصى الله لم يمده بشيء من ذلك مادام مصراً على عصيانه فشبه الله سلبه إياهم ذلك التنوير بالختم والطبع، وأما قوله تعالى{وعلى أبصارهم غشاوة}(البقرة:07) وقوله تعالى حاكياً{وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}(فصلت:05) فتشبيه لحالهم حيث لم يعملوا بمقتضى ما سمعوا وأبصروا ولا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمن في أذنيه وقر فلم يسمع وعلى بصره غشاوة فلا يبصر وبمن بينه وبين الناصح حجاب لا تبلغ إليه نصيحته مع ذلك الحجاب.
واعلم أرشدك الله أن الأمة قد اتفقت على أن القدرية اسم ذم وقد ورد في ذمها من الآثار ما هو متفق على صحته وصرنا نترامى نحن والمجبرة بهذا الاسم، فنحن نقول القدرية هم المجبرة وهم يقولون بل أنتم القدرية.
قلنا: طريقة الإنصاف أن نتبع الدليل في ذلك ويشهد بما قلنا ثلاثة أدلة.

الدليل الأول أن القدرية لفظة مشتقة وهم يقولون بالقدر ونحن ننفيه والأسماء لا تشتق من النفي بل من الإثبات ولذلك سمي الثنوية ثنوية لإثباتهم الثاني ولم نسمَ بذلك لنفينا له.
فإن قيل: أنتم تقولون بقدرة العبد فهو منسوب إليها.
قلنا: فكان يجب ضم القاف.
فإن قيل: أنتم تقولون المعاصي بقدر العبد.
قلنا: لا نتولع بذلك وليس من عباراتنا.
الدليل الثاني أن لهجهم بإطلاق هذه العبارة والعرب يسمون من لهج بشيء باسم ذلك الشيء ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمرياً لبنياً لكثرة لهجه بهذين الجنسين، والمجبرة لا يفعلون صغيراً من الأفعال ولا كبيراً إلاَّ ويقولون قضى الله علينا بذلك.

الدليل الثالث أنا وجدنا في صحيح الأخبار أوصافاً للقدرية ليست إلا فيكم لأنه قد روي أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم:(صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيئاً وهم القدرية والمرجئة قيل يا رسول الله من القدرية؟ قال:الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من الله سبحانه. وفي رواية هي من قبل الله وفي أخرى يقولون إن الله قدرها عليهم، قيل ومن المرجئة؟ قال: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل). وما قال صلى الله عليه وآله وسلم في القدرية نص صريح في أنهم هم القدرية لأنهم أهل هذه المقالة وليت شعري ما عذرهم قاتلهم الله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقدرية مجوس هذه الأمة وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس) وطريقة الإنصاف أنا ننظر فيمن وجدت فيه هذه الأوصاف فهو المراد بالقدرية، أما كونهم مجوس هذه الأمة فليس المراد مذهب المجوسية على الحقيقة إذ ليس في هذه الأمة مجوس بل المراد من مذهبه أشبه بمذهبهم، وقد نظرنا فإذا هم أشبه بهم إذ قالوا القادر على الخير لا يقدر على الشر كالكفر لأن القدرة غير صالحة للضدين وهذا بنفسه عين مذهب المجوس على (ما تقدم) ، وأما كونهم خصماء الرحمن فلأنهم هم المخاصمون للرحمن فإنه إذا احتج يوم القيامة على العصاة وأظهر أنهم أتوا من قبل أنفسهم وأنه ليس ظالماً لهم، قامت المجبرة فردوا عليه الحجة، وقالوا: بل أنت الذي خلقت فيهم العصيان وخاطبتهم بما لا قدرة فيهم عليه وهو الطاعة ثم أخذت الآن فعاقبتهم على فعل ذلك وتوبخهم عليه، وأما كونهم شهود الزور فإن الله تعالى إذا سأل الشياطين لِم أضللتم العباد وأغويتموهم؟ قالوا أنت الذي أظللتهم وأغويتهم ثم لا يجدون من يشهد لهم إلاَّ المجبرة دون سائر

الأمم، قال بعض المفسرين قوله تعالى{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودَّة}(الزمر:60) واردة في المجبرة لأنهم يحشرون فيخرج من أفواههم دخان فيقع على وجوههم فتسود بذلك وجوههم، وأما كونهم جنود إبليس فإنهم الذين يتعصبون لإبليس ويحتجون له على مقالته رب بما أغويتني، ويقولون: إنه غير مستحق للذم والبراءة لأنه لا فعل له بل الله هو المظل والمغوي. وإذا ثبت حصول هذه الأوصاف فيهم كانوا هم المرادين بالقدرية من غير شك ولا مرية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجالسوا القدرية ولا تفاتحوهم) وهذا خبر متلقى بالقبول. وطريقة الإنصاف: أنا ننظر من في مجالسته مفسدة فلما نظرنا وجدناهم المجبرة لوجوه: أحدها:أن مجالستهم تؤدي إلى إساءة الظن بالله من حيث أنهم يجوزون صدور كل قبيح منه تعالى.الثاني: أن مجالستهم تؤدي إلى الاستهزاء بكلام الله تعالى لأن السامع متى سمع الأمر والنهي والوعد والوعيد وهو يعتقد ما يعتقدونه استهزأ بالخطاب العزيز ويقول إن فعلها فينا وجدت وإن لم يفعلها فينا لم توجد فلأي شيء أمرنا و نهانا؟.الثالث:أنه يؤدي إلى التمادي في المعصية من حيث أنه يعتقد أن الله تعالى فاعلها ويستمر على ذلك ويقول الفعل لغيري وهو الله تعالى.الرابع: أنه يؤدي إلى التكاسل عن الطاعة متى سمعهم يقولون إن الطاعات فعل الله تعالى لأن من لا يقدر على شيء لا يهتم بفعله.الخامس:أنه يؤدي إلى أن الله تعالى لا يستحق العبادة لأن من مذهبهم أنه يجوز أن يكون الله تعالى لم يفعل هذه المنافع قاصداً بها وجه الإحسان إلينا بل من غير فضيلة أو فعلها استدراجاً لنا بها إلى النار فإذا كان كذلك لم يستحق العبادة لأنها لا تستحق إلاَّ على أصول النعم وفروعها

والنعم من حقها أن يقصد بها فاعلها وجه الإحسان.وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه لما قفل من صفين قال له شيخ ممن كان معه: أترى يا أمير المؤمنين أن مسيرنا إلى الشام كان بقضاء الله وقدره؟ فقال عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما علونا تلعة ولا هبطنا وادياً إلاَّ بقضاء الله وقدره.فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً،فقال علي عليه السلام: مه أيها الشيخ لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الأمر والنهي،ولما كانت محمدة من الله لمحسن،ولا مذمة (من الله) لمسيء،ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء،ولما كان المسيئ (بعقوبة المذنب) أولى من المحسن، فتلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمان وشهود الزور وأهل العمى في الأمور قدرية هذه الأمة ومجوسها،إن الله تعالى أمر تخييراً،ونهى تحذيراً،وكلَّف يسيراً،لم يعص مغلوباً،ولم يطع مكرهاً،ولم يرسل الرسل عبثاً،ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.قال الشيخ: فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاَّ بهما؟ فقال علي عليه السلام: الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه} فنهض الشيخ مسروراً وأنشأ يقول:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته يوم النشور من الرحمان رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً جازاك ربك عنَّا فيه إحسانا
نفسي الفدا لخير الناس كلهم بعد النبي علي الحبر مولانا
نفى الشكوك مقال منك متضح وزاد ذا العلم والإيمان إيمانا
فليس معذرة في فعل فاحشة يوماً لفاعلها ظلماً وعدوانا

كلا ولا قائل ناهيه أوقعه فيها عبدت إذن يا قوم شيطانا
وهذا الخبر نص صريح في أن القدرية هم المجبرة وكلامه عليه السلام عندنا حجة.
وقد أوردوا شبهة تعلقوا بها: وهي ما يروونه من المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام فإنهم قالوا: إن آدم وموسى اتفقا في السماء فقال موسى لأدم: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته فَلِمَ عصيته؟ فقال آدم أترى أن المعصية التي فعلتها كتبها الله علي قبل خلقي بألفي عام أم لا. فقال موسى بل كتبها عليك.كذلك فقال آدم: فَلِمَ تلومني على شيء كتبه الله علي؟ فانقطعت حجة موسى عليه السلام.

15 / 34
ع
En
A+
A-