أضيف إلى العبد لأنه طرفه كما يضاف إليه اللوم فنسبة الكل إليه عندهم من باب المجاز، فقام وقعد وصلى وصام مثل طال وقصر وأبيض وأسود كما تضاف حركة الشجرة إليها وهي تحرك بتحريك الله تعالى وإرادته من غير تصرف لها في تلك الحركة ولا اختيار .
ومذهب جهم هذا حدث في زمن الظاهرية من بني العباس ظهر بنيسابور ومات قتلاً. وذهبت (النجارية والكلابية) وضرار بن عمرو وحفص الفرد إلى أن جميع أفعال العباد منهم خلق له كسب للعبد فأثبتوا لفعل العبد جهتين كونه خلقاً وكونه كسباً لما رأوا من بطلان قول الجهمية للفرق الضروري بين أفعالنا وألواننا ونحوها لكنهم أثبتوا ما لا يعقل فكانوا أعظم جهلاً من الجهمية. وذهبت الأشعرية إلى الفرق بين المباشر والمتولد فقالوا في المتولد بقول الجهمية وفي المباشر بقول النجارية ومن ذكر معهم، فكانوا أعظم في الجهالة ممن تقدمهم لذهابهم إلى الفرق من غير فارق، وأما متأخروا علمائهم كالجويني والغزالي والرازي وأبي إسحاق الإسفرائيني وقاضيهم الباقلاني فلم يذهبوا إلى شيء من ذلك بل ذهبوا إلى أن قدرة العبد هي المؤثرة لكنهم جعلوها موجبة مقارنة فلزمهم نسبة الأفعال إلى الله لأن فاعل السبب فاعل المسبب. وأما المطرفيَّة فإنهم يقولون: الفعل الموجود في الفاعل من جهته والذي في غيره من (جهة الله) .
والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو مذهب أهل العدل ومن وافقهم أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم بل هي موجودة بإحداثهم وتأثيرهم وإرادتهم أنه يحسن أمرهم ببعضها ونهيهم عن بعض وثوابهم ومدحهم على الحسن منها. وحقيقة الحسن مالا يستحق على فعله الذم فيشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأنت خبير بأنه لا مدخل للثواب في المباح أصلاً ولا فعل المكروه بل في تركه، فإطلاق أنه يحسن الثواب على الحسن لا يخلو من خبط، اللهم إلاَّ أن يكون المراد به المعنى الخاص وهو ما فعله أولى من تركه كالواجب والمندوب فقط فذلك مستقيم ولكن المعنى الأول هو المراد حيث أطلق في هذا الفن وعقابهم وذمهم على القبيح منها. والقبيح له حقيقتان: حقيقية، ورسمية، فالحقيقية هو ما ليس للقادر عليه المتمكن من فعله الإقدام عليه على الإطلاق، والرسمية هو ما إذا فعله من كان قادراً عليه استحق الذم على بعض الوجوه، وقولنا على بعض الوجوه نحترز عن الخطأ وما يصدر عن النائم والساهي من القبائح وكذلك أفعال الصبيان والبهائم وكذلك المسبب للقبيح إذا تراخى عن سببه إذا وقعت التوبة قبل حصوله فإن هذه قبائح ولا يستحق على فعلها الذم. فثبت أن أفعال العباد يتعلق بها الثواب والعقاب والمدح والذم. فلو كانت من الله لما حسن فيها شيء من ذلك كما لم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم، فإذا حسن ثوابهم وعقابهم ومدحهم وذمهم على أفعالهم ولم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم علمنا الفرق بين أفعال العباد وبين الصور والألون ودل ذلك على أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى وذلك متقرر في عقل كل عاقل. دليل ثانٍ: وقوع الفعل بحسب داعي العبد وإرادته وانتفاؤه بحسب صارفه وكراهته ولو كانت منه تعالى ما كانت
فيها هذه القضية فهذان أصلان: والذي يدل على الأول أن الواحد منا إذا دعاه الداعي المكين إلى إيجاد فعل منها حصل منه لا محالة، ومتى كرهه أو منعه منه مانع لم يحصل، والذي يدل على الثاني أن أفعالنا لو كانت من الله تعالى لجرت مجرى الصور والألوان فكما أن صورهم وألوانهم لا توجد بحسب قصودهم ودواعيهم ولا ينتفي بحسب كراهتهم وصوارفهم لما كانت (فعل الله) فكذلك كان يجب في أفعالنا لو كانت منه (تعالى). فلما علمنا الفرق بين الأفعال وبين الصور والألوان دل ذلك على أن أفعالنا منا لا من الله تعالى. دليل ثالث: هو أن أفعال العباد لو كانت من الله لوجب أن يشتق له منها اسماً فيسمى بفعله للظلم ظالماً وبفعله للجور جائراً، كما أنه لما كان فاعلاً للعدل والإحسان سمي عادلاً ومحسناً ولاشك أن من وصف الله تعالى بالظلم والجور فقد خرج عن دائرة المسلمين ودخل في زمرة الملحدين، فبطل إضافتها إلى الله تعالى. وأما ما يتعلق به أهل الكسب فهو تعلق لا طائل تحته وركون إلى غير معقول، وإنما غرضهم بذلك الفرار مما ألزمهم أهل العدل من قبح الأمر والنهي وإنزال الكتب وإرسال الرسل، لأن الأفعال إذا كانت خلقاً لله تعالى لم يحسن إرسال الرسل ولا إنزال الكتب، لأن لهم أن يقولوا إذا كانت أفعالنا خلقاً لله سبحانه فينا فلأي غرض جئتمونا فإرسالكم يكون قبيحاً لأن الله تعالى إن فعلها فينا حصلت وإن لم يفعلها لم تحصل، فلا فائدة حينئذ في إرسالكم إلينا، ثم أنا نقول لهم الكسب لا يخلو إما أن يكون شيئاً خلقه الله أو شيئاً لم يخلقه الله، فإن قالوا هو شيء خلقه الله فقد لحقوا بمقالة الجهمية ولزمهم ما ألزمناهم وإن قالوا هو شيء لم يخلقه الله فقد أثبتوا العبد فاعلاً لشيء لم يخلقه
الله سبحانه وهو الذي نريد، ولأن المعقول من الكسب في لغة العرب هو إحداث الفعل لجلب منفعة إلى الفاعل أو دفع مضرة عنه، ولهذا لم نجز أن يسمى الباري سبحانه مكتسباً لاستحالة المنافع والمضار عليه، فإذا ثبت أن العبد محدِث لفعله بطل ما تعلقوا به من الكسب ووجه إضافته إلى العبد من كل وجه من الوجوه، وقد أضاف الله تعالى أفعال العباد إليهم في كتابه الكريم بمعنى الفعل والخلق والعمل والكسب فقال تعالى{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاَّ الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(آل عمران:135) وقال { وتخلقون إفكاً}(العنكبوت:17) وقال تعالى{وإذ نخلق من الطين كهيئة الطير}(المائدة:110) وقال تعالى{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}(آل عمران:30) وقال تعالى{ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}(المؤمنون:63) وقال {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به برياً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}(النساء:112). فإذا تطابقت الأدلة من العقل والسمع على أن أفعال العباد منهم لم نجز إضافتها إلى الله تعالى، قالوا: قال الله تعالى{والله خلقكم وما تعملون}(الصافات:96) وما مصدرية أي وعملكم.
قلنا: بل هي موصولة ومعناه و خلقكم والحجارة التي تعملونها أصناماً بدليل أول الكلام وهو قوله تعالى{أتعبدون ما تنحتون}(الصافات:95).فثبت بذلك الذي ذكرنا من الأدلة القطعية.مذهبنا أن العباد أفعالهم منهم لا من الله وبطل ما ذهب إليه المخالفون، وأما ما ذهب إليه ابن الولهان من أن فعل المعصية ليس من العبد بل من الشيطان يدخل في العبد فيغلبه على جوارحه ويتصرف بها ،فباطل لأنه لو كان كذلك لم يجز العقاب عليها (لأن ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحداً) وقد قال تعالى{ولا تزر وازرة وزر أُخرى}(الإسراء:15).
تنبيه:
ذهب جهم بن صفوان ومتابعوه إلى نفي القدرة للعبد أصلاً وقال لا قادر إلاَّ الله تعالى، والعقل وصريح القرآن من نحو قوله تعالى{من عمل صالحاً فلنفسه}(فصلت:46) شاهد أن نُكَذِّب قوله.وقالت العدلية وأكثر المجبرة: بإثباتها للعبد،وافترقوا،فقالت العدلية لها ثلاثة أحكام: أولها أنها متقدمة على المقدور وجوباً وأقله يؤقت.وثانيها أنها غير موجبة له بل إنما توجب بها على جهة الاختيار.وثالثها أنها صالحة للضدين ووجود أحدهما دون الآخر باختيار القادر ليس إلاَّ،قالوا: وهذه الثلاثة الأحكام متلازمة فيلزم من القول بأحدها القول بالآخرين.وذهب النجارية إلى العكس فجعلوها مقارنة موجبة غير صالحة .
قلنا: دليل الأول أنها لو قارنت لما تعلق الفعل بالقادر لأنه قبل وجوده غير قادر عليه لعدم القدرة وبعد وجوده لا اختيار له فيه ولا تعلق له به بل إنما يكون تعلقه بفاعل القدرة،وأيضاً فلا يكون إيجاد أحدهما للآخر بأولى من العكس.ودليل الثاني: أنها لو أوجبت مقدورها لزم أمران أحدهما:أن لا يتعلق الفعل بالقادر ولا ينسب إليه البتة بل إنما يتعلق بفاعل القدرة لأنها موجبة له وفاعل السبب فاعل المسبب وكون القادر محلاً للسبب غير موجب تعلقه بمسببه كما في حركة الشجرة فإنها تنسب إلى فاعل سبب التحرك فيها لا إليها نفسها.
فإن قيل: غاية ما يلزمهم القول بالجبر وهو عين مذهبهم الذي يظهرونه ويفتخرون به .
قلنا:تعلق الفعل بفاعله والفرق بين حركة الصاعد والساقط ضروري ومتفق عليه فيلزمهم نفيه وهو بيِّن الاستحالة.وثانيهما:أنه يلزمهم أن لا يكون الكافر قادراً على الإيمان لعدم وجوده منه، وعدم الموجَب يدل على عدم الموجِب وهو مكلف به قطعاً مع عدم القدرة عليه فيكون تكليفه له تكليفاً لما لا يطاق وأكثرهم لا يقولون بجوازه وأكثر من قال بجوازه لا يقول بوقوعه.ودليل الثالث: أنها لو لم تصلح للضدين لجوزنا أن نقدر على حركة يمنة أميالاً وفراسخ دون حركة يسرة شيئاً يسيراً لأن إحدى الحركتين ضد الأخرى والضرورة ترد ذلك وترفعه.واعلم أن العدلية قد اتفقت على انقسام فعل العبد إلى مبتدأ وهو الموجود في محل القدرة ومتولد وهو ما ليس كذلك.واختلفوا في المتولد فالذي عليه الزيدية بأسرهم وجمهور المعتزلة أن فعل العبد وتأثيره كالمبتدأ.
والخلاف في ذلك مع النظام والجاحظ وثمامة بن الأشرس وصالح قبَّة، ثم افترقوا، فمنهم من قال: لا فعل للعبد إلاَّ ما كان مباشراً، وأما المتعدي فليس هو فعل له وهذا قول معمر والنظام وصالح قبَّة، ثم افترقوا، فقال النظام: المتعدي مضاف إلى الله تعالى بواسطة الطبع،وقال معمر إلى الطبع وليس بمضاف إلى الله وعنده أنه لا فعل لله غير المتحيز،ومنهم من قال: لا يفعل العبد سوى الإرادة وما عداها غير متعلق بالعبد وهذا قول الجاحظ وثمامة بن الأشرس، ثم افترقا ، فقال الجاحظ: ماخلا الإرادة فهو حاصل بالطبع،وقال ثمامة: حدث لا محدث له.قال الدواري: واعلم أن المجبرة أحسن حالاً من هؤلاء وأدخل في العذر في نفي الفعل عن العبد لأن المجبرة اعتقدوا قبح اعتقاد أن يكون في الأحياء فاعل ومحدث غير الله تعالى فلم يكن لهم بد من نفي الفعل عن الواحد منَّاوإضافته إلى الله تعالى وهؤلاء اعترفوا بأن العبد محدث لبعض الأفعال فلا معذرة لهم في نفي غيرها عن كونهم محدثين لها،والدلالة على أن العبد محدث للجميع واحدة والطبع الذي جعله الجاحظ مؤثراً وجعله النظام واسطة وهو غير معقول، فإن أرادا به الاعتماد كان كقولنا ويلزمهم أن لا يجوز القصاص ولا العقاب إلاَّ على الإرادة على قول الجاحظ وثمامة أو المباشر على قول النظام ومعمر،وإن سلم لزم استواء عقاب من قتل زيداً وعقاب من أراد قتل عمرو والاقتصاص منهما،وكذلك يلزم استواء من قتل بالمتعدي ومن فعل فعلاً مباشراً ولم يقتل به وذلك باطل.
المسألة الثالثة عشرة ((أن الله لا يقضي بالمعاصي))
أنه لا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي من قضاء الله وقدره وإنما جعلت هذه من مسائل العدل وإن كان المراد بباب العدل بيان ما يحسن من الباري ويقبح وهذه مما يقبح منَّا إطلاقه لتضمنها أن الباري غير خالق للمعاصي ولا أمر بها وسائر أفعالنا حكمها أنه غير خالق لها ولا أمر ببعضها،وخالفت المجبرة وجوَّزت إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله وقدره بل لهجهم بذلك وتقحمهم عليه كثير، والدليل على مذهبنا وفساد ما ذهبوا إليه، أن القضاء والقدر لفظتان مشتركتان بين معانٍ،فالقضاء بمعنى الخلق والتمام قال تعالى{فقضاهن سبع سماوات في يومين}(فصلت:12) معناه أتم خلقهن،وبمعنى الإلزام قال تعالى{وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه}(الإسراء:23) معناه أمر وألزم،وبمعنى الإخبار والإعلام قال تعالى{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً}(الإسراء:04) معناه أخبرنا وأعلمنا،فهذه ثلاثة معانٍ.والقدر له ثلاث معانٍ أيضاً بمعنى الخلق قال تعالى{وقدَّر فيها أقواتها}فصلت:10) معناه خلق فيها أقواتها،وبمعنى العلم قال تعالى{يُنزل بقدَر ما يشاء}(الحجر:21) وقال تعالى {إلاَّ امرأته قدرناها من الغابرين}(الحجر:60) معنى ذلك علمنا من حالها،وبمعنى الكتابة وفي الأساس بمعنى الإعلام قال العجاج:
واعلم بأن ذي الجلال قد قدر في الصحف الأولى التي كان سطر
أمرك هذا فاجتنب منه التبر
بمعنى الهلاك ويروى النتر بالنون والتاء فيكون معناه الفساد.
قال في الأساس: وبمعنى الأجل قال تعالى{إلى قدر معلوم}(المرسلات:22) وبمعنى الحتم قال تعالى{وكان أمر الله قدراً مقدوراً}(الأحزاب:38) ودليل اشتراك القضاء والقدر في معانيهما المذكورة انهما إذا أطلقنا لم يسبق إلى فهم السامع بعض معانيهما دون بعض إلاَّ بقرينة وهذه علامة الاشتراك، وإذا ثبت اشتراك كل واحد منهما بين كل من معانيه فنحن نقطع بأن بعض هذه المعاني صحيح وبعضها فاسد إطلاقه على الباري خطأ،فإذا أطلقناهما مع ثبوت ذلك قطعنا على أن إطلاقهما يوهم المعنى الفاسد وهو أنه تعالى خلقهما كما تقوله المجبرة، وذلك أصل قد أبطلناه فلا ثبوت له حينئذٍ ولا يجوز القول به، لأنَّا قد بيَّنا بالدليل القطعي فيما مرَّ أن العباد أفعالهم منهم وحدوثها على حسب دواعيهم وانتفاؤها على حسب صوارفهم لا منه تعالى.