غاية ما يلزم أنه لا يكون في الآية دليل على نفي إدراكه لنفسه صريحاً وإنما نفى أن يدركه أهل الأبصار فقط لكنه يلزم من ذلك نفي إدراكه لنفسه لأن كل من قال أنه لا يدركه غيره قال بأنه لا يدرك نفسه. ومما يدل على ما ذهبنا إليه أيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}(الأعراف:143) فإنه نفى الرؤية والنفي بلن يقتضي التأبيد وأيضاً فإنه علق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل ومعلوم أن الجبل قد تدكدك ولم يستقر فكأنه علق الرؤية باستقراره وقت تدكدكه وهو محال وما علق بالمحال كان محالاً، وأما سؤال موسى عليه السلام فلم يكن لنفسه فإنه أعلم الناس بالله وبصفاته وإنما سؤاله لقومه لكي يحصل لهم من الأدلة السمعية ما يعلمون به أنه تعالى لا تصح رؤيته وإنما نسبها إلى نفسه ليكون ذلك أبلغ في الدلالة (على أنه) تعالى لا يُرى وتوبته إنما كانت عن سؤاله بحضرتهم ولم يكن للنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل ذلك قبل الاستأذان.
ويدل على ما ذهبنا إليه من السنة: ما روي بالإسناد الموثوق به إلى جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنكم لن تروا الله في الدنيا ولا في الآخرة) وروي عن عائشة أنها سئلت هل رأى محمد ربه؟ فقالت: يا هذا لقد قَفَّ شعري مما قلت، ثلاثاً من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل إلى غير ذلك. احتجت الأشعرية وضرار بقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظره}(القيامة:22،23) والمراد بالأول مشرقة من النضارة وهي الحسن وبالثانية رائية. وقوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(يونس:26) والزيادة هي الرؤية على ما جاء في بعض الأحاديث. وقوله تعالى{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}(المطففين:15) والمراد بها الكفار فمفهومها أن المؤمنين غير محجوبين وهو معنى الرؤية، وفي الحديث(سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر) وفي بعض الأخبار(لا تضامُّون في رؤيته) بتشديد الميم وتخفيفها قالوا وهذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول.
والجواب: أنَّا قد بينا بالأدلة القطعية التي لا يدخلها التشكيك والاحتمال أن الباري
لا تصح رؤيته في حال من الأحوال وما استدللتم به مما يدخله الاحتمال قطعاً وذلك هو المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم واعتمادكم على المتشابه دليل على حصول الزيغ في قلوبكم مع أنكم أيها المجبرة تعتقدون أن الله سبحانه (وتعالى يفعل) ما يشاء من فنون القبائح وهي غير قبيحة منه لأنه غير مربوب ولا منهي فلا تأمنوا أن تكون هذه الآيات التي هي شبهة لكم كذباً اخترعه تعالى وليس بقبيح منه فاستدلالكم بالسمع الذي لا طريق له سواه بزعمكم مبني على قاعدة منهارة وهي عدم القول بالعدل والحكمة ونحن نريكم كيفية رد حججكم إلى الأدلة القطعية.
فنقول: معنى قوله تعالى{إلى ربها ناظره}أي منتظرة لثوابه إذ الانتظار أحد معاني النظر كما مرَّ وهذا التأويل يروى عن علي عليه السلام وعن مجاهد وأبي صالح والحسن البصري وغيرهم وقد جاء الانتظار متعدياً بإلى في صحيح الكلام كقول حسان:-
وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن يأتي بالخلاص
وأيضاً فإن من معاني النظر الحقيقية تقليب الحدقة اتفاقاً بيننا وبينكم فإذا أمكن الحمل عليه فهو الأولى والمحققون منكم حملوه هنا على الرؤية لا تقليب الحدقة وقد أمكن حمله على الحقيقة لكن على تقدير مضاف محذوف إلى ثواب ربها ناظرة وحذف المضاف كثير في القرآن وغيره نحو((واسأل القرية)) وهذا التأويل مروي عن (أمير المؤمنين) علي عليه السلام أيضاً وعن ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة وغيرهم سلَّمنا فهي ظنية لحصول هذه الاحتمالات، وما نحن فيه يحتاج إلى قطعي، ومعنى الزيادة في قوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}غرفة في الجنة لها أربعة أبواب وتلك الغرفة من لؤلؤة كما قد روي وهو المناسب، لأن الزيادة تجب أن تكون من جنس المزيد عليه والرؤية ليست جنساً للحسنى، ولهذا نقول شريت كذا حريراً وقطناً وزيادة يعني على ذلك العدد من ذلك الجنس فإن أراد غيره قال وشيء آخر، وأما قوله تعالى{إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبين}فمعناه محجوبين عن رحمة الله وثوابه والمؤمنون غير محجوبين عن ذلك وأيضاً فدلالتها على ما ادعيتم من باب المفهوم وهو منازع في الأخذ به في فروع الفقه فضلاً عن أصول الدين. ومن شبههم قوله تعالى{تحيتهم يوم يلقونه سلام}(الأحزاب:44) واللقاء الرؤية ولا دليل على ذلك لأنك تقول رأيت فلان وما لقيته، ونقول لقي الضرير الأمير وما رآه، فيكون المعنى يوم يلقون ثوابه وملائكته كما حكى الله تعالى في قوله{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}(الرعد:23،24) وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم(سترون ربكم يوم القيامة…الخبر) فنقول هذا الخبر مقدوح في روايته لأنه مسند إلى قيس بن أبي حازم وقيس يرويه عن جرير بن عبدالله البجلي
وكلاهما مطعون في دينه، أما جرير فيروى أنه كان يخون أمير المؤمنين (علي) عليه السلام ويكتب بأسراره إلى معاوية وقال ليس علي من أوليائي إنما وليي الله ورسوله وصالح المؤمنين ثم لحق بمعاوية بعد ذلك. وأما قيس فيروى أنه كان يرى رأي الخوارج ويقول دخل بغض علي في قلبي، ومن دخل بغض علي في قلبه فأقل منازله أن تطرح رواياته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يبغضك إلاَّ منافق) وقد قيل أنه مختل الضبط لأنه خولط في عقله في آخر مدته، يروى أنه كان محبوساً فكان يقرع الباب بيده فإذا صوَّت الباب ضحك، وقيل أنه كان يسأل الدراهم ليشتري بها عصياً ليضرب بها الكلاب ولعله روى هذا الخبر في هذه الحال. وإن سلَّمنا صحته قلنا: أنه ظني لا يصلح حجة فيما نحن فيه ولا يقوى على معارضة الأدلة القطعية التي تقدمت مع أنه يحتمل التأويل بأن يقال معناه ستعلمون لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم كما قال تعالى{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}(الفرقان:45) وقال تعالى{أولم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة}(يس:77) وقال الشاعر:
رأيت الله إذ سمّى نزاراً وأسكنهم بمكة قاطنين
ولم يتعدَّ إلى مفعولين لأنه بمعنى المعرفة فيكون معنى الحديث ستعرفون ربكم، فثبت ما قلناه واندفعت شبهة المخالفين.
المسألة العاشرة ((أن الله تعالى واحد))
أنه يجب على المكلَّف أن يعلم أن الله تعالى واحد. الواحد في أصل اللغة يستعمل بمعنى واحد العدد يقال واحد اثنان. قال الدواري: وبمعنى أنه لا يتجزأ كما يقوله في الجوهر أنه واحد على معنى أنه لا يتجزأ. وفي عرف اللغة بمعنى المنفرد بصفات الكمال على حد تقل مشاركته فيها،ولا يجوز أن يطلق على الباري تعالى أنه واحد على معنى أنه واحد العدد لأنه يقتضي أنه من أعداد وهو من جنسهم وذلك لا يجوز عليه تعالى،ولهذا قال علي عليه السلام في وصف الله تعالى واحد لا بعدد،ولا يجوز أن يطلق على الباري أنه واحد بالمعنى العرفي لأن معناه ثبوت مشارك ولا مشارك له عز وجل،ويطلق على الباري أنه واحد بمعنى أنه متفرد بصفات الإلاهية لا ثاني له يشاركه في القدم والإلاهية،والمعنى في ذلك أي حد الواحد في اصطلاح المتكلمين أنه منفرد بصفات الكمال وهي كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع أعيان المعلومات،حياً قديماً لم يزل ولا يزال على حد لا يشاركه فيها غيره على الوجه الذي استحقها وهو للذات بواسطة أو لا واسطة، وعلى قول الأئمة وأبي الحسين والشيخ محمود: القدر الأخير مغير للمعنى إذ لا كلام لهم في الاستحقاق كما مرَّ.والقول بأن الله تعالى واحد لا إله غيره هو مذهب جميع أهل الإسلام العدلية والجبرية إذ لا يقول أحد منهم بأن معه تعالى قديماً مستقلاً،واختلافهم إنما هو في قديم غير مستقل، فعند أهل العدل لا قديم معه مطلقاً،وعند المجبرة معه قديم
غير مستقل وهي المعاني كما مرَّ لهم وقد تقدم بطلان مقالتهم.
والخلاف في ذلك مع فرق ست وهم الثنوية، والمجوس، والنصارى، والمطرفية، والباطنية، والفلاسفة.
أما الثنوية: وسموا ثنوية لقولهم بإلاهين اثنين فإنهم يقولون بأن النور والظلمة صانعان للعالم قديمان، وإن النور مجبول على الخير لا يقدر على فعل الشر، والظلمة مجبولة على الشر لا تقدر على فعل الخير، فإنهما امتزجا فحصل منهما العالم، وأن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل.
وأما المجوس: فإنهم يقولون: بأن العالم له صانعان يسمون أحدهما يزدان والثاني إهرمن وأن جميع ما في العالم من الخير وهو ما تشتهيه النفوس فهو من يزدان، وما وقع فيه من الشر فهو من إهرمن، والشر عندهم ما تنفر عنه النفوس، والمشهور عنهم أنهم يعبرون بيزدان على الباري ويعتقدونه كما نعتقده، وبإهرمن عن الشيطان ويعتقدونه كما نعتقده، ثم منهم من قال: هما جسمان، ومنهم من قال: ليسا بجسمين، ومنهم من قال يزدان جسم دون إهرمن، ومنهم: من عكس، ثم اختلفوا في إهرمن، فمنهم من قال إنه قديم، ومنهم من قال: إنه محدث، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: حدث من عفونة كانت مع يزدان، والعفونة هي المزبلة، ومنهم من قال: حدث من فكرة ردية ليزدان وذلك أن يزدان لمَّا استتب له الأمر نظر فقال: لو كان معي منازع كيف كانت الحال فحدث إهرمن من ذلك وقال: أنا منازعك ومخاصمك فاقتتلا قتالاً شديداً ثم تهادنا بعد ذلك على أن يقيم الشيطان في الأرض مدة معلومة، قالوا: ونحن الآن في تلك المدة. واختلفوا إذا انقضت المدة، ماذا يكون؟ ولهم في ذلك خرافات طويلة.
وأما النصارى: فعندهم أن الله تعالى جوهر على الحقيقة ثلاثة أقانيم على الحقيقة، أقنوم أب وهو ذات الباري، وأقنوم الابن وهو الكلام وقبل العلم، وأقنوم روح القدس وهو الحياة، فالآخر هو الرابط بين الأولين وقالت فرقة منهم إن أقنوم الابن اتحد بالمسيح فصارا ذاتاً واحدة، أي صار جوهر اللآهوت وجوهر الناسوت شيئاً واحداً، ثم اختلفوا هؤلاء في هذا الاتحاد فمنهم من قال : اتحد به وحدة نوعية، ويقولون: إن جوهر اللآهوت دخل في جوهر الناسوت واتخذه له هيكلاً،وربما قالوا: إن جوهر اللاهوت ادرع جوهر الناسوت كما يدرع الدهن السمسم، ومنهم من قال: اتحد به وحدة حقيقة أي صار الجوهران جوهراً واحداً وهؤلاء هم اليعقوبية منهم، وقد يحكى عنهم إطلاق أنه سبحانه اتحد بالمسيح من غير تخصيصه بأقنوم الابن، وبعضهم يجعل هذا الاتحاد اتحاد مشية بمعنى أن إرادتهما وكراهتهما صارت واحدة وهما مختلفان من جهة الذات فجوهر الناسوت غير جوهر اللآهوت وهؤلاء هم بعض النسطورية منهم.
وأما المطرفية: فمذهبهم أن الله تعالى أربعين اسماً وأنها قديمة وكل اسم هو ذاته،فمقتضى كلامهم أنه أربعون فقد زادوا على النصارى في الإحالة،قال بعض أهل العدل وقيل أنه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام فعلى هذا أن كل مطرفي ثلاثة عشر نصرانياً وثلث لأن النصراني يقول أنه واحد ثلاثة، ومقتضى كلام المطرفية أنه واحد وأربعون.
وأما كلام الباطنية والفلاسفة: فإنهم يقولون بالعلة القديمة التي هي الرب عندهم والنفوس القديمة والعقول القديمة والأفلاك القديمة على ما تقدم، فمقتضى كلامهم أن في القدم مع العلة التي هي الرب عندهم ثمانية وعشرون قديماً. فهذي حكاية أقوال هذه الفرق الضالة التي افترت على الله الكذب وهذا كله وإن كان شغلاً للأوراق إلاَّ أنَّا قصدنا بذلك التنبيه على عقائدهم الفاسدة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والدليل على صحة مذهب أهل الإسلام أنه تعالى واحد لا ثاني له أنه لو كان له ثانٍ قديم وجب أن يشاركه في سائر صفات الإلاهية وهي كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع أعيان المعلومات، حياً لم يزل إذ القدم صفة ذاتية لأنا قد بينا أن الشيئين متى كانا مثلين كانا قد اشتركا في صفة ذاتية كالسوادين فإنهما إنما كانا مثلين لاشتراكهما في كونهما سوادين ويجب اشتراكهما في سائر الصفات الذاتية. إذ لو اشتركا في صفة ذاتية وافترقا في صفة أخرى ذاتية لكانا مثلين مختلفين لاشتراكهما فيما يقتضي التماثل ويقتضي الاختلاف وذلك محال، فثبت أنه تعالى لو كان له ثانٍ قديم وجب أن يشاركه في صفات الذات الذي قدمنا ووجب أن يكون مثلاً له فهذا أصل أول.
الأصل الثاني: أنه لا يجوز أن يكون له تعالى مثل وإلاَّ لصح بينهما الاختلاف والتمانع لأنه كما لا يمتنع أن يتفق مرادهما لا يمتنع أن يتضادا، لأن من حكم كل كفوين قادرين صحة اختلافهما وتمانعهما وإنما صح ذلك بينهما لكونهما قادرين، فإذا صح ذلك في الشاهد لم يمتنع مثله في الغائب، وكان يجب إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه في حال واحد أن لا يخلو الحال من ثلاثة أقسام: إما أن يحصل مرادهما معاً فيكون الجسم متحركاً ساكناً في حالة واحدة وذلك محال ، وإما أن لا يحصل مرادهما معاً فيخلو الجسم من الحركة والسكون وذلك محال أيضاً، وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فمن حصل مراده فهو الإلاه القديم ومن تعذر مراده فهو عاجز ممنوع والعجز والمنع لا تجوزان إلاَّ على المحدثات والحدوث يبطل الإلاهية كما مرَّ، والقول بالقديم الثاني قد أدى إلى هذه المحالات فيجب القضاء بفساده، وأيضاً لو كان له تعالى ثانٍ لرأينا آثار صنعه كالباري تعالى ولأتتنا رسله ولم يقع شيء من ذلك، فهو إما لعدم الآلهة إلاَّ الله فهو الذي نريد أو الاضطرار إلى المصالحة أو لقهر الغالب المغلوب، وأيما كان فهو عجز والعجز لا يكون إلاَّ في المخلوقين، وقد دل السمع الكتاب والسنة والإجماع على الوحدانية، قال تعالى{لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفسدتا}(الأنبياء:22) وفي الآيات دلالة على أنه لو كان له ثانٍ لتمانعا ومثلها قوله تعالى {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض}(المؤمنون:91) وقال تعالى {وما من إله إلاَّ إله واحد}(المائدة:73) وقوله تعالى{قل هو الله أحد}(الإخلاص:01) وقوله تعالى{الله لا إله إلاَّ هو}(البقرة:255) وقوله