وأيضاً (فإنَّ النبي ً كان يدين بذلك ويخبر به، وهو ً لا يدين إلا بالحق، ولا يخبر إلا بالصدق، وذلك معلوم ضرورة عند كل من عرف النبي ً وآثاره وروى أخباره)، فإنه كان يعتقد ويرى أن القرآن الذي أتى به هو كلام الله تعالى دون أن يكون كلاماً له ً أو لغيره من المتكلمين، ويخبر الناس بذلك، واستمر على هذا إجماع المسلمين بعده ً إلى أن حدث مذهب هذه الطوائف.
(و) أيضاً فـ(قد قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ})[التوبة:6] ولا شك أن الكلام المسموع هو القرآن، قالوا: ذلك مجاز، قلنا: هَلُمَّ الدليل، فالأصل في الإطلاق الحقيقة، ولو سلم جُعِل للتفاسير ما له من الأحكام؛ إذ هي عبارة عنه ولا قائل به.
قالوا: لو لم يكن متكلماً فيما لم يزل بكلام قديم أو لذاته، لكان أخرساً أو ساكتاً كالشاهد.
والجواب: أن المرجع بالخرس إلى فساد آلة الكلام وبالسكوت إلى تسكينها عنه.
وأيضاً فإذا اعتُمدَ على الشاهد في ذلك فمعلوم أنَّ الشاهد إذا لم يكن متكلماً بهذه الحروف والأصوات كان أخرساً أو ساكتاً، فيلزم إذا لم يكن الباري متكلماً فيما لم يزل أن يكون أخرساً أو ساكتاً.
وأما قول غير الأشعرية فهو أجدر بالضعف من مقالتهم ولا نحتاج في رده إلى تكلف؛ إذ هو من التمحلات التي لا دليل عليها، والله أعلم.
(المسألة التاسعة عشرة: في أن هذا القرآن الذي هو كلام الله تعالى محدث).
ولا شك أنا إذا قلنا: القرآن محدث، فإنما نريد به هذه الأصوات والحروف المتلوة في ألسنة الناس.
فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته، فضلاً عن أن نقول فيه بقدم أو حدوث، وأهل التمييز من المجبرة لا يكلمونا في ذلك؛ لأنهم يعرفون بحدوث هذا الذي نتلوه، ولكنهم يدَّعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير هذا الذي نسمعه، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي وقد تقدم.

وأما غير المميزين كالكرامية والحنابلة وبعض أهل الحديث، فيعترفون بأن القرآن هو هذه الحروف والأصوات المسموعة، ويدعون أنه قديم، (والذي يدل على) بطلان قولهم في (ذلك) من جهة العقل: (أنه مرتب منظوم في الوجود يوجد بعضه في أثر بعض)، فوجب القطع بأنه محدث، (و) ذلك لأن (المرتب على هذا الوجه يجب أن يكون محدثاً وذلك ظاهر)، فإن الألف من الحمد متقدم على اللام، واللام على الحاء وكذلك سائره، وكل ما تقدمه غيره فهو محدث، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقات محصورة فهو محدث، (وقد) جاء بتأييد ذلك الكتاب، فـ(قال تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون})[الأنبياء:2] (و) مثله ما (قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ})[الشعراء: 26] ولا شك أن المراد بالذكر القرآن بدليل: { إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون}، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9] وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}[الأنبياء: 21]، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}[يس: 69]، ومثل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف:44] وغير ذلك، والسبب في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم} الآية، يشهد بذلك؛ لأنهم كانوا يلعبون ويلغون عند نزول القرآن وتلاوته، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}[الزمر:23] فوصفه بأنه منزل، والقديم لا يصح عليه النزول، ووصفه بالحسن والحسن من صفات الأفعال، ووصفه بالحديث، والحديث نقيض القديم باعتبار أصل وضعه، وإن كان المراد به في الآية الكلام، لكنه لم يسم حديثاً إلا لكونه محدثاً فيدل على حدوثه، وقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}[الأحقاف:12] رداً على الذين قالوا: هذا إفك قديم. وما كان قبله غيره فهو محدث.

قالوا: قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] قالوا: فإن كان قوله: كن قديماً فهو المطلوب، وإن كان محدثاً احتاج إلى كُنْ آخر فيتسلسل.
والجواب: لاشك أن لفظ (كن) حرفان يتقدم بعضهما على بعض ويعدم ثاني وجودها وذلك لا يتأتى في القديم.
وأيضاً فالآية على مذهبنا أدل؛ لأنه تعالى أخبر بأنه إذا أراد شيئاً قال له كن، وإذا للشرط والشرط إنما يدخل في المستقبل، فيجب أن تكون الإرادة حادثة وأن يكون لفظ (كن) مقارناً لها.
قالوا: القرآن يشتمل على أسماء الله تعالى، والاسم هو المسمى، فيجب أن يكون القرآن قديماً، واستدلوا على أن الاسم هو المسمى بقوله تعالى: {سبح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1] وكذلك فأحدنا يقول: طلقت زينب وأعتقت سعداً، والطلاق إنما يقع على الشخص المسمى، وكذلك إذا حلف أحدنا فقال: والله وبالله، ويقول باسم الله، قال الشاعر:
إلى الحول ثم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
والجواب: لو كان الاسم هو المسمى لكان إذا ذكر أحدُنا النار احترق فمه، قال:
لو أن من قال ناراً أحرقت فمه ... لما تَفَوَّه باسم النار مخلوق
بل الاسم عبارة عن اللفظ الموضوع للمسمى، فهو غير المسمى، مثاله: رجل، فالاسم عبارة عن هذا اللفظ، وهذا اللفظ هو عبارة عن مسماه المعروف.
وأيضاً فلو كان الاسم هو المسمى، فمعلوم أن لله أسماءً كثيرةً مختلفة وكان يجب أن يتعدد بتعدد أسمائه لاختلافها.
وأيضاً فالقرآن عندهم قائم بذات الله تعالى، وأسماء الله من جملة القرآن فيجب أن يكون الله من جملة القرآن حتى يكون أمراً ونهياً، وهذا واضح السقوط.

(المسألة العشرون: في النُّبُوة)
والنبوة: فعولة فحروفها أصول إلا الواو الأولى، والنبوة مصدر، فإن هُمِزَتْ فهي بمعنى الإنباء؛ لأن النبي مخبر عن الله، وإن لم تهمز فهي من النبو نبا المكان ينبو إذا ارتفع.
وحقيقة النبوة: تحمل إنسان لما يتحمله عن الله إلى الخلق من غير واسطة بشر.
قلنا: تحمل الإنسان، احترازاً من تحمل الملائكة إلى الأنبياء فلا تسمى نبوة، وقلنا: من غير واسطة احترازاً من العلماء، فإنهم وإن تحملوا عن الله تعالى إلى الخلق ولكن بواسطة بشر، هم الأنبياء.
ولا فرق عند أصحابنا بين الرسول والنبي، والخلاف في ذلك معزوٌ إلى الحشوية وإلى الإمامية والزمخشري وقاضي القضاة قالوا: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ}[الحج:52] والعطف يقتضي المغايرة.
قلنا: لا يدل على المغايرة كما في قوله تعالى: {وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}[البقرة:98] لأن اللفظين إذا اختلفت فائدتهما من وجه صح عطف أحدهما على الآخر للتأكيد، وإن كان معناهما واحد في الحقيقة، ولفظ النبي يفيد الرفعة بنفسه، ولفظ الرسول يفيدها بواسطة لحمله الرسالة وصبره على المشاق فيها.
واحتجوا أيضاً لما رُوي عنه ً أنه سئل عن الأنبياء؟ فقال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشرة)) وفي رواية: ((ثلاثمائة وثلاثة وستون))، فإن الخبر آحادي، والمسألة قطعية.
فإن قيل: ما الدليل على صرف العطف عن ظاهره، فإن ظاهر العطف هو تغاير الذوات فقد عدلتم عن الظاهر فَهَلُمَّ الدليل.
قلنا: لا نسلم أن العطف ظاهر في ذلك، بل وفي التغاير في الصفات سلَّمنا، فالذي صرف عن الظاهر هو الدليل العقلي، وهو أنه إذا نبَّأ الله نبياً لا يمكن أن يدل على نبوته إلا بالمعجزة إذ لا طريق إليه غيرها، ولا بد إليها من طريق وإلا كانت النبوة عبثاً، والنبي لا بد فيه من معنى الإرسال ولا يصح أن يكون رسولاً إلى نفسه، ولا يتصور فرقٌ بينه وبين الأفاضل من أمته أهل وقته إلا بكونه يُوحى إليه ويظهر المعجز علي يديه ويهتدي إلى مالا يهتدي إليه غيره ويهدي إليه.

فقول الحشوية إنه يسمى بعض الأشخاص نبياً من غير وحي ولا معجزة ولا شريعة متجددة ولا إحياء مندرسة بل يفارق سائر البشر بالتنويرات والإلهامات، باطل لما ذكرنا، وكذلك ما قاله الزمخشري وقاضي القضاة: إن النبي مَن بعث لتقرير شريعة جاء به غيره وإحيا ما اندرس منها كيوشع وأكثر أنبياء بني إسرائيل المقررون لشريعة موسى المجددون لمندرسها.
فإنا نقول: إن أُوحيَ إليهم بها من غير واسطة بشر كما أوحي إلى موسى فلا فرق بينهم وبين موسى، وإلا كانوا كغيرهم، والله أعلم.
واعلم: أن المهم المقصود من هذا الباب، والقطب الذي يدور عليه رحى الكلام في النبوات: هو (أنَّ محمداً ً نبي صادق)، فإن هذه المسألة أصل للقواعد الشرعية، وعمدة مسائل أصول الدين بعد معرفة توحيد الله وعدله، وعليها مدار العلم بجميع أنبياء الله وملائكته وأحوال الآخرة وجميع التكاليف العلمية إلا ما قضى به العقل منها قضية مطلقة، ولهذا ينبغي أن ترمق إليه عيون الجِد، وسَنَفرِغُ في الاطلاع على حقائقه بقدر المختصر فنقول:

واعلم: أن جميع من يثبت الصانع يقول بنبوة نبينا ً إلا اليهود والنصارى، والمجوس والبراهمة، وعُبّاد الأوثان والنجوم، فإنهم أنكروا نبوته ً إلا فرقة من اليهود نسبوا إلى البَلَه فإنهم يقولون: هو رسول إلى العرب فقط، وإنما نسب هؤلاء إلى البله لكونهم اعترفوا بأنه رسول، والرسول صادق في الذي جاء به، وقد جاء بأنه رسول إلى الناس كافة فلا بد من تصديقه، ووجه كونه ليس بنبي عند اليهود قيل: لأنه جاء بنسخ الشرائع، وقال بعضهم: لأنه ليس له معجز، (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح: (أنَّ المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة)، قيل: والمعجز هو مالا يطيقه بشر ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء، سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام، أم لا، كحنين الجذع، وقيل: هو الفعل الناقض للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة، وهذا الحد أولى لدخول الكرامات في الحد الأول كنزول المطر عند دعوة الأولياء ونحو ذلك، (وكل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبي صادق)، فهذان أصلان، (والذي يدل على) الأصل الأول وهو: (أن المعجز ظهر على يديه عقيب دعوى النبوة أنه)، جاء بمعجزات كثيرة قد دونت فيها أسفار عديدة و(جاء) من جملة ذلك (بالقرآن) وهو المعجز العظيم ولذلك فالمؤلفين يُقَدِّمونه على سائر المعجزات؛ لأنه أوقع في النفوس، وأوضح في الدلالة لوجوهٍ لا يعقلها إلا العالمون، (و) لماَّ جاء بالقرآن (جعله معجزاً له، ولم يسمع من غيره) قبله (وتحدى به فصحاء العرب) وقرعهم بالعجز عن ذلك (ولم يأتوا بشيء من ذلك) الذي تحداهم به، (وإنما لم يأتوا به لعجزهم عنه، فوجب أن يكون القرآن معجزة ظاهرة على يديه عقيب دعوى النبوة)، فهذه ثمانية أصول.
أما كونه -عَلَيْهِ السَّلامُ- إدعى النبوة فلا شك أنه معلوم ضرورة لجميع المكلفين.

وأما أنه أتى بالقرآن ولم يسمع من غيره، وجعله معجزة له، فإنه يعلمه كل مكلف مع البحث والمخالطة لأهل العلم أو من يتصل بهم، أو الإقامة في أمصار المسلمين وهِجَرِهم، وليس كالأول إذ من المعلوم جهل كثير من المسلمين بذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الله بعث نبياً وأظهر القرآن فقتله محمد ً وادعى النبوة لنفسه؟
قلنا: لو أجزنا ذلك لما وثقنا بنسبة شعر الشعراء وخطب الخطباء، ولا وثقنا بنبوة نبي قط ولا شيء من الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، ثم كيف يبعث الله نبياً ثم يمكن غيره منه قبل التبليغ.
وأيضاً فقد ظهر عليه -عليه الصلاة والسلام وعلى آله- غير القرآن من المعجزات مما يدل على أن القرآن معجز له.
وأما الأصل الخامس: وهو أنه تحدى العرب بالإتيان بمثله وقرعهم بالعجز عن ذلك، (فإنه معلوم ضرورة).
أيضاً لكن (لمن كان له أدنى فحص وتفتيش ممن عرف أحواله -عَلَيْهِ السَّلامُ- وسِيَره وسمع أخباره علم بالتواتر أنه كان يغشى مجامع العرب ومشاهدهم ويتلوه عليهم ويحدثهم به) ويلتمس منهم المعارضة، (والأمر في ذلك ظاهر)
(والقرآن) أيضاً (مشحون بآيات التحدي) قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34] ثم أنزلهم مرتبة ثانية فقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13] ثم أنزلهم مرتبة ثالثة فقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] ثم أخبر أنهم لا يأتون بشيء مما تحداهم به حتى (قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا})[الإسراء:88].
فإن قيل: ما أنكرتم أنه إنما كان التحدي عن المشركين لئلا يعارضوه؟

قلنا: نحن نعلم أنها نقلت على حد نقل القرآن، فلو جوزنا في بعض الآيات أنها كتمت لجوَّزنا في سائرها، وأيضاً فالتحدي شامل للمشركين والمؤمنين، فلو علم المؤمنون شيئاً لنفروا عنه.
وأما الأصل السادس: وهو أنهم لم يأتوا بشيء مما تحداهم به فذلك ظاهر أيضاً، فإنه لو عورض لوجب أن يكون اشتهار المعارضة أولى من اشتهار القرآن؛ لأن القرآن يصير كالشبهة وتلك المعارضة كالحجة، ومتى كان الأمر كذلك كانت الدواعي متوفرة إلى إسقاط أبَّهة المدعي وإبطال رونقه وكان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل.
وأما الأصل السابع: وهو أنهم إنما لم يعارضوه (فلم يأتوا بمثله لعجزهم عنه؛ لأن دواعيهم كانت متوفرة إلى معارضته ليبطلوا به نبوته) ولا صارف لهم عن ذلك وكانوا يعلمون أنَّ أمره يبطل بالمعارضة فلو قدروا عليها لفعلوها.
أما أن دواعيهم كانت متوفرة إلى إبطال أمره عليهم فذلك لا يشتبه على عاقل، فإنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- ادعى الرئاسة عليهم في الدنيا والآخرة فيما يتصل بالنفس، كإقامة الحدود من قتل وغيره وإتعابها في طاعته والجهاد معه ونحو ذلك، وفي المال كأخذ الحقوق والاستعانة ونحو ذلك، وادعى أنه على الحق وهم على الباطل، وسفه أحلامهم وسبَّ آلهتهم، ووعدهم وأوعدهم، ولا شيء أعظم من هذه الأشياء في تحريك طباع البشر.
ودعائهم إلى إبطال أمره لا سيما العرب، فإنَّ لهم من الحمية والأنفة ماليس لغيرهم من الأمم.
وأما أنه لا صارف لهم عن ذلك، فلأنه إن كان صارف دين، فليس من الدين ترك المعارضة؛ لأنها تميز الحق لهم من الباطل لا سيما وعندهم أنهم كانوا على الحق، وإن كان صارف دنيا من رغبة أو رهبة فذلك باطل؛ لأنه كان -عَلَيْهِ السَّلامُ- فقيراً مضطهداً.

وأما أنهم كانوا يعلمون أن أمره -عَلَيْهِ السَّلامُ- يبطل بالمعارضة؛ فلأنه -عَلَيْهِ السَّلامُ- قد كان يصرح بذلك، ولأن كل عاقل يعلم أن كل من ادعى التميز على غيره لمكان أمرٍ يأتي به فإن دعواه تبطل عند الإتيان بمثل ما أتى به.
وأما أنهم لو قدروا على المعارضة لفعلوها؛ فلأنا نعلم بالضرورة أنَّ من توفرت دواعيه إلى الشي، ولا صارف له عنه، وغير ممنوع منه، وهو قادر عليه فإنه يمنعه لا محالة حتى إن لم يفعله، فإنه غير قادر عليه.
فإن قيل: إنهم اشتغلوا عن المعارضة بالقتال؟
قلنا: ليس أحد من العقلاء يؤثر الأمر الصعب على الأمر السهل، (فلما عدلوا إلى المحاربة الشاقة الصعبة التي لا تدل على صحة صحيح ولا بُطلان باطل، دل ذلك على عجزهم عن معارضة القرآن فثبت) بتقرير هذه الأصول (أنه معجز دالّ على نبوة النبي ً)، وهذا هو الأصل الثامن، وذلك لحصول حقيقة المعجز فيه، وهو كونه ناقضاً لعادتهم في الفصاحة ومتعلقاً بدعوى النبوة، وبهذا التقرير تم الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني: وهو أن كل من ظهر المعجز على يديه عقيب دعوى النبوة فهو نبيٌ صادق، وذلك لأن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول لمن ظهر على يديه، وتصديق الكاذب كذب، والكذب قبيح، والله لا يفعل القبيح، فإذا بطل أن يكون من ظهر المعجز على يديه كاذباً ثبت أنه صادق إذ لا واسطة بينهما.
وأما احتجاج اليهود بقول موسى: (شريعتي لا تنسخ أبداً وتمسكوا بالسبت أبداً)، فإنها رواية مغمورة آحادية لاينبغي التعويل عليها فلا تقاوم الأدلة القطعية، وإن سلمنا أنها صحيحة قطعية، فإنه يصح نسخ ما قيِّد بالتأبيد وقد نسخها ً بقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158] وغير ذلك من الآيات الظاهرة، وإذا تظاهرت الأدلة على نبوته ً (ثبت بهذه الجملة أن محمداً نبي صادق).

(باب الوعد والوعيد)
حقيقة الوعد: الخبر عن إيصال نفع أو دفع ضرر إلى الغير في مستقبل الزمان من المُخْبِر إلى المُخْبَر.
فقولنا: الخبر جنس الحد القريب، وقولنا: عن إيصال نفع، أو دفع ضرر فصل له عن عكس ذلك، فإنه وعيد وعما ليس كذلك من الأخبار، وقولنا: في المستقبل يفصله عن الأخبار في إيصال نفع أو دفع ضرر في الماضي فليس بوعد، وقولنا: من المخبر إلى المخبر يفصله عن البشارة وهي الإخبار بإيصال ذلك من غير المخبر.
والوعيد: هو الخبر عن إيصال ضرر أو تفويت نفع...إلخ الحد المتقدم، والاحترازات فيه تُعرف مما ذكر آنفاً.
ثم اعلم: أنه لا يجوز خلف الوعد على الله تعالى للمثابين؛ لأن ذلك أخو الكذب، وهو يتعالى عنه؛ لأنه لا يفعل القبيح، خلافاً للمجبرة، ويحسن منه العفو عن التائب لارتداعه اتفاقاً ولا يحسن العفو عن العاصي غير التائب وفاقاً للبلخي وابن المعتمر وخلافاً للبصرية. قلنا: يصير كالإغراء وهو قبيح عقلاً.
وكذا لا يجوز إخلاف الوعيد من الله تعالى للمعاقبين؛ لأنه كذب والكذب قبيح. وقد حقق فيما سيذكر من المسائل.
(المسألة الحادية والعشرون:أنه يجب على المكلف أن يعلم أن من وعده الله بالجنة من المؤمنين فإنه إذا مات تائباً غير مصر على شيء من الكبائر فإنه صائر إلى الجنة ومخلد فيها دائماً)
ولا خلاف في ذلك إلا رواية عن جهم والبطيحي فإنهما نفيا معنى الدوام وهذا بالنظر إلى السمع.

9 / 16
ع
En
A+
A-